الأحد، 16 فبراير 2025

الفصل الثلاثون

 

ندم فارس كثيرًا على تسرعه في خروجها من المستشفى، واتصل بالطبيب المعالج لولاء، ذكره الطبيب بما قاله عندما حاول إخراج ولاء من المستشفى، لم يخبره الطبيب بتشخيص مرض ولاء تحديدا لأنه لم يتأكد منه بعد، ولكن كل ما أخبره به أن ولاء تعاني من اكتئاب شديد وميول انتحارية وعلاجها يحتاج لملاحظة طبية وعلاج لمدة 24 ساعة على مدار اليوم.

امتثل فارس تلك المرة لتعليمات الطبيب، وطلب من الطبيب الاتصال بالمستشفى لحجز مكان لولاء، وبالفعل دخلت ولاء المستشفى مرة أخرى، دون أن تعلم والدته أن ولاء دخلت مستشفى للأمراض النفسية أو سبب دخولها، لقد رفضت والدة فارس أن تجيب على اتصاله بعد أن ترك زوجته تهينها دون أن يردعها أو يعاقبها، ورغم محاولاته المستميتة أن يطيب خاطر والدته وأن يصالحها رفضت والدته كل هذه المحاولات وكان لها طلب أوحد، هو طلاق ولاء.

كان فارس يشعر أنه بين شقي الرحى، يحب ولاء ويعلم مرضها، ولكنه أيضًا يحب والدته ولا يستطيع البُعد عنها ولا يرضى لها الإهانة، كما أن ولاء ومنذ خرجت من المستشفى لم تسمح له بالاقتراب منها، كان يشعر فارس أنه وحيد، لأول مرة يشعر بالوحدة بعد زواجه، لم تعد ولاء تحكي له ما مر بها في يومها، لم تعد تحكي له عما ضايقها وما أضحكها، لم تعد تسأله عن يومه كما اعتادت، كانت دائما تجلس وحدها إما أمام اللاب الخاص بها أو تكلم الفراغ، شعر فارس أنه فقد ولاء وفقد حبها له، وبدا يفكر في الزواج بأخرى لتكون له سكنًا، لقد فقد الأمل في شفاء ولاء، خاصة بعد استسلامها للمرض والاكتئاب، ودعا الله أن يشفيها وأن تعود كسابق عهدها معه قبل وفاة ولدهما.

وفي خضم أفكاره تلك، كان يشعر بالحنين إلى ولاء؛ لذا فتح دولابها ليستنشق عبق رائحتها في ملابسها، ولكنه وجد بعض أوراق ولاء المطبوعة التي عرضتها على الطبيب في آخر زيارة، ولم تحكِ له كلمة واحدة عما تحتويه؛ لذا قرأ هذه الأوراق وبحث عن كل الأوراق في دولابها كما وجد اللاب الخاص بها، قرر أن يبدا بقراءة الأوراق، ثم يفتح اللاب ليرى ماذا تفعل وماذا تكتب عليه، بالفعل فتحه لقد كان يعرف كلمة السر الخاصة به، وعندما فتحته فتحت معه صفحة الفيس التي أنشأتها ولاء قبل دخولها المستشفى للمرة الثانية، وجد صفحة في منتهى المجون ورسائل أشد مجونًا من الصور، لم تكن ولاء ترد على أي من هذه الرسائل، ولكنها كانت تضع الصور الماجنة، شعر فارس فجأة بالدم يغلي في رأسه وعروقه بعد ما قرأه في أوراق ولاء وما وجده على جهاز اللاب الخاص بها، لقد كانت تخونه طوال الوقت، كانت تستغل عدم وجوده وانشغاله بالعمل ليستطيع تدبر نفقات علاجها، ودون أن يفكر قال "إنتِ طالق يا ولاء".

ذهب فارس للطبيب بالأوراق الخاصة بولاء التي وجدها تُخبئها في دولاب ملابسها وأطلع الطبيب على ما رآه في حسابها الذي ذكرته في تلك الأوراق ثم أخبره أنه طلق ولاء، امتص الطبيب غضب فارس وثورته، ثم أخبره أن مرض ولاء يجعلها تتصرف خلاله تصرفات متهورة ومندفعة غير مسئولة، ومع ذلك ركز الطبيب أن ولاء لم ترد على أي من الرسائل الموجودة على الصفحة وأنها ذكرت في أوراقها أنها أرادت أن تنتقم بفتح هذه الصفحة منه ومن كل الرجال، كما أن تاريخ آخر موضوع نشرته قبل دخولها المستشفى بشهر كامل، أي أنها كانت تهرب بتلك الصفحة من تسلط والدته عليها وما مرت به من أحداث، وحتى يراها هو؛ لتصل إلى هذه النتيجة وهي الطلاق!

طلب الطبيب من فارس مراجعة نفسه وإعادة التفكير فيما فعل وأن يحاول أن يجد أية ملفات مخفاة في جهاز اللاب الخاص بولاء أو أية أوراق تخصها وتخص الملجأ والمدرسة والجامعة، إلا أن ثورة فارس كانت تُعمي عينيه عن أي تفكير، ذهب لوالدته وأخبرها أنه طلق ولاء؛ لأنه لا يستطيع البعد عنها، صدقته والدته ولكنها شعرت بشعور مختلف شعرت بالفرح؛ لأن ولدها فضلها على زوجته التي تكره ارتباطه بها، ولكنها في ذات الوقت شعرت بالندم؛ لأنها تسببت في حالة الحزن التي وجدت عليها ولدها.

كانت والدة فارس تعاني من الحزن الذي تراه على وجه ولدها، إنه وحيدها وهي تحبه، إنه الولد الوحيد على ثلاث بنات، هو سندها في هذه الدنيا، ولكنها تذكرت كيف كانت ولاء تتحمل تسلطها عليها، بل إن ولاء قامت بتمريضها عندما مرضت وأجرت أكثر من جراحة عندما أخبرها الطبيب بضرورة استئصاله بعض الأجزاء من جسدها لاشتباه وجود أورام بها يشتبه في كونها أورامًا خبيثة، كانت ولاء معها في المستشفى، ثم مكثت معها في المنزل حتى أتمت شفاءها، تذكرت كيف كانت ولاء تتحمل سلاطة لسانها ولا تشتكي لفارس، لذا ذهبت إليه والدته في غرفته.

والدة فارس: فارس يا ابني عايزة أتكلم معاك.

فارس: اتفضلي يا أمي خير؟

والدة فارس: بص يا ابني أنا ضميري أنبني على إني كنت سبب في طلاق مراتك، أنا عندي بنات وأخاف يحصل كده في أخت من اخواتك البنات.

قاطعها فارس: خلاص يا أمي ما يجيش منه الكلام، أنا طلقتها واللي كان كان.

والدة فارس: يا ابني حرام البنت إن كانت غلطت فعشان أنا استفزيتها زي كل مرة، كنت عايزاها تغلط عشان أخليك تطلقها، وده اللي حصل وكان نفسي فيه كنت فاكرة إني هرتاح بس الهم والحزن اللي على وشك ما اقدرش استحمله، وبصراحة لما قلت لي طلقتها أنا فرحت بس ما اعرفش إيه اللي خلاني أشوف أخواتك مكانها؟!!

فارس: خلاص يا أمي اللي حصل حصل.

والدة فارس: لا يا ابني لو عايزني أروح لها واصالحها أروح المهم ما اشوفش الهم ده على وشك.

فارس: ولاء في المستشفى.

والدة فارس باستغراب واستنكار لفعل فارس: يا عيب الشوم يا ابني، بقى تطلق مراتك وتسيبها في المستشفى، إنتَ مش عارف إنها وحيدة في الدنيا ومقطوعة من شجرة؟!، اخس عليك، هي أي مستشفى انا لازم ازورها.

فارس بعصبية واستهجان: يا سبحان الله مش دي اللي كنتِ شايلاها على دماغك وكل شوية طلقها اتجوز عليها، دلوقتي صعبانة عليكِ وطلعت أنا الغلطان، مش إنتِ اللي قلتي لساني مش ح يخاطب لسانك طول ما هي على ذمتك، ارحموني بقى حرام عليكم.

بكت والدة فارس من انفعاله عليها، لأول مرة ينفعل فارس عليها ويعلو صوته، عندما رأى فارس دموعها أنب نفسه وقام قبل رأسها واستسمحها، سامحته ولكنها اشترطت عليه رد ولاء، كانت ثورة فارس لأنه شعر أنه بين نارين الأولى نار كرامته التي يرى أن ولاء أهدرتها، والثانية حبه لها وعدم قدرته على مسامحتها، احتضن والدته واستأذنها أن يخرج ليتنسم الهواء، وطلبت منه التفكير في رد ولاء لعصمته مرة أخرى قبل أن تتم عدتها، وسألته عن اسم المستشفى لتزورها، إلا أنه أبى أن تعرف أن ولاء مريضة نفسية.

خرج فارس من منزل والدته ولا يعرف إلى أين يذهب لذا ترك لقدميه العنان، وجد نفسه أمام عيادة الطبيب النفسي المعالج لولاء، فصعد وطلب مقابلته.

من أوراق ولاء..

أحمد ابني وحشني قوي بقاله أسبوع مش عايز ييجي ويكلمني زي ما كان بييجي قبل كده، ابني وحشني جدا لا هو جه ولا أنا عارفة أروح له، مش عارفة أعمل إيه؟، يا رب صبرني على بعده عني وسامحني على اللي أنا فيه، أنا مش عارفة أسيطر على نفسي ولا على أفكاري، يا رب أنا تعبت قوي ومش عارفة استريح.

يا رب سامحني على تقصيري في حقك، يا رب قويني على اللي أنا فيه، بفكر في الموت ألف مرة وبرجع في آخر لحظة عنه خوف منك وخوف من عذابك، ابني وحشني قوي ولما بييجي على طول بيطلب مني أروح له، وأنا مش عارفة أروح له، عارفة إن الموت والحياة بإيدك يا رب مش بإيدينا احنا، سامحني يا رب وقويني.

من أوراق أخرى..

أنا لم أعد أحتمل ما يمر بي يوميًا، منذ خروجي من المستشفى أخاف من الخروج من المنزل ومواجهة الناس، ماذا سيقولون عني عندما يعرفون أنني كنت في مستشفى للأمراض العقلية، ماذا سيكون رد فعلهم، أخاف من الناس؟؟

عندما خرجت من المنزل لأذهب للعمل لاستكمال إجراءات إجازتي المرضية واعتمادها من الكومسيون الطبي شعرت بصداع رهيب لم يتركني للحظة، كاد رأسي ينفجر من شدة الألم، لم أعرف ماذا أفعل؟ كنت أشعر أن كل رجل ينظر إلي يفكر في كيفية التحرش بي أو الاعتداء عليَّ. أراهم كلهم على شاكلة أستاذ نبيل، لا أعرف ماذا ينوون لي، كل ما أراه أنهم يفكرون في كيفية افتراسي فأنا تربية ملاجىء أي أنني رخيصة والآن أنا مريضة عقلية فأنا مستباحة من الجميع، مستباح عرضي وشرفي.

أفكر في الانتقام من كل الرجال -حتى من فارس- هو من تسبب في دخولي المستشفى في المرة الأولى، لماذا تركني وحدي؟ لماذا لم يشعر أني أموت أمامه في اليوم ألف مرة؟ لماذا قرر هو الآخر الاستسلام لموت ولدنا؟ لماذا لم يقف بجانبي؟ لماذا تركني وحدي بعد خروجي من المستشفى؟ لماذا فضل جمع المال والعمل على وجوده بجانبي؟

أسئلة كثيرة تدور في رأسي تكاد تعصف بي، لقد زهد في ولم يعد يطيق وجودي بجانبه، لذا قررت أن أنتقم منه هو الآخر، أشعر أنه يعرف أخرى ويخرج معها ويقابلها ويتركني وحدي مع والدته، أه منها هي الأخرى، لم تحبني يوما، تتحين كل فرصة كي تهزأ بي وتعيرني بأني لا أهل لي وأني تربية ملاجىء، لابد أنها تعرف أن ابنها على علاقة بأخرى لذا أرادت أن تشمت بي.

لابد من الانتقام، ولكن لا أعرف ماذا أفعل، لن أخون فارسًا فلن أُغضب الله لكي أنتقم، ولكن سأفتح حسابًا على الفيس بوك بصور مزيفة ألتقطها من على مواقع الإنترنت المختلفة وأترك الحساب مفتوحًا حتى يراه فارس في أي وقت، سيكون هذا انتقامي منه، سأخفي عنه أوراقي وعن الطبيب المعالج، لقد توقفت عن تناول دوائي منذ ما يزيد على الأسبوع، وفارس لا يدري شيئًا عن ذلك، إنه لم يهتم حتى أن يتابع هل أتناول دوائي أم لا أتناوله، رأسي يؤلمني يكاد ينفجر، أتناول العديد من المسكنات ولا أشعر بأي تحسن، يااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا رب".

من أوراق أخرى..

"عندما وصلت للمرحلة الإعدادية اختلف بنا الحال، ففي المرحلة الابتدائية كنا نجد الكثير من الزوار للدار يحضرون لنا الحلوى والأطعمة والملابس الجديدة، بعضهم كان يأتي بانتظام والبعض الآخر يأتي لنا في الجمعة الأولى من إبريل وفي الأعياد، أما في المرحلة الإعدادية والثانوية افتقدنا ذلك، كانت الزيارات تكاد تكون غير موجودة، نعاني نقصًا في الأطعمة والملابس كنا نشتهي قطعة من الشيكولاتة فلا نجد معنا ما يكفي لشرائها، كنا نشتهي الحلوى ولكن لا يوجد معنا ثمنها، في الأعياد كانت مديرة الدار تشتري لنا الحلوى، فكنا ننتظر الأعياد لنأكل الحلوى التي نحبها ولكننا افتقدنا الزيارات والأسر البديلة، مع كل سيدة تأتي للدار أتخيلها أمي وأتخيل أني في حضنها وأنها تواجه العالم أجمع لتحميني ولكني افتقدت حتى هذا الخيال، كانت إيمان تضحك من خيالاتي تلك وأمنياتي، وكانت تقول لي إننا لم نعد أطفالًا كي نحلم، علينا مواجهة الواقع المؤلم الذي يطاردنا ويعاملنا على أننا آفات يجب القضاء عليها.

أعرف أن إيمان معها كل الحق في ذلك، ولكنني كنت أحتاج للحلم لكي أستطيع تحمل الواقع المرير، ومع ارتدائي الحجاب وحفظي للقرآن الكريم كانت تهكماتها تزداد، وكانت دائمًا تقول لي: لن يهتم المجتمع الخارجي "أي خارج الملجأ" بحفظك للقرآن والأحاديث، كل ما سيهم هؤلاء هو أنك سلعة رخيصة لا ثمن لها وحق مستباح للجميع، لن تقبلك أسرةٌ زوجةً لابنهم وأنتِ تعلمين السبب، لن تصلي لشيء ولن تكوني صديقة لأحد غيرنا نحن الثلاثة، نحن عانينا نفس المشاكل وخضنا ذات التجارب لذا لن يفهمنا غيرنا.

لم تحفظ إيمان القرآن في الدروس التي كنا ندرسها في دار الأيتام، كما أنها رفضت أن تحضر معي دروس العلم في المسجد القريب من الدار، أما داوود هو من كان يشجعني على المضي قدمًا في حفظ القرآن والأحاديث وحضور دروس العلم، شجعني على الحجاب وارتداء الزي الشرعي، وكنت أشعر بغيرة إيمان مني على داوود، وكانت تتعمد إثارة غضبه واستفزازه، كنت أعلم أنها تحبه وأنه يحبها، لقد اعترف لي من قبل بحبه لإيمان ولكنه يخشى مصارحة أهله بحبه لها ورغبته في الزواج منها، ويخشى من تصرفاتها المتهورة المندفعة.

دخلت إيمان مدرسة ثانوي تجاري ولم تكمل بعدها دراسة، وبدأت البحث عن عمل بعد إنهاء المرحلة الثانوية والخروج من الدار نهائيًا ومواجهة أهوال الحياة، أما داوود ففعل كما فعلت، التحقنا بمدارس للثانوي العام وبحثنا بعدها عن عمل يساعدنا في تحمل نفقات الحياة والجامعة بعد أن تركنا الدار لبلوغنا سن ثمانية عشر عامًا، رغم عدم تحملنا مصروفات دراسية نظرًا لكوننا أيتامًا إلا أن طلبات أساتذة الجامعة والكتب لم تكن ضمن الإعفاء؛ لذا كان لابد لنا من عمل، عمل داوود في توصيل الطلبات في محل أطعمة، بينما عملت أنا في أحد مكاتب التصوير عند الجامعة بجانب كتابة المحاضرات وبيعها للمكتب، كنت أقوم بالتصوير وتنظيف المحل في الفترات التي لا يكون عندي محاضرات خلالها، وكان لابد لنا من البحث عن مكان للسكن.

وجدت أنا وإيمان غرفة فوق سطح أحد بنايات بين السرايات، لأكون قريبة من الجامعة ومن عملي، كما وجدت إيمان عملًا في محل تجميل نسائي في منطقة بين السرايات ووجد داوود سكنًا في حجرة فوق سطح أحد بنايات بين السريات تبعده عنا بضع بنايات ليكون قريبًا من الجامعة ومن عمله ويوفر ثمن الموصلات للدراسة.

كان ينسخ محاضراته في المكتب الذي أعمل به، وكما اتفقنا مع صاحب المكتب فالتصوير لداوود مجاني مقابل تصوير المحاضرات التي يكتبها في كليته ويعمل في توصيل الطلبات في غير أوقات المحاضرات، وظللنا نعمل وندرس حتى أنهينا الجامعة، استطاع داوود أن يحصل على وظيفة معيد بالكلية نظرًا لحصوله على تقدير عام جيد جدا مع مرتبة الشرف، وقرر المضي قدمًا في المجال الأكاديمي، وعندها وجد أن إيمان لم تعد تصلح زوجة له، خاصة بعد أن ذاع في المنطقة أخبار عن أعمال مشبوهة ومنافية للآداب تتم في محل التجميل الذي تعمل به إيمان، ورفضت إيمان ترك العمل به.

قطع داوود علاقته بإيمان وكذلك فعلت أنا أيضًا، بعد تخرجي وكوني من العشرة الأوائل على دفعتي تم تعييني في إحدى المصالح الحكومية، وتركت عملي في مكتب التصوير وبحثت عن غرفة أخرى قريبة من عملي لتوفير نفقات الموصلات، وكانت الغرفة في حي بين السرايات أيضًا حجرة على سطح أحد البنايات هناك وتركت إيمان وداوود وراء ظهري وذهب كلٌ منا في اتجاه".

صعد فارس لعيادة الطبيب النفسي المعالج لولاء وطلب مقابلته، انتظر دوره في العيادة ودخل للطبيب، لم يكن في حالته الطبيعية كانت كرامته تثور عليه، يشعر أنه أُهدِرت كرامته على يد حبيبته وزوجته، كما يؤنب نفسه على اندفاعه في طلاقها، ذهب إلى الطبيب لكي يخرج من تلك الحالة وبعد أن علا صوته على والدته لأول مرة في حياته.

الطبيب: ازيك أستاذ فارس، خير؟

فارس وهو يكاد الصداع والألم يقصف رأسه: أنا تعبان جدا يا دكتور.

الطبيب: أستاذ فارس مالك، حاسس بإيه؟

فارس: صداع رهيب حاسس دماغي هتنفجر منه.

الطبيب: إيه اللي وصلك لكده؟

فارس: أنا اتخانقت مع والدتي بعد طلاق ولاء، لما عرفت إنها في المستشفى ونزلت وأنا مش شايف قدامي لقيتني هنا.

الطبيب: طيب حضرتك فكرت في الكلام اللي قلته لحضرتك ساعة لما طلقت مدام ولاء.

فارس: مش قادر افكر أو أبص في أي حاجة وفي نفس الوقت متأكد إن ولاء عندها أخلاق وتخاف ربنا ومتدينة لا يمكن تعمل حاجة تغضب ربنا، دماغي هتنفجر من التفكير تعبت..

الطبيب: حضرتك اتسرعت جدا في الطلاق..

فارس بانفعال: اتسرعت، بعد اللي شفته ده وابقى اتسرعت.

الطبيب: أنا مُقدر حالتك النفسية، لكن خلينا نحكم العقل شوية، زي ما حضرتك شايف في أوراق مدام ولاء هي عملت ده عشان حضرتك تشوفه وتوصل للنتيجة دي الطلاق، ثانيًا هي ما ردتش على أي واحد من الناس اللي دخلت على الصفحة وما عملتش أي إضافة لأي حد، كل اللي هي عملته إنها عملت الصفحة وحطت عليها الصور.

فارس: وبعدين؟

الطبيب: أستاذ فارس أرجع وأقول لحضرتك ولاء مريضة بالاكتئاب وأنا شاكك إن الاكتئاب الحاد اللي هي بتعاني منه عرض لمرض تاني لسه مش متأكد منه فعليًا، محتاج أعرف التاريخ المرضي ليها ولأسرتها ومحتاج أعرف حاجات كتير عشان كده طلبت من حضرتك نعرف المدارس اللي هي درست فيها وكمان دار الأيتام اللي اتربت فيها، ده غير الأوراق اللي هي مصرة تخبيها والماضي اللي لسه بيحاصرها لغاية النهاردة.

فارس بسخرية: يعني هي عملت كده وهي مش حاسة هي عملت إيه!!

الطبيب: لأ، هي عارفة هي عملت إيه، بس المشكلة هنا في المبرر، أنا عايز أقول لحضرتك كمان إن ولاء بتقعد تكلم ابنها وهي في أوضتها وبترد عليه وتقوله مش عارفة أجيلك، وبتتخانق مع حماتها ومعاك لأنك بتخونها.

فارس مندهشًا: أنا بخونها، ليه هو أنا اللي عملت الصفحة دي؟

الطبيب: الصفحة دي في الغالب هي رد فعل لشعورها إنك بتخونها، من فضلك حاول تفهمني ولاء كانت تقصد تخليك تشوف ده، محتاج حضرتك تشوف لو فيه أي ملفات مخفية أو أوراق تكون مدام ولاء مخباياها عننا.

فارس: انا مش فاهم حاجة!!

الطبيب: اقرأ كويس الأوراق بتاعتها وحاول توصل للمدرسة الابتدائية بتاعتها والدار اللي اتربت فيها عشان نقدر نفهم الحالة كويس ونعالجها، طبعًا ده لو حضرتك فعلًا عايز تساعد مدام ولاء وترجع حياتك الأسرية معاها.

فارس محتارًا وحزينًا: موضوع رد ولاء محتاج أفكر فيه، بس أوعدك هدور على المدرسة ودار الأيتام وأدور على الأوراق بتاعتها كلها وربنا ييسر إن شاء الله، أنا بحب ولاء ومش متخيل لغاية دلوقتي هي عملت كده ليه أو ازاي؟!!

خرج فارس من عيادة الطبيب أكثر حيرة مما كان، هل تكون فعلًا ولاء مريضة وتحتاج للعلاج وهو تسرع في تطليقها، كم يتمنى أن يكون ذلك حقيقيًا، وأن يكون تسرع فعلًا، ولكنه يخشى أن تكون ولاء فعلت ذلك عمدا وهي تعي ما تفعله، وأنها ليست بالبراءة التي يعتقدها، لقد امتلأ رأسه بالاحتمالات وعاد الصداع ليفتك برأسه من جديد، ولكنه قرر أن يبحث في كل مكان في المنزل وحتى على اللاب الخاص بولاء ليعرف المعلومات التي طلبها الطبيب المعالج لها.


منذ دخلت ولاء المستشفى في المرة الثانية وهي ترفض التعامل مع الأطباء، ترفض تناول الأدوية وتناول الطعام مما اضطر الأطباء لتركيب محاليل لها لتعويضها عن الطعام، وتم تركيب جهاز تسجيل في حجرتها لتسجيل ما تقوله، لقد سمعت إحدى الممرضات أن ولاء تتكلم وهي وحدها، فنقلت ذلك بدورها للأطباء في المستشفى وتم تركيب جهاز التسجيل ليستمعوا لما تقوله ولاء.

كانت حالة ولاء خطرة فعلًا، كانت تحاول الانتحار في كل لحظة، ومن أساليبها في ذلك ترك الطعام والشراب، حاولت فك المحاليل المركبة لها أكثر من مرة وقطع شريانها، مما اضطرهم في المستشفى لتكبيلها في السرير ووضعها في عنبر الحالات الحرجة الخطرة حتى لا تؤذي نفسها، أما ولاء كانت تكلم صغيرها وتحكي له عن هجر والده لها منذ وفاته.

أما والدة فارس فكانت سعيدة لأن ولدها طلق زوجته لكي يرضيها ولكنها في الوقت نفسه مستاءة أنه طلق زوجته وهي في المستشفى، لم تكن تعرف لماذا دخلت ولاء المستشفى لقد كذب عليها فارس وقال إن ولاء تعاني من ارتفاع في الضغط والسكر ومن الضروري بقاؤها في المستشفى حتى تتحسن، فخطر على بالها أن ما تمر به ولاء بسبب ما فعله فارس بها وأنه قد يكون ضربها عقابًا لها على ردها عليها، كم شعرت بالحزن وأنها السبب في طلاقها، وحزنت والدة فارس وهي تراه يذبل أمامها، فضلت أن تلومه على تطليق ولاء، خاصة وهي تشعر أنها السبب في دخول ولاء المستشفى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...