الاثنين، 17 فبراير 2025

الفصل الثالث والثلاثون

 

 

عندما تركت زينات فارسًا وهي ثائرة كان فارس هو الآخر يشعر بالضيق والغضب، ضيقه مما فعلته زينات من نشرها خبر مرض ولاء وتركها له في الكوفي شوب، وغضبه من الأفكار التي توالت على رأسه، ودون أن يشعر قارن بين تصرفات ولاء وزينات، وكانت نتيجة المقارنة لصالح ولاء التي لم تحرجه يومًا أو يعلو صوتها عليه.

بعدما طلب فارس يد زينات للزواج علم جميع العاملين بالمصلحة أنه خطب زينات، كان ذلك مفاجأة له، كأنه لم يتوقع أن يعرف زملاؤه خبر خطبته لزينات، ولكنه لم يفكر في ذلك قط، وكأنه قد نسى وجود ولاء معه في العمل وحبه لها، لم يعرف كيف سيتصرف مع ولاء ولكن رغبته في الاستقرار مع زوجة جعلته يستمر في خطته للزواج من زينات، وفي النهاية سيعلم الجميع بزواجه فلن يكون سرًا.

ظل في الكوفي شوب وطلب فنجانًا من القهوة ليراجع ما مر به خلال الفترة السابقة، وفي خضم ذلك تذكر أنه حتى الآن لم يبحث عن أوراق ولاء أو يفتش في حاسوبها عن أية ملفات مخبأة ليساعدها على التعافي، وكأنه قد نسى وجودها في حياته، قرر أن يبحث عن المعلومات التي طلبها الطبيب منه وأن يبحث عن المدارس التي درست بها ولاء ودار الأيتام التي تربت بها.

وجد فارس نفسه غير قادر على التفكير لذا طلب أخته هويدا ليتحدث معها.

فارس: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ازيك يا هويدا عاملة إيه؟

هويدا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، الحمد لله يا خويا في نعمة من ربنا.

فارس: إنتِ فاضية آجي أتكلم معاكِ شوية ولا وراكِ حاجة؟

هويدا: لا يا حبيبي أنا فاضية مستنياك تشرفني في أي وقت.

فارس: خلاص أنا جايلك دلوقتي مسافة السكة.

هويدا: في انتظارك، ما تتأخرش.

فارس: حاضر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هويدا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

ذهب فارس لأخته ليتكلم معها ويفكر بصوتٍ عالٍ، لقد ارتبك ولم يعد قادرًا على التفكير، يعلم أن هويدا ستقف مع الحق أينما كان لذا أراد أن يفضفض معها ويطلعها على ما يعتمل في صدره.

في شقة هويدا..

هويدا: ازيك يا فارس، مالك يا حبيبي؟

فارس: تعبان ومخنوق قوي محتاج أتكلم مع حد هو وليد جاي إمتى؟

هويدا: وليد في الشغل وهيتأخر النهاردة.

فارس: والبنات فين أُمَّال؟

هويدا: جم من المدرسة اتغدوا و هيناموا ساعة كده وبعدين يصحوا عشان المذاكرة.

فارس: ربنا يوفقهم ويوفقك معاهم.

هويدا: آمين يا رب، مالك يا حبيبي فيك إيه؟

فارس: زينات يا هويدا.

هويدا: مالها خير؟

فارس: تخيلي نشرت في الشغل كله إن ولاء في مستشفى للمجانين، واضطريت إن الناس تعرف إنها بتتعالج في مستشفى للأمراض النفسية ولفيت أجيب تقارير طبية تثبت أهليتها وقدرتها على العمل.

هويدا: يا ساتر يا رب، طيب هي عملت كده ليه، دي يبان عليها طيبة، خصوصًا لما وافقت إنها تعيش مع ولاء في نفس الشقة، رغم إني نبهتك إن ولاء موافقتش على كده وإنك سلبت منها حقها في الموافقة اللي اديته لزينات، إنت عارف إننا واقفنا على زواجك لأنه حقك خصوصًا إن ولاء مرضها هيطول وبقالها دلوقتي فوق الشهرين في المصحة بدون أي تحسن، بس برضه مش معناه إنك تجبرها تعيش مع ضرة في الشقة.

فارس: غصب عني مش قادر أبعد عن ولاء لحظة بس برضه تعبت من الوحدة وأديكي شوفتي أمك عملت إيه، مفيش حد ما عرفش إن ولاء مجنونة، غُلبت أقولهم ولاء مريضة نفسية مش عقلية بس للأسف ده اللي حصل، وأمك ما صدقت إني هتجوز وفرحت إن ضرة ولاء معاها في الشقة، أنا تعبت يا هويدا.

