السبت، 15 فبراير 2025

الفصل السابع والعشرون

 

لم تشعر ولاء بنفسها وهي تجمع بعض أغراضها وتضعها في حقيبة سفر، أخذت بعض الأشياء وتركت أخرى، لا تعرف ماذا أخذت، ولا ماذا تركت ولماذا تفعل ذلك، كل ما كانت تعلمه أنها يجب أن تبتعد عن حياة فارس لأنه يستحق من هي أفضل منها، وهي لا توفر له غير الحزن والاكتئاب والتعاسة، وأنها يجب أن تستجيب لنداء طفلها لها وأن تذهب إليه لتؤنس وحدته وتعطي له الأمان الذي افتقدت شعورها به منذ توفى أحمد، خرجت وهي تنوي ألا تعود، وهي تنوي أن تموت ولكن لا تعرف كيف تفعل ذلك؟ لم تعرف ماذا ستفعل؟ ولا أين ستذهب؟ ولكنها قررت أن تخرج بلا عودة، قررت أن تموت.

مشت ولاء وسط السيارات، وسمعت السِّباب وهي تعبر الطريق، لم تنتظر السيارات أن تقف لها لتعبر الطريق، بل عبرت وسط تلك الوحوش الضارية المسرعة، تتمنى أن يدهسها أحد هذه الإطارات، ولكن الموت لا يوجد حيث نريد، عبرت الطريق وسمعت السِّباب ولكنها مازالت على قيد الحياة، مازالت تتنفس ولم تمت، لم تعرف ماذا تفعل؟ ولكنها دون أن تدري فتحت حقيبة يدها وأخرجت هاتفها المحمول وهي تبكي وجدت رقم الطبيب النفسي المعالج لها، اتصلت به، رد عليها وسمع بكاءها..

الطبيب: السلام عليكم.

ولاء وهي تبكي: وعليكم السلام، دكتور أنا مدام ولاء، حضرتك فاكرني؟

الطبيب: أيوه فاكرك، في إيه بالظبط؟

ولاء وهي تبكي ولا تستطيع تجميع الجمل: أنا مخنوقة عايزة أموت ومش عارفة، مش عارفة أعمل إيه أو أروح فين، عايزة أموت بس خايفة ومش قادرة آخد القرار، ودخلت ولاء في حالة بكاء هيستيري.

الطبيب: مدام ولاء لو سمحتي حاولي تهدي شوية، حضرتك فين دلوقتي؟

ولاء بأنفاس متهدجة من البكاء: في التحرير، في ميدان عبد المنعم رياض.

الطبيب: خليكِ في مكانك فيه سيارة إسعاف هتيجي لحضرتك في مكانك، هتوصلك المستشفى عندي

امتثلت ولاء لأوامر الطبيب ولا تعرف لماذا؟ ولكنها انتظرت السيارة التي وصلت إليها في أقل من نصف ساعة لتذهب بها إلى المستشفى، وفي تلك الأثناء اتصل الطبيب بفارس ليخبره بمكالمة ولاء وحجزها في المستشفى، هرع فارس إلى المستشفى وقابل الطبيب.

فارس وهو متوتر: خير مالها ولاء؟ إيه اللي حصل؟

الطبيب: ولاء كويسة الحمد لله، بس كلمتني وكانت في حالة هيستيرية، كانت عايزة تنتحر.

فارس وهو ذاهل مما يسمع وقلق على زوجته: تنتحر؟ ولاء؟ ازاي دي مؤمنة وعارفة إنها لو انتحرت في عذاب وعقاب، وقبل كل ده ليه تفكر كده وانهار فارس تمامًا.

الطبيب: أستاذ فارس، زوجة حضرتك بتعاني من حالة اكتئاب شديدة، واحنا عارفين ده كويس بقالها أكتر من سنة بتتعالج من الاكتئاب بس للأسف هي وصلت لمرحلة من الاكتئاب خلت عندها رغبة في الموت وبتدفعها للانتحار.

فارس وهو قلق: طب ممكن أشوفها واطمن عليها؟

الطبيب: للأسف في الوقت الحالي ممنوع عنها الزيارة تمامًا والمكالمات لغاية لما حالتها تستقر، وتقدر حضرتك تستلم حاجتها من أمانات المستشفى، وأنا هتصل بحضرتك بعد ما أقعد معاها شوية عشان محتاج منك شوية تفاصيل ومعلومات.

فارس: أمر حضرتك يا دكتور، بس يا ريت أعرف ولاء محتاجة إيه خلال إقامتها في المستشفى عشان أجهزه وأجيبه.

الطبيب: متقلقش هتصل بحضرتك وأقولَّك على كل حاجة.

امتثل فارس لتعليمات الطبيب، لأول مرة يدخل منزله دون أن تكون ولاء به، لأول مرة يشعر أن المنزل لا روح له، يجده باردًا لا حياة فيه، لأول مرة يجد الفراش أشواكًا تجرحه، وعلى الفراش وجد رسالة ولاء،  بعد قراءته لرسالة ولاء، شعر بالذنب تجاهها، كيف لم يستطع أن يوفر لها الأمان الذي تحتاج إليه، ماذا فعل لتشعر هي أنها عبء عليه، راجع ما كان بينهما من حياة، طوال ما يزيد عن الخمس سنوات  -هي عمر زواجهما- بذل أقصى جهده ليشعرها بالحب والأمان، كيف لم يستطع أن يشعرها أنها حياته، وأنها سر وجوده، أسئلة كثيرة دارت في خلده، يؤنب نفسه على حالة ولاء التي وصلت إليها، وظل يصلي ليله ويدعو لها بالشفاء ويستغفر الله من تقصيره في حقها.

في صباح اليوم التالي، ذهب فارس للعمل وقدم لأجازة مرضية لزوجته بناء على التقرير الطبي الذي كتبه الطبيب المعالج لها، لم يعرف أي من زملائهما في العمل سبب الإجازة ولكن تكهنات البعض أسفرت أن ولاء حامل لذلك طلبت الأجازة، أما فارس لم يجب بالنفي أو الإيجاب عن أيٍّ من هذه التكهنات وتركهم في تكهناتهم وذهب إلى المستشفى ليطمئن على حال ولاء حبيبته.

لم ينتظر فارس أن يتصل به الطبيب كما طلب منه بالأمس، بل ذهب إلى المستشفى مباشرةً ليطمئن من الطبيب على حالة ولاء، ويحاول أن يراها، قابل الطبيب الذي طمأنه على حالتها، وطلب منه الطبيب الصبر على زيارة ولاء، لم يستطع فارس سوى الامتثال لأوامر الطبيب خوفًا على حياة حبيبته، وطلب من الطبيب طمأنته على ولاء باستمرار.

بعد ذهاب فارس إلى المستشفى، كان هناك هم آخر ينتظره، كيف سيبرر غياب ولاء لوالدته وإخوته، لقد قال له الطبيب إنها ستظل لمدة طويلة بالمستشفى لن تقل عن الشهر، فماذا سيقول ليعلل غيابها تلك الفترة الطويلة، خاصة وهو يعلم عدم حب والدته وأختيه لولاء؛ لذا وحفاظًا على سر علاج ولاء اتصل بوالدته وأخواته وأخبرهن أنه سيسافر مع ولاء في أجازة للأسكندرية، وأنه سيطيل البقاء هناك ولا يعلم متى سيعود تحديدًا، كان ذلك هو الحل الوحيد أمام فارس لتبرير غياب ولاء وغيابه هو الآخر.

عندما وصلت ولاء للمستشفى كانت في حالة من البكاء الهيستيري، لم تستطع أن تكمل كلمة واحدة دون أن تقطعها نوبة من البكاء الشديد، لذا أعطاها الطبيب حقنة مهدئة وطلب من التمريض فحصها كل فترة، والتأكد من عدم وجود أي شيء يمكنها أن تنتحر به.

ظلت ولاء في حالة البكاء الهيستيري لمدة أسبوع كامل، كلما نامت تستيقظ وهي تصرخ بشدة ترعب التمريض في الخارج، تضطرهم للاتصال بالطبيب ليكتب لها مهدئًا جديدًا لتنام، ولا تكاد تكمل الساعة حتى تستيقظ صارخة مرة أخرى.

استدعى الطبيب فارس ليعرف منه بعض المعلومات عن ولاء، وبالفعل وصل فارس في الموعد المحدد وجلس مع الطبيب المعالج لها.

الطبيب: أستاذ فارس، هو حضرتك قلتلي اتجوزت من إمتى بالتحديد؟

فارس: من حوالي خمس سنين.

الطبيب: كانت ولاء فيهم طبيعية قبل ما تبدأ تتعالج بعد وفاة ابنكم؟

فارس: مش فاهم طبيعية ازاي يعني؟

الطبيب: هل كانت بتصحى من النوم تصرخ، بتشوف حاجات مش موجودة، يعني حاجات زي كده.

فارس: من يوم ما اتجوزنا وهي يدوب تنام وبعد أقل من ساعة تصحى تصرخ، أديها تشرب وتقرأ قرآن ويا دوب تنام تصحى تصرخ تاني، لكن هلاوس معتقدش، غير بعد وفاة ابننا أحمد.

الطبيب: طيب وعدد مرات الصراخ في اليوم الواحد بعد وفاته زادت عن بداية الجواز؟

فارس: زادت جدًا.

الطبيب: هو حضرتك كنت قلتلي إن أحمد مات قضاء وقدر صح كده؟

فارس: فعلًا احنا صحينا الصبح لقيناه توفى، والدكتور قال قضاء وقدر، بس من ساعتها وولاء حاسة إنها سبب موته لأنها نامت وسابته في السرير مش في حضنها وتعبت أقول لها إنه قضاء الله، بس من بعد وفاته وهي في حالة غريبة؟

الطبيب: ازاي؟

فارس: على طول باصة للهوا، بتنسى كتير لدرجة إنها ساعات بتنسى إننا اتجوزنا.

الطبيب: فترات النسيان بتمر بسرعة ولا بتطول مدتها وبتفتكر ازاي؟

فارس: بتمر بسرعة جدًا يعني أقل من دقيقة وتفتكر وتعتذر إنها نسيت.

الطبيب: وهي باصة للهوا هل بتحس إنها بتتكلم أو بتهمس؟

فارس: ساعات، ولما بسألها بتقولي إنها بتفكر تعمل إيه في الشغل أو البيت ومتطلباته، بس ساعات بسمعها بتكلم أحمد وتقوله متخافش أنا جاية وساعات بتكلم ناس تانية بس مش بسمع الإسم.

الطبيب: تمام كده، طيب ما تعرفش إيه الكابوس اللي ملازمها، يعني محكتش عنه أي حاجة ليك؟

فارس: أبدًا، حاولت كتير أعرف منها بس هي مكانتش بترضى تحكي وانا مش بحب أضغط عليها.

الطبيب: تمام كده، عمومًا احنا كده إن شاء الله قربنا نوصل لأساس المشكلة، مدام ولاء حالتها لسه مش مستقرة عندها هيستريا بكاء مش قادر أعرف منها أي حاجة، عمومًا احنا كده عرفنا شوية معلومات نقدر نتعامل من خلالها، فين والدها أو والدتها محتاج أتكلم معاهم.

فارس: ولاء يتيمة والدها ووالدتها اتوفوا في حادثة سيارة وهي الناجية الوحيدة.

الطبيب: طب ومين اللي رباها؟

فارس: اتربت في دار أيتام لغاية لما تمت 18 سنة وبعدها سابت الملجأ وكملت الجامعة بعد لما خرجت من الملجأ.

الطبيب: شكرًا أستاذ فارس، وإن شاء الله نسمحلك بزيارتها قريب.

غادر فارس المستشفى، مر عليه أسبوع كامل لم ير فيه ولاء ولم يتحدث إليها، شعور مرير بالوحدة جعله يتذكر حياته الماضية مع ولاء، تذكر كيف رآها في الإدارة التي يعمل بها صديقه علي، كيف دخلت قلبه منذ اللحظات الأولى منذ وقعت عيناه عليها، أحبها حبًا شديدًا لم يدر له سببًا، سأل عنها واستغرب أن لا أحد يعرف أي شيء عنها وأُعجب بأخلاقها، لم تكن كثيرة الكلام ولم تُكون صداقات في العمل، إلا أن فارس عزا ذلك لأنها حديثة التعيين في المصلحة، وتذكر كيف تزوجها ورد فعل والدته.

فارس: ست الكل عايز أتكلم معاكِ شوية، فاضية؟

والدة فارس: شكلك فرحان ومبسوط، خير يا ابني إحساسي بيقولي إن فيه خبر حلو.

فارس: فعلًا يا أم فارس، أنا عايز اتجوز.

والدة فارس وهي لا تصدق ما سمعته للتو: يا ألف نهار أبيض يا ابني، شكلك اخترتها كمان، هي مين؟ وعندها كام سنة؟ وعرفتها منين؟

فارس: صبرك شوية عليا شوية يا أم فارس.

والدة فارس: أنا الدنيا مش سايعاني من الفرحة قوللي بقى.

فارس: هي زميلتي في الشغل، وأصغر مني ب 3 سنين.

والدة فارس: حلوة يا واد وألا تكون وحشة؟

فارس: زي القمر ومحجبة وملتزمة زي هويدا تمام.

والدة فارس: كلمتها طيب، واتفقت معاها نخطبها إمتى؟

فارس: هي موافقة، بس فيه حاجة.

والدة فارس: لو على الفلوس متشيلش هم كله يتدبر ولو على الشقة إنت كده كده شاري شقتك في السيدة زينب الشبكة والمهر سيبهم عليا لو مش عامل حسابك.

فارس: المشكلة في حاجة تانية غير الفلوس.

والدة فارس: قول يا ابني قلقتني، هي مطلقة أو متجوزة قبل كده؟

فارس: لا يا أم فارس، هي يتيمة والدها ووالدتها متوفيين.

والدة فارس: يا عيني يا بنتي، طيب هنطلبها من مين؟

فارس: من نفسها يا حاجة.

والدة فارس: نعم يا عين أمك؟

فارس: هي مقطوعة من شجرة.

والدة فارس: أُمَّال مين اللي رباها؟

فارس: دار أيتام.

لم يكد يكمل فارس جملته الأخيرة حتى انتفضت والدته من مكانها وكأن ثعبانًا قد لدغها لتوه، وولولت وصرخت: يعني من كل البنات اللي بيتمنوا التراب اللي بتمشي عليه متعجبكش غير تربية الشوارع اللي لا ليها أهل ولا أصل ولا فصل، دي اللي اخترتها يا ابني.

فارس: أنا اخترت خلاص وهتجوزها يعني هتجوزها.

والدة فارس: وأنا مش موافقة.

فارس: مفيش مشكلة برضه هتجوزها.

والدة فارس: لا وربنا دي عملالك عمل ولا تكونش غلطت معاها وعايز تصلح غلطتك ما هي تورطك وتتجوزها هي تطول واحد زيك؟!

فارس بعصبية: كفاية غلط فيها أنا قررت إني هتجوزها خلاص سواء وافقتي أو لا، مش مسئوليتها إن أهلها ماتوا.

والدة فارس: ماتوا وألا هي ما لهاش أهل أصلًا.

فارس: ماتوا.

والدة فارس: طب لو وافقتك وقلت ماشي هتقول إيه للمعازيم لما يسألوا عن أهل مراتك؟

فارس: مفيش فرح ولا معازيم هنعمل كتب كتاب في المسجد ونسهر أنا وهي في أي مكان وأروح على بيتي.

والدة فارس: كمان مش هفرح بابني الوحيد عريس، وربنا ما يحصل.

فارس: كتب الكتاب هيبقى أول خميس بعد ما أفرش الشقة.

والدة فارس: يا عيني عليا، وقال إيه مستنية افرح بابني واشوفه عريس في الكوشة أخرتها كتب كتاب ويروح كإنه عامل عملة ويتجوز ده أهل الحي هياكلوا وشي منك لله يا شيخ.

فارس: خلصت يا أم فارس، هتقفي تفرشي معايا وألا لأ؟

والدة فارس: لا يا فارس خلي بسلامتها تبقى تفرش الشقة، مليش فيه مش إنت مصر عليها اشربها بقى.

فارس: حاضر يا أمي هشربها بس خليكي فاكرة إنها من اللحظة دي خطيبتي هنزل اشتري الشبكة وألبسها لها الخميس الجاي عرفي أخواتي.

والدة فارس: والله ما يحصل الشبكة يوم كتب الكتاب وإن كان عاجبكم إنتم الاتنين.

فارس: هي كده حاضر، يبقى أنا هكلم البنات ينزلوا معانا في شرا الشبكة يوم الخميس ومفيش فصال وتلبس الشبكة يوم كتب الكتاب، بس هي من اللحظة بقت خطيبتي ومسمعش عنها كلمة وحشة ولا حد يتكلم عنها بسوء أو يكشر في وشها وإلا كلكم عارفين فارس ودماغه لما تركب شمال.

والدة فارس: حاضر يا فارس، هي عملت فيك كده ويا دوب كلام أُمَّال بعد الجواز هتعمل فينا إيه؟

تركها فارس ولم يعول على كلامها وبالفعل تم ما أراده لقد تزوجها رغمًا عن إرادة والدته، لقد رفضتها والدته لأنها "تربية شوارع"، لم تعترف والدته بأن ولاء لا ذنب لها في وفاة والديها وتربيتها في دار للأيتام.

كما تذكر أيضًا كيف تورد وجه ولاء عندما صارحها برغبته في الزواج منها وحبه لها، وتغيرها المفاجىء من الفرحة الخجلة إلى الحزن الذي أطل من عينيها، خجلها وخوفها من ردة فعله عندما يعرف أنها تربت في دار للأيتام، وأن والديها توفيا جراء حادث سيارة.

تذكر كيف فرحت عندما طمأنها أنه يحبها ويحب أخلاقها، وكيف واجه والدته وأختيه وكيف أقنعهن بولاء، كان يعلم أن والدته وأختيه وافقن شفهيًا على زواجه من ولاء ولكنهن منذ تزوج وهن لم يكففن يومًا عن مضايقة ولاء في غير وجوده، وتذكر كيف كانت ولاء تتحمل منهن إساءتهن المتكررة ولا تتذمر ولا تشتكي إليه حرصًا على عدم إغضابه بكثرة شكواها من أسرته.

كان حبها يزداد في قلبه مع كل موقف وكل كلمة، جعلته ولاء يشعر أنه كل حياتها، وأنه أفضل ما حدث لها في حياتها، كانت تشعره بأنه زوجها وحبيبها ووالدها وأخوها وكل ما لها في هذه الدنيا، دائمًا كانت تكرر على مسامعه أنه هدية رب العالمين لها، كانت تصرفاتها دائما تقول له أنت محور حياتي بل أنت حياتي كلها، لا أشعر بالأمان إلا وأنت جواري.

أعاد فارس في ذاكرته أحد المواقف التي شهدها بنفسه تحدث بين والدته وولاء، ومنها ذلك الذي يتذكره جيدًا والذي كان منحنى خطير في علاقته مع والدته.

تذكر ذلك اليوم عندما وصل مبكرًا من عمله وكانت ولاء في أجازة من عملها لمبيت والدته عنده فهو يعرف أن والدته دائمًا ما تدعي أنها لا تستريح في الإقامة لدى شقيقاته لتبيت لديه، لكنه كان يعرف السبب؛ فوالدته شعرت أن ولاء سرقت منها ولدها وجعلته يخيرها بين زواجه برضاها أو زواجه بدون موافقتها ومباركتها، حبًا في ولدها وافقت ظاهريًا ولكنها كانت تتحين الفرص لإهانة ولاء ومضايقتها عاد في ذلك اليوم مبكرًا ليُفاجىء والدته وزوجته بدعوته لهما للغداء خارج المنزل وكان عمر زواجه آنذاك عامًا واحدًا فتح الباب وسمع صراخ والدته في ولاء جاء الصوت من المطبخ.

والدة فارس: إنتِ يا شملولة لسه ما خلصتيش الغدا، جوزك زمانه جاي، ولا إنتِ يهمك في إيه ما هو سايبك على مزاجك.

ولاء: يا طنط الأكل خلاص بيستوي، وبعدين مش حضرتك اللي أصريتي إني أنفض الشقة كلها النهاردة وامسحها وبعدين اطبخ.

والدة فارس: قصدك إيه يعني؟ مشغلاكِ في الفاعل، هو ده مش بيتك برضه وواجب عليكِ تنضفيه وتطبخي لجوزك عشان ييجي يلاقي لقمة ياكلها، واحدة زيك المفروض تعيش خدامة لجوزها مش كفاية إنه رضي بيكِ ولمك من الشوارع وعمل لك قيمة؟

جاء صوت بكاء مكتوم من المطبخ وهي تقول لوالدته: عندك حق يا طنط.

والدة فارس: أيوه أيوه اعمليهم عليا فاكراني هصدق دموع التماسيح دي!!

ولاء وهي تبكي: شكرا يا طنط..

والدة فارس وقد علا صوتها بما يكفي ليسمع سكان القاهرة جميعهم: فكرك دموعك دي تخيل عليا يا تربية الشوارع يا خطافة الرجالة، والله لا أجوزه ست ستك اللي تجيبلي أحفاد تكون أمهم حاجة تشرف مش أرض بور زيك يا عرة الحريم، وأخليكِ عندها خدامة، عيطي عيطي ما إنتِ أصلك ما عندكيش كرامة واحدة غيرك كان زمانها طلبت الطلاق من بدري، لكن هتجيبي الكرامة منين؟! إنتِ اتحدفتي علينا من أنهي داهية؟!

هنا لم يتحمل فارس أن يسمع المزيد، لم يكن فارس يتوقع أن تقول والدته ذلك الكلام الجارح والمهين لزوجته وتعيرها به، نزل كلام والدته عليه كالصاعقة، كيف تستطيع أن تكلم ولاء بهذه الطريقة؟ وكيف تصمت ولاء على ذلك ولا تقول له؟

دخل جريًا للمطبخ فوجد الدموع تنحدر على وجه ولاء شلالات وأنهارًا وهي تشكرها كبرت ولاء في عينه بعد ذلك الموقف؛ ثار على والدته.

فارس: بقى كده يا أم فارس، هي دي اللي قلت لك كرامتها من كرامتي، لا هي عندها كرامة ومتربية، عارفة ليه عشان لو مش متربية كانت ردت عليكِ الرد اللي يستحقه كلامك ده، لو سمحتي حضري هدومك عشان أروحك على بيتك، البيت ده مينفعش تقعدي فيه طالما غلطي ف صاحبته.

انهارت والدة فارس من كلام ولدها وبكت: بقى كده يا ابني بتطردني من بيتك عشان واحدة زي دي لا ليها أهل ولا أصل.

فارس: كفاية لحد كده، انتهى الكلام، لو مكنتش سمعت بنفسي كلامك ما كنتش صدقت.

ثم وجه كلامه لولاء التي صعقت مما حدث: وإنتِ ازاي تكلمك كده وما تقوليش؟!

ولاء وهي مازالت تبكي: أقول إيه؟ يعني ابقى سبب في مشكلة ليك مع أهلك؟

والدة فارس: اعمليهم عليه ما هيصدق.

فارس موجهًا كلامه لوالدته: ما اسمعش كلمة تاني وإلا وربي ما ادخلك بيت تاني.

وأخذ فارس والدته وأوصلها لمنزلها بعد أن منعها من المبيت في بيته لمدة تقارب السنة، وهددها إذا ما كررت هذا الكلام مرة أخرى أنه لن يدخل لها بيتًا جعلته هذه الذكريات يتنهد طويلًا ويقول "آه يا ولاء، يا منية القلب، ماذا بكِ؟ وما أوصلك لتلك المرحلة، أوحشتني كثيرًا".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...