رغم مرور أُسبوع كامل على وجود ولاء في المستشفى، لم
تتكلم كلمة واحدة لأي طبيب، إما تبكي أو تصرخ جراء كابوس أو تتكلم بصوت خفيض لا
تتبين منه ما تقول، فشلت جهود الأطباء في حثها على الكلام، كما فشلت المهدئات في
تهدئة الحالة الهيستيرية لها، اضطر الأطباء طوال ذلك الأسبوع إلى استخدام المهدئات
والمنوم حتى تستقر الحالة، وبالفعل بدأت
الحالة في الاستقرار ولكنها لا تزال ترفض الكلام بصوت مسموع لم يعرف طبيبها
تحديدًا إن كان رفضها الكلام بإرادتها أم رغمًا عنها؛ لذا طلب منها أن تكتب إذا
كانت غير قادرة على الكلام.
استجابت ولاء لفكرة الكتابة وأول ما كتبته "مش
عايزة اتكلم أنا عايزة فارس" .
الطبيب: حاضر يا ولاء فارس هسمحله بالزيارة، بس أنا عايز
أعرف مالك؟ إيه اللي حصل وصلك لحالة الانهيار دي؟
كتبت ولاء: مش عارفة، أنا مخنوقة ومش عايزة أعيش، اللي
زيي مينفعش تعيش، عايزة أموت عايزة أموت وانهارت باكية.
الطبيب: الموت والحياة مش بإيدينا دي أقدار ربنا كتبها،
ومفيش حاجة تستاهل نخسر أخرتنا عشانها.
كتبت ودموعها تبلل الورق: حماتي صح، أنا عالة على المجتمع
جيت غلط، حتى ابني معرفتش آخد بالي منه، أنا اللي قتلته.
الطبيب: ولاء اهدي إنتِ مش مسئولة عن موت أحمد، ده قدر
ربنا وقضاؤه، وبعدين إنتِ كنتِ قائمة بمسئولياتك على أكمل وجه، ده كلام أستاذ فارس، أما حماتك فانتِ عارفة إنها مش
بتحبك وعايزة تخلص منك، يبقى ليه تسمحي لكلامها إنه يهزمك ويوصلك للمرحلة دي؟
كتبت: فارس دايمًا شايفني مثالية في كل حاجة، بس أنا مش
كده، فارس يستحق واحدة أحسن مني مليون مرة، مش
واحدة تربية ملاجىء.
الطبيب: ولاء فيه إيه مش عايزة تقوليه؟ وإنتِ مش عايزة
تتكلمي وألا مش قادرة؟
لم تُجب ولاء على سؤاله ولكنها انهارت في البكاء مرة
أخرى، طلب الطبيب من الممرضة إعطاء ولاء حقنة مهدئة، وعدل في الأدوية المعطاة لها،
كما طلب من التمريض إعطاء ولاء أوراقًا وأقلامًا لتكتب فيها ما يجول بخاطرها أيًا
كان للوصول لسبب الحالة التي تمر بها حتى يستطيع تشخيص مرضها وسبب حالة الاكتئاب
والميول الانتحارية التي تمر بها.
وفرت الممرضة لولاء أوراقًا وأقلامًا بجانب فراشها، وكانت
تسمع ولاء تُكلم أشخاص ولكنها لم تسمع تحديدًا ما تقوله ولاء، ولكنها فهمت مما
تسمعه أنها تحدث ولدها، كانت تلاحظ كلام ولاء وتصرفاتها دون أن تشعر ولاء بذلك.
عادت ولاء بالذاكرة لأيام حياتها في الملجأ، تذكرت الحياة
هناك، كما تذكرت المدرسة الابتدائية وأبلة سلوى الأخصائية الإجتماعية بالمدرسة،
كانت أبلة سلوى أقرب المدرسين لقلب ولاء، عندما وجدت نفسها تتذكر أيامها السابقة
أمسكت بالأوراق لتسطر بها كل ما تتذكره، لا تعلم لماذا تكتب ولكنها شعرت بالرغبة
في كتابة حياتها السابقة لتتحول إلى سطور تقرؤها لتعينها على فهم ما مضى وكتابة
سطور جديدة لمستقبلها، ولكنها أخفت هذه الأوراق عن الطبيب المعالج لها وعن فارس
أيضًا.
من أوراق ولاء..
أتذكر ذلك اليوم جيدًا، إنه أول أيام الدراسة وذهابي
للمدرسة، ذهبت مع بعض الأطفال معي من الملجأ، وداخلنا خوف كبير وعلامات استفهام
أكبر لأول مرة نغادر الملجأ، طلبت منا مشرفة الملجأ الذهاب للأخصائية الاجتماعية
بالمدرسة وعدم الاختلاط بالأطفال الآخرين، وبالفعل سألنا عن الأخصائية الاجتماعية
عندما وصلنا المدرسة، وتعرفنا عليها وبدأت في إعطائنا بعض المعلومات عن المدرسة
والدراسة وسلمتنا الزي الدراسي الخاص بالمدرسة، كما سلمتنا الكتب الدراسية.
كانت أبلة سلوى
-كما اعتدت أن أناديها- أطيب من قابلت، أذكر حين سألتها عن سبب طلب المشرفة
منا عدم الاختلاط بالأطفال الآخرين ردت عليَّ ردًا مختصرًا لم أفهمه حينها
"لأنكم مختلفون، والبشر تخاف الاختلاف، ولأنكم ضعفاء والبشر يبحثون عن الأضعف
ليقهروه، نخاف عليكم من خوفهم منكم ورغبتهم في قهركم." كان رد أبلة سلوى
غريب؛ فكيف نكون مصدرًا للخوف ويقع علينا القهر؟
كنا نحن الثلاثة أنا وإيمان وداوود من التحق بهذه المدرسة
من الملجأ، كما كنا معًا في ذات الفصل، إيمان هي صديقتي من الدار منذ فتحت عيني
على الدنيا كانت معي، أكبرها بشهرين، جميلة هي بيضاء صهباء، ذات عيون عسلية وأهداب
طويلة، أحب أن أنظر لعينها، كانت معي في نفس العنبر تنام على الفراش الذي يقع على
يميني، إلا أن إيمان لا تعرف لها أهلًا لأنها كما يذكر المحضر الذي حُولت به
للملجأ، وُجدت تحت إطار إحدى السيارات، أما داوود فهو أرق طفل يمكنك أن تراه في
حياتك، ظل معنا في الدار حتى أنهينا المرحلة الابتدائية ثم ذهب إلى دار أخرى، كما
فعلنا نحن أيضًا، ذهبنا لدار للإناث فقط وهو ذهب لدار للذكور فقط، أسمر البشرة،
كانت له ضحكة لا تموت -ولكنها ماتت في أول شهور الدراسة- جعد الشعر أسوده، هادىء الطباع.
في بداية اليوم الدراسي دخلنا الفصل لنبدا أولى خطواتنا
في الحياة خارج الملجأ، في الملجأ كنا نعرف أننا أيتام ولكن لم يكن أحد يعيِّرنا
بذلك، ولكن في المدرسة دخل المدرس وفي بداية الحصة سأل عن أسمائنا وعمل الأب،
وعندما جاء الدور علينا لم نعرف ماذا نقول، نظرت لإيمان وداوود كما نظرا هما إليَّ
وأمسكت إيمان يدي، وكأننا اتفقنا على الرد،
-اسمي إيمان، يتيمة وما أعرفش أي حاجة عن أهلي.
-اسمي ولاء، يتيمة والدي ووالدتي اتوفوا في حادث سيارة.
-اسمي داوود، يتيم والدي الله يرحمه كان محاسب.
نظر لنا المدرس بتهكم وقال "هو أنتم اللي جايين من
الملجأ؟" وكان ردنا عليه بالإيجاب.
لم نفهم في ذلك الوقت أن إجابتنا هذه ستكون بداية الوبال
علينا، فهذا المدرس، ومثله كثيرون، لم يفهم أن كل واحد منا له حكاية وراء دخوله
الدار، وأننا لسنا كلنا لقطاء ولا ذنب لنا فيما حدث من آبائنا أو حدث لهم، فحكايتي
كما سطرتها وكذلك إيمان أما داوود دخل الدار منذ أقل من سنة بعد وفاة والديه في
انهيار عقار وأودعه عمه دار الأيتام لعدم قدرته على تربيته والإنفاق عليه، إننا لم
نفهم أن هذا السؤال كان يحمل الاستهزاء بنا، وبداية قهرنا من مجتمع لا يرحم من كان
ضعيفًا.
كان اسم هذا المدرس أ/نبيل، ولكنه لم يكن نبيلًا قط، كان
يدرسنا في الصف الأول الابتدائي، جعل منا نحن الثلاثة أضحوكة بين التلاميذ، كان
يتعمد إذلالنا وإهانتنا أمام زملائنا، كان يختارنا نحن بالذات للأسئلة التي يعجز
الطلبة عن حلها، في البداية كنا نخجل لأننا لا نعرف الحل ولكننا اعتدنا ذلك بعد
فترة، كان يبدأ في النقد والتهكم علينا، ثم يلعن التعليم المجاني الذي يأتي
باللقطاء للتعليم.
بعد أول أسبوع من الدراسة ابتعد عنا الطلبة، وبدأنا نرى
الاحتقار في نظراتهم، ولم نعرف سبب ذلك، فسألنا أحد الطلبة عن سبب ابتعادهم وقال
لنا "أستاذ نبيل قال لماما إنكم من الملجأ وإنها لازم تخاف عليا منكم"
كان رد زميلنا غريب علينا ولم نفهمه آنذاك، وكان ما فهمناه فقط وقتها أننا لن نجد
من يشاركنا اللعب والضحك والمذاكرة ولكننا لم نفهم حينها معنى أن تكون لقيطًا، لم
نفهم معنى أن تكون وحدك تواجه هذه الحياة بلا عون أو سند، ابتعد عنا الجميع، لقد
خاف منا أهالي باقي الطلبة وبدأت سلسلة القهر، حيث كشر الوحش عن أنيابه، فأستاذ
نبيل لم يكن متزوجًا، وكنا بالنسبة إليه هدية جاءته على طبق من ذهب، كان يعشق
الأطفال ولكنه ينتقي منهم من لا أهل له ولا سند، وقادنا حظنا العاثر إليه.
كان دائم العقاب لنا، وكان يمعن في إذلالنا أمام باقي
الطلبة، يعاقبنا بالوقوف قرب السبورة ورفع أيدينا طوال اليوم، وكان هو يشرح الدروس
ويكتب على السبورة ويضربنا، في أول يوم لتذنيبي على السبورة بدا مرحلة الضرب
والتوبيخ، وعندما رن جرس "الفسحة" شرعت بإنزال يدي والخروج، إلا أنني
فوجئت بعصاه تنهال عليَّ وطلب مني العودة كما كنت، ضحك الأطفال عليَّ كثيرًا
وخرجوا للعب، خرج داوود
وإيمان مجبرين بعد أن ضربهما لإجبارهما على الخروج من الفصل، أغلق أستاذ نبيل باب
الفصل، شعرت بالخوف الشديد وهو يقترب مني جريت
لآخر الفصل وأنا أبكي، خلته سيضربني ثانية، إلا أنه وبسرعة كمم فمي واقتحمني عنوة،
لتخرج صرختي مكتومة، انتهى مني وهددني إذا تكلمت، ونصحني باعتياد ذلك الفعل.
كم بكيت ذلك اليوم، كم كرهت المدرسة وكرهت كل الرجال،
تكرر الأمر في اليوم التالي مع إيمان، نظرت إليها أواسيها فيما سيحدث لها، فقد
حكيت لها هي وداوود عما فعله أستاذ نبيل بي، كم بكينا بعد ما حدث معي ومع إيمان
وداوود، وظل ذلك الوضع قائمًا لمدة شهر كامل، لم نعرف ماذا نفعل، إنه المدرس الخاص
بفصلنا، طلبت من أبلة سلوى نقلنا من فصل أستاذ نبيل، ولكن مديرة المدرسة لم توافق
على النقل وقالت لنا إن من هو في مثل ظروفنا لا يطلب شيئًا ويحمد الله على ما
يجده، وجدتني أبكي وأحكي لأبلة سلوى ما يفعله أستاذ نبيل بنا، كنت أكرهه بشدة،
أكره ما يفعله وأشعر بالاشمئزاز الشديد منه وإن لم أفهمه حينها، لم تصدقني أبلة
سلوى في بادىء الأمر؛ لذا طلبت منها أن تأتي غدا بعد انصراف الطلبة لترى بأم عينها
ما يفعله بي، وبالفعل جاءت كما قلت لها ووجدت دموعي وآلامي أمامها، لم تعرف ماذا
تقول أو ماذا تفعل؟ لأول مرة أرى الخوف في عين أستاذ نبيل، طلبت أبلة سلوى منه مقابل صمتها عما رأت الآن أن
يتقدم بطلب لنقله فورًا من المدرسة وهي ستتكفل بموافقة مديرة المدرسة على النقل.
وبالفعل تم نقل هذا المدرس من المدرسة، ولأول مرة منذ شهر
أشعر بحريتي أنا وإيمان وداوود، ولكن ما لم نستطع التخلص منه هو نظرة الطلبة لنا
على أننا مرض يجب التخلص منه والابتعاد عنه، لم يكن لنا أصدقاء سوى بعضنا البعض،
لم يكن عقاب أستاذ نبيل بالنقل خوفًا علينا ولكن رأت مديرة المدرسة التكتم على
الأمر والموافقة على نقله دون اتخاذ أية إجراءات ضده حفاظًا على سمعة المدرسة؛ حيث
إننا لقطاء ولن نستطيع الذود عن أنفسنا أو طلب حقنا ممن آذانا، واستمر بنا الحال
هكذا، دون أصدقاء ونعاني من نظرات الاحتقار لنا من زملائنا ومدرسينا، لم يقترب منا
أحد بعد ذلك، لم يمسنا أحد بعقاب بدني أو يعتدي علينا، ولكننا كنا قد كرهنا
المدرسة والمدرسين والرجال كافة، أنهينا المرحلة الابتدائية، ولكننا خرجنا من هذه
المرحلة دون ضحكة داوود ودون براءتنا نحن الثلاثة، خرجنا ونحن نكره العالم خارج
دار الأيتام ونكره المدرسة والدراسة والطلبة.
ولاء: انتي بتعيطي يا فريدة
فريدة: افتكرت اللي حصل معايا أنا وميساء نفس اللي حصل
معاكي
شذى: انتم بتقولوا ايه؟ ازاي دا يحصل ويمر من غير عقاب
فريدة: عشان ايتام مالناش حد ياخد حقنا المدرس يتنقل
ويمشي من المدرسة، لكن لو اللي حصل مع حد له أهل الدنيا تقوم ولا تقعد
ولاء: اصبري يا شذى في حكايتي ح تلاقي مفاجات كتيرة
ميار: اكتر من كده
ولاء: اكتر كتير قوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق