الأربعاء، 19 فبراير 2025

الفصل التاسع والثلاثون

 

محمود علي، مدرس اللغة العربية في المدرسة الثانوية التي التحقت بها فريدة، يبلغ من العمر خمسة وعشرون عاما، طويل، خمري لون البشرة، له شعر أسود مجعد بعض الشيء وعيون سوداء، عندما تنظر في وجهه تقر أنه مصري من أول وهلة. محمود غير متزوج، يتيم الأب، حيث توفى والده وهو مازال في المرحلة الابتدائية وتولت والدته تربيته هو وأشقائه الذين لم يبلغ أكبرهم العاشرة في ذلك الوقت، محمود هو الابن الأوسط. كان يحب والديه جدا، ولما لا ووالديه عطوفين ومحبين له ولأشقائه، لم ير منهم سوء قط.

عندما توفى والده حزن محمود وغضب جدا لأنه لن يراه مرة أخرى، لم يكن يفهم في ذلك الوقت أن الموت والحياة بيد الله وحده، ولا أحد له أن يتحكم في ساعته، رأى والدته وهي تسعى لتدبير لقمة العيش لهم، بعد أن كانت ربة منزل، مستريحة في بيتها لا ينغص أحد حياتها، اضطرت للخروج والعمل بعد وفاة زوجها.

كم كان صعبا على أرملة في ذلك الزمن الموحش أن تعيش دون أن تكون مطمع لكل عابر سبيل، وكأن كونها أرملة هو جواز العبور لأي عابر سبيل منها، خاصة إن كانت جميلة وتظهر عليها جمال أصلها التركي، إن كاميليا والدة محمود تحمل الأصول التركية من جدتها لأمها، فورثت البياض البض والعيون الزرقاء التي تغوص فيها دون ملل، والشعر الأصفر الذهبي الذي يسحرك من أول وهلة تنظر إليه، لقد كانت فينوس التي سلبت عقل السيد عليّ وتزوجها بعد أن أحبها، كان هو مدرس لغة عربية وكانت هي طالبة لديه، أحبها وتزوجها فور حصولها على الثانوية التجارية، ومنذ لك الوقت وهي ملكة متوجة في بيتها لا تعرف كيف تتعامل مع العالم الخارجي. ولكن بعد أن توفى زوجها اضطرت إلى إيجار أحد المحلات وحولته إلى مكتبة لبيع الأدوات المدرسية، إنها الشيء الوحيد الذي تفهمه.

كم كانت عرضة لبراثن الذئاب البشرية، كثيرا جدا، لم ترحمها أعين الرجال ولا ألسنة النساء. النساء تخاف منها على أزواجهن، والرجال يحلمون بها في سريرهم تفعل لهم ما أرادوه يوما ولم تحققه زوجاتهم. أصبحت كاميليا شرسة، واختفت براءتها التي كانت تتعامل بها مع الجميع، أصبحت قط شرس لا يسمح لأحد بالاقتراب منه، وقررت الاكتفاء بأولادها محمد ومحمود وعمر ومن خلال عملها في المكتبة وإرث أولادها من والدهم تربى الأبناء الثلاث.

عندما وصل محمد إلى المرحلة الإعدادية أصبح يساعد والدته في عملها في المكتبة وكذا فعل باقي الأبناء عندما وصلوا المرحلة الإعدادية وكانت الورديات توزع بينهم هم الأربع وكذا عمل البيت، اشركتهم كاميليا في كل شيء كي يكونوا العون والسند لها، وكي يعرفوا أن الدنيا هي شقاء وتعب وعليهم الشقاء والتعب لحرث السعادة التي يشعرون بها بعد الأكل من تعبهم وشقائهم.

هكذا كبر محمود وتعلم أن الحياة تعب وشقاء، وأن الجميع مبتلى، وعندما رأى فريدة في المدرسة أحبها منذ وقعت عينيه عليها، وأحبها أكثر لتفوقها وصارح والدته بذلك:

محمود: أمي أنا حبيت طالبة عندي في المدرسة

أم محمود: من شابه اباه، هاه أخبارها ايه

محمود: بنت يتيمة ومتفوقة جدا وأخدت قلبي من اول ما شفتها

أم محمود: يتيمة أبوها وأمها ماتوا؟ مين بيربيها؟

محمود: لا يا أمي، يتيمة من الملجأ

أم محمود: لقيطة؟

محمود: ليه بتقولي كده؟ مش ذنبها

أم محمود: لقيطة يا ابن عمري، ليه؟

محمود: يا امي بحبها مش ذنبها

أم محمود: اقسم بالله ابدا ما يحصل

محمود: طب ليه؟

أم محمود: عشان الأصل غلاب

محمود: يا أمي أنا مستني تخلص السنة دي واتجوزها ويا ستي مش لازم تدخل جامعة اتجوزها وتقعد معاكي هنا مش ح اسيبك وهي بظروفها مش ح تفرق معاها شقة لوحدها ولا معاكي وتكوني ام ليها

أم محمود: كلمتي واحدة لا يا محمود وانساها

لم يستطع محمود المجادلة أكثر مع والدته، إنه بالفعل يحب فريدة إلا أنه ضعيف أمام والدته، كتم حبها في قلبه وظل يساعدها في المدرسة ويشرح لها ما يصعب عليها، أراد مرارا الاعتراف لها بحبه، خاصة وهو يشعر بها تكن له ذات المشاعر، فحاول مع والدته مرارا وكان ردها في كل مرة حازم قاطع بالرفض.

لم يستطع محمود وأد حب فريدة من قلبه، فرفض كل عروس تجلبها له والدته على أمل أن يلتقي فريدة بعد تخرجها من المدرسة ويتزوجها، هو يعلم أنه لم يكون نفسه بعد وغير قادر على شراء شقة منفردة لذا هو مجبر على إطاعة والدته، ويعلم أن ظروف فريدة ستمنعها من رفضه بسبب الشقة، يعلم أن من في مثل ظروفها ليس له سوى الموافقة على أي شيء فهي معيوبة، إنها لقيطة وهو عريس أكثر من مناسب بالنسبة لها كما أنه يحبها.

هكذا تصور محمود أنه يحبها، لم يعرف أنها تفكر به حتى بعد أن تزوجت من علاء، وهو أيضا لا يعلم أنها تزوجت، ولكنه يعلم فقط أنه يحبها، لم يخطر بباله قط ما حدث لفريدة، ولو علم لرفض الزواج منها، فهو رجل شرقي يأبى أن يتزوج ضحية سبقه إليها شخص آخر، لا يأبه كونها ضحية، ولكن كل ما يأبه له هو أنها ليست عذراء.

بعد تخرج فريدة من المدرسة حاول محمود الوصول إليها، أو معرفة اية أخبار عنها، وبالفعل نجح أن يعرف أنها التحقت بكلية التربية، وأنها تحصل على درجة الامتياز في كل السنوات، كما علم أنها تعمل في أحد الكافيهات لكي تكسب لقمة عيشها بالحلال، لم يعلم أنها تزوجت.

وجد أن عليه الانتظار حتى يكون نفسه هو الآخر لكي يستطيع مواجهة والدته والتزوج بمن أحبها، وتوقف عن مراقبتها بعد أن علم مكان عملها ومكان كليتها، كان يرى معها علاء وبعض الزملاء، فظن أن علاء زميل لها، ولكن الغيرة كانت تكويه من مدى قرب علاء منها في المجلس والحركة في كل وقت حتى في العمل، ولكن لم يكن في يده ما يفعله لكي ينهاها عن ذلك، فهي ليست خطيبته أو زوجته، فآثر الصمت حتى تكون له وليأمرها وقتها بما شاء.

شذى: وانتي عرفتي منين يا شذى اللي حصل مع محمود ووالدته؟

فريدة: محمود حكي لي بعد موت علاء

ميار: كويس انك ما اتجوزتهوش رغم انك لسه بتحبيه

فريدة: هو ما قدرش يدافع عني قبل كده ومش ح يقدر يدافع دلوقتي ولا ح يقدر يواجه اخواته وولاده انه ح يتجوز ارملة اخوه

شذى: عين العقل انك بعدتي يا فريدة بس برضه محتاجة اعرف تفاصيل اكتر عن حياتك وعن اللي حصل لكم

فريدة: لسه اللي جاي كتير يا شذى

جاءت الفترة التدريبية في الكلية لكل من علاء وفريدة، ومن حظ فريدة أنها التحقت بمدرسة بالقرب من العمل الخاص بها، أما علاء فكانت المدرسة التي التحق بها للتدرب بها بعيدة عن المنزل والعمل وبالتالي كانت فريدة تذهب بعد المدرسة إلى العمل وحدها واضطر علاء إلى العمل في وردية عمل أخرى بسبب تأخر وقت وصوله واضطرت فريدة إلى الذهاب وحدها بعد العمل إلى المنزل لمساعدة ميساء.

ميساء: هاه يا فريدة، عملتي ايه مع علاء؟

فريدة: في ايه يا ميساء؟

ميساء: كلمك؟

فريدة: ابدا

ميساء: ليه كده بس؟ طب حاولي تمهدي ليه الطريق

فريدة: اعمل ايه يعني يا ميساء أوقله والنبي خليني مراتك بجد

ميساء: لا يا فالحة قولي له بحبك

فريدة: لا مش ح اقولها، أنا كرامتي غالية عندي

ميساء: كرامتك ولا لسه بتحبي محمود

فريدة: محمود انتهى يا ميساء، عمرنا ما ح نبقى لبعض وأنا كنت ليه مجرد طالبة مجتهدة بيساعدها وصعبان عليه ظروفها، لو كان بيحبني كان أتكلم، وحتى لو أتكلم نسيتي محمد ولا ايه، احنا اتكتب علينا نعيش كده مجروحين من الدنيا وعمرنا ما ناخد اللي عايزينه

ميساء: مش بقولك لسه بتحبيه

فريدة: مش بحبه أنا تعبانة من الدنيا قوي يا ميساء ومخنوقة منها نفسي أحس اني انسانة وليها حقوق نفسي أعيش بجد

ميساء: طيب ما تكلمي علاء وتقولي له الكلام دا

فريدة: علاء بيشفق عليا مش بيحبني

هنا دخل علاء وكانت فريدة ظهرها إلى الباب فلم تشعر بدخوله وهي تتكلم فأشار إلى ميساء ألا تقول شيئا عن دخوله وأكملت فريدة

فريدة: علاء حاسس بالمسؤولية تجاهي أنا وانتي لكن مش بيحبني وأخاف لو عرف إني فعلا بحبه يشفق عليا ويسيبني مع اول واحدة قلبه ينبض ليها

علاء: ومين قالك إني ح اعمل كده يا فريدة؟

فريدة: علاء! انت هنا من امتى؟

علاء: هنا من أول بيشفق عليا، صدقيني يا فريدة أنا والله بحبك وكنت خايف أقولك تفتكري أني بجبرك على الجواز مني، والله العظيم بحبك من احنا صغيرين، شفت فيكي كل حاجة امي واختي وصحبتي وحبيبتي، أنتي كل حاجة ليا فريدة، تقبلي تتجوزيني

هنا اندهشت فريدة من كم المشاعر التي شعرت بها في كلام علاء، لقد استشعرت صدقه واستشعرت الحب في كلامه، الحب الذي طالما حلمت به مع محمود، الحب الذي تمنت أن تجده في يوم من الأيام لتعوضها به الدنيا عما أخذته منها، لتعوضها عن أحلامها التي تلاشت لمجرد كونها لقيطة، لم تشعر بنفسها إلا وهي ترمي بنفسها في حضنه وتقول له والدموع تملأ عينيها

فريدة: احلف انك مش ح تبعد عني ابدا وانك عوض الدنيا ليا، احلف عمرك ما ح تكسرني ولا تعايرني في يوم باللي كان

علاء: اعايرك بايه يا فريدة، حد يعاير نفسه، انتي نفسي، انتي أنا، واللي كان طالنا احنا التلاتة محدش فينا غلطان، الغلط غلط الدنيا فينا ومعانا، احنا اتظلمنا واللي اتظلم استحالة يظلم فهماني، احنا اتظلمنا وانا اوعدك اني عمري ما ح اظلمك يا قلبي ويا عمري

ميساء: احم احم أنا هنا

علاء: اسف يا ميساء بس عمري وفي احلى احلامي ما كنت أتوقع ان فريدة فعلا تحبني

ميساء: واديها حبتك يا سيدي، انتم ح تخلصوا امتى التدريب بتاعكم دا

علاء وفريدة: الأسبوع الجاي

ميساء: تمام، يبقى الأسبوع الجاي بعد ما تخلصوا تدريب تاخد فريدة يومين في أي فندق وتقضوا يومين عسل بس عارف لو نسيتني ونسيت عادل زميلي انت حر

علاء: لا يا ستي والله ما نسيت تحبي اقولك رأيي ولا ح تزعلي

ميساء: قول

علاء: ما ينفعش يا ميساء

ميساء: ليه بس

علاء: عشان بتاع ستات وراح سأل عنك في دار الايتام اللي كنتي فيها واتأكد إنك يتيمة ومالكيش حد عايز يلعب بيكي شوية ويسيبك

ميساء: اه الغبي، لو كان سألني كنت رديت عليه على طول، لكن طالما بيلعب من ورايا خلينا نلعب شوية. كويس انك عرفتني

فريدة: ناوية على ايه يا مصيبة

ميساء: ابدا ناوية بس الاعبه زي ما بيلعب معايا

علاء: على فكرة هو متجوز

ميساء: يا نهار ابوه اسود

علاء: وعنده ولد وبنت

ميساء: يا نهار ابوه اسود ومنيل بستين نيلة وعرف يخدعك يا ميساء

ميساء: تخيلي يا فريدة لكن على مين والله لاوريه النجوم في عز الضهر

علاء: طب ياله يا اختي منك ليها نحضر الاكل ح اموت من الجوع

ودخل ثلاثتهم المطبخ لتحضير العشاء ولأول مرة ترى فريدة نظرات الحب في عين علاء وهو بجانبها على المنضدة يتناولون العشاء وفكرت لو أن الذي بجانبها كان محمود، ولكن لا يهم بالنسبة لها الآن، ما كان يهمها هو أن تجد من يحبها لتخلص له قلبها وتحبه، تريد أن تحصل على الحب والحنان الذي حرمت منه، تريد أن تحيا، أن تجد طعم الحياة.

شذى: انتي حبيتي مين يا فريدة؟

فريدة: حبيت محمود من أول دقة قلب، لكن حب علاء كان حب العشرة والتعود وخصوصا انه كان راجل بجد، كان بيهتم بينا وبياخد باله مننا كان راجلنا أنا وميساء وعمره ما اتخلى عننا

شذى: عارفة، حب العشرة والمواقف هو اللي بيدوم، زي ما حصل معايا أنا وامير المواقف والعشرة قربوا بينا واتولد الحب، لكن حب أول نظرة دا بيدوب مع أول خلاف، خصوصا ا محمود كمان كان اضعف من فارس، على الأقل فارس واجه شوية استحمل واصر وكمان حمدي كان عارف واصر وقدر يوصل لقلب ميار لكن محمود ضعيف جدا مكسب ليكي انك سيبتيه

فريدة: عارفة ومتأكدة من دا وخصوصا لما بفتكر مواقف علاء الله يرحمه بس أحيانا الواحد بيحن لأول دقة قلب مجرد حنين مش أكتر

انقضى التدريب العملي الخاص بكل من فريدة وعلاء، وطلب كل منهما أجازه من العمل لمدة ثلاثة أيام سافرا فيها إلى الإسكندرية لقضاء أيام العسل الخاصة بهما، ونزلا في أحد الفنادق المعقولة في عروس البحر.

في اول يوم لهما كزوجين بمجرد دخولهما غرفتهما

علاء: مبروك يا فريدة

فريدة: مبروك يا علاء

علاء: بحبك جدا ونفسي اعوضك عن كل حاجة وحشة شوفتيها في حياتك

فريدة: احنا الاتنين بنعوض بعض عن كل اللي شوفناه في حياتنا

علاء: اوعدك أكون سندك وضهرك وحماك من الدنيا وقسوتها

فريدة: وانا اوعدك ح احبك واكون عون ليك على قسوة الدنيا وغدرها وعمري ما اغدر بيك

واحتضن كل منهما الآخر بمشاعر متباينة بين الحب والامتنان، حب ومشاعر امتزج فيها الحب بالأحضان التي بدأت كأنها لحظات يخطفانها من الزمن وتطورت الاحضان حتى انتهت على فراش الزوجية.

في صباح اليوم التالي

علاء: صباح الخير يا عروسة

فريدة: صباح الخير يا عمري

علاء: يا ايه؟ قوليها تاني

فريدة: ما تكسفنيش بقى يا علاء

علاء: وحياتي عندك قوليها تاني مرة واحدة بس

فريدة: صباح الخير

علاء: يا ايه؟

فريدة: يا عمري

علاء: الله، اوعدك أكون احلى عُمر تعشيه يا قلبي، والله لأعوضك عن كل يوم وحش مر في حياتك وان كل يوم جاي ح يكون اسعد يوم في حياتك

فريدة: بجد يا علاء

علاء: بجد يا قلب علاء


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...