هويدا: بص يا فارس حق ربنا إن تفصلهم كل واحدة في شقتها، ولو ولاء بعد ما تخرج محتاجة تواجد مستمر منك تستأذن زينات أو تجيب ممرضة لولاء في وقت وجودك مع زينات.

فارس: انا أصلًا بفكر أسيب زينات، دي محفظتش سري اطمنلها ازاي مش عارف؟

هويدا: دي حاجة إنت وحدك اللي تقدر تقرر فيها يا فارس، استخير ربنا كده وشوف هيحصل إيه، إنت آخر مرة روحت للدكتور اللي بيعالج ولاء إمتى؟

فارس: من أكتر من شهر تقريبًا، تصدقي إني حتى نسيت اللي طلبه مني ونسيت اسأل على ولاء.

هويدا: فارس أنا مش عارفة سبب طلاقك لولاء، مش مقتنعة بإنك طلقتها عشان ماما لأنك عارف ماما بتعاملها ازاي، لكن اللي أقدر أقولهولك إنك طالما رجعتها يبقى ليها عندك حق ولازم تراعيها، دا حقها عليك.

فارس: مخنوق يا هويدا وتعبان قوي.

هويدا: فارس يا حبيبي طول عمرك راجل وتقف مع الغريب قبل القريب في شدته، ودي مراتك وملهاش حد غيرك إنت أهلها وكل ما ليها في الدنيا راجع نفسك وشوف احتياجات مراتك إيه؟ وبخصوص زينات استخير إذا كنت تكمل معاها ولا لأ.

فارس: طيب أسيبك بقى وأروح البيت استريح شوية.

هويدا: لأ استنى البنات تصحى ووليد يجي من شغله.

فارس: مش قادر يا هويدا سامحيني عايز اقعد مع نفسي شوية، كلامك فوقني ونبهني لحاجات مكنتش واخد بالي منها بس بالله عليكِ بلاش حد يعرف إني ممكن أسيب زينات.

هويدا: عيب عليك أنا من إمتى طلعت كلام حصل بينا، فوق كده لو عايز مني أي حاجة أنا معاك وفي ضهرك.

احتضن فارس أخته وودعها وكأنها قالت له ما يريد أن يُذكر به نفسه، خرج من بيتها وقادته قدماه إلى المكان الذي تحبه ولاء، الكورنيش ورؤية النيل والمشي هناك، مازال الصراع في نفس فارس فيما وجده في حساب ولاء على الفيس، قرر أن يفتش في حاسب ولاء، في الشقة؛ ليجد أي معلومات تساعده في شفاء ولاء.


في المستشفى..

د.عصام: ازيك يا دكتورة رقية أخبارك إيه؟

د.رقية: تمام الحمد لله، أهو النهاردة أول يوم ليا في المصحة ومش عارفة هستلم إيه؟

د.عصام: المستشفى كلها تحت أمرك، بس فيه حالة عايزك تشوفيها.

د.رقية: دي هشوفها عشان أقول رأيي فيها، وألا أعتبر إنها تكليف ليا بالحالة باعتبارك مدير المستشفى.

د.عصام: لا أبدًا بس الحالة دي بقالها أكتر من شهرين عندنا وللأسف الحالة بتتأخر مش بتتقدم، موجودة في عنبر العزل لإنها بتحاول الانتحار أكتر من أي حاجة في الدنيا، معلقين لها محاليل ومتكتفة عشان محاولات الانتحار، مش عايزة تتكلم مع حد، وعلى فكرة أنا كنت بتابعها في العيادة قبل ما تدخل المستشفى وطلبت وضع تسجيل في أوضتها عشان نقدر نفهم الحالة.

د.رقية: شوقتني أشوف الحالة دي، هي راجل وألا ست.

د.عصام: مدام ولاء محمد، عندها 30 سنة، متجوزة وحالتها اتدهورت بعد موت ابنها، بتعتبر نفسها السبب في موته.

د.رقية: وتشخيص حضرتك إيه للحالة؟

د.عصام: في الأول كنت بعالجها على إنها حالة اكتئاب عادية بس أنا شكيت في التشخيص بعد لما جت المستشفى.

د. رقية: حضرتك شاكك في إيه؟

د.عصام: اضطراب ثنائي القطب مع اضطرابات في الشخصية، بس مش متأكد لأن الحالة رافضة الكلام ورافضة الحياة، دي التسجيلات اللي سجلناها لولاء اسمعيها ولو حبيتي تتابعيها أكون ممنون ليكِ.

د.رقية: أعتقد حضرتك رشحتلي الحالة دي عشان موضوع رسالتي؟

د.عصام: فعلًا يا دكتورة، رسالتك كانت عن الاضطراب ثنائي القطب وأعتقد لما هتسمعي التسجيلات هتعرفي إنها محتاجة طبيبة مش طبيب يتابعها.

د.رقية: تمام هسمع التسجيلات وأراجع ملف الحالة وطبعًا حضرتك معايا في العلاج خطوة بخطوة

د.عصام: طبعًا وشاكر لحضرتك، مدام أميمة الممرضة في قسم الحريم هتساعدك هكلمها تجهز كل حاجة ومكتبك هيكون جنب مكتبي هنا.

د.رقية: دي ثقة اعتز بيها ربنا يوفقني وأكون أدها، بعد إذن حضرتك.

د.عصام: اتفضلي.

ذهبت رقية إلى قسم الحريم لتتعرف على التمريض هناك وتتعرف أكثر على حالة ولاء، إنها أول حالة تعالجها بعد حصولها على درجة الدكتوراه، وكونها تتابع حالة وحدها تعتبره تحديًا يجب أن تثبت أنها قادرة عليه، تعلم أن المرض النفسي من أصعب الأمراض في شفائه وأول أسباب كونه صعبًا نظرة المجتمع للمريض النفسي وعدم قدرتهم على استيعاب ضرر تصرفاتهم على تدهور حالة المريض.

لقد رأت رقية في أثناء دراستها وتدريبها العديد من الحالات التي يُفضل فيها الأهل عدم إكمال العلاج، أو إرجاعهم سبب مرض الحالة لمس سفلي، كم من حالة انتحرت أو ساءت حالتها بسبب عدم قدرة الأهل على استيعاب معنى المرض النفسي.

تعتبر رقية أن حالة ولاء تحدٍّ لها ولقدرتها على العمل وممارسة مهنتها، هي إثبات لقدرتها باعتبارها امرأة أن تكون طبيبة نفسية، تعرف أن تخصصها في الطب النفسي في هذا المجتمع من المستحيل أن يتقبله مجتمع يقدس الذكر ويعتبره كاملًا صالحًا لكافة الأعمال والوظائف ويعتبر الأنثى كائنًا لا مكان له لإثبات ذاته، وأنها مجرد سبيل لقضاء شهوة.

تذكرت رقية الصعاب التي مرت بها لكي تُقنع والداها بمجال الطب النفسي، لقد درست في كلية الطب وتخصصت في الطب النفسي، كانت ترى الكثير من الحالات التي تحتاج إلى العلاج ولكنها تأبى الاعتراف بمرضها، قررت أن تخوض الصعاب وها هي الآن ناقشت رسالة الدكتوراه وحصلت على الدرجة العلمية وتضع قدمها على بداية طريق تعرف صعوبته، تشعر بالعرفان للدكتور عصام الذي أعطاها فرصتها لإثبات ذاتها ولكنها ما زالت لا تعلم هل بالفعل يثق بها ليعتمد عليها في حالات صعبة أم أنه يضع أمامها الأمر الواقع ويقول لها عبر تكليفها بالحالات أنت لست كفءً لهذا العمل.

نفضت رقية عن رأسها تلك الأفكار عندما وصلت لعنبر الحريم ووجدت مدام أميمة التي أطلعتها على حالة ولاء وأعطتها الشرائط التي سُجلت لولاء منذ ما يزيد عن الشهر، أخذت الملف ودخلت غرفة المكتب التي خصصها لها د.عصام، وبدات تفتح ملف ولاء.

"الإسم: ولاء محمد سمير عبد الواحد

الحالة الاجتماعية: متزوجة

التشخيص المبدئي: اكتئاب حاد وميول انتحارية  - محاولات انتحارية كثيرة يُوصي بوضعها في غرفة العزل ووضعها تحت الملاحظة الدائمة.

الأدوية: مجموعة من الأدوية الخاصة بالاكتئاب وتثبيت الحالة المزاجية، ديباكين، كويتابيين، وأدوية أخرى.

الملاحظات على الحالة:

محاولات انتحارية وعزوف عن الطعام ورغبة في الموت  -هلاوس ظهرت خلال التسجيلات للمريضة، لم يزرها أحد طبقًا لتوصيات مدير المستشفى ولم يسأل عنها زوجها ولم يُوفر المعلومات التي طُلبت منه منذ ما يزيد عن الشهر، أي منذ وضعها في عنبر العزل".

أمسكت الشرائط بترتيبها منذ اليوم الأول للتوصية بالتسجيلات بعد الأسبوع الأول من دخول ولاء المستشفى.

اليوم الأول:

 أحمد يا حبيبي عامل إيه، معلش يا حبيبي مش عارفة أجيلك غصب عني يا ابني تعالى في حضني يا حبيبي وحشتني قولي إنت عامل إيه لوحدك والله ما عارفة أجيلك إنت شايف كل مرة بحاول أموت فيها مش بتنفع ومش بموت!!

ياااااااااااااااااااه يا حبيبي حضنك حلو حاضر هقطع شرايين إيدي بالكانيولا استنى كده وساعدني ااااااه خلاص دمي بينزف اهو أنا جاية.

ملاحظات: تم إنقاذ المريضة والتوصية بتكبيلها ووضعها تحت الملاحظة المستمرة وزيادة الأدوية المهدئة.

اليوم الرابع:

شفت يا أحمد برضه ما عرفتش آجي، مش عارفة أنقذوني ازاي!! ماما ساعديني إنتِ وقوليلي أعمل إيه؟؟ أحمد مبسوط معاكِ، حضنك وحشني يا أمي هو بابا فين ليه مش معاكِ، زعلان مني ليه؟ والله يا أمي مش عارفة أجي كل مرة بحاول أموت فيها بينقذوني.

اليوم العاشر:

ابعد عني، سيبني حرام عليك ابعد عني، إنت إيه اللي جابك هنا؟!!

 الحقوونييييييييييي

صوت التمريض مالك فيه إيه؟؟

ابعدوا عني نبيل عايز يغتصبني ابعدوه حرااااااااااااااااااااااااااااام عليكم.

استدعت د.رقية الممرضة النوبتجي لسؤالها عن الحالة ووجدت مدام هالة.

رقية: هالة إنتِ متابعة الحالة من إمتى؟

هالة: متابعة الحالة دي من ساعة ما دخلت العزل، يعني من حوالي شهر.

رقية: ممكن تقوليلي أخبار الحالة إيه؟

هالة: الحالة دي بالذات على طول بتصرخ، بس أكتر حاجة صراخها وطلب إننا نبعد عنها واحد اسمه نبيل بيغتصبها وساعات بتنادي على واحد اسمه فارس من الملف عرفنا إنه جوزها.

رقية: طيب والزيارات؟

هالة: محدش زارها من ساعة ما دخلت المستشفى ورافضة تاكل أو تشرب وكمان رافضة الدوا بتاخد العلاج بالعافية والمهدئات مش بتنقطع عنها الديباكين من الأدوية المستمرة معاها وكمان الانديكويبين ومجموعة تانية بتتغير من أسبوع للتاني بس للأسف لغاية دلوقتي مش جايبة أي نتيجة.

رقية: ممكن حد يتصل بجوزها عشان محتاجة أقابله قبل ما ادخل للحالة.

هالة: حاضر يا دكتور هنتصل بيه ييجي لحضرتك بكرة الصبح عشان تكوني خلصتي الملف والتسجيلات.

رقية: تمام يا هالة متشكرة جدًا ليكِ.

هالة: أنا تحت أمرك لو احتجتي أي حاجة، عن إذنك.

رقية: اتفضلي بس يا ريت كوباية قهوة شكلي هسهر النهاردة.

هالة: حالًا.

لم تشعر رقية بنفسها إلا مع اتصال والدتها تسألها عن سبب تأخرها في العمل، نظرت رقية في ساعتها ووجدتها السادسة مساءً، اعتذرت لوالدتها عن تأخرها وكانت قد انتهت من الاستماع للتسجيلات الخاصة بولاء، تعتبر رقية أن حالة ولاء هي الحالة التي تثبت بها جدارتها وقدرتها على أن تصبح طبيبة نفسية لها اسمها، تشعر أن الكل يستغرب تخصصها كونها طبيبة أنثى في ذلك التخصص، تتذكر رقية كيف حاربت لتكون طبيبة وكيف ضحت بحياتها وحبها حتى تُكمل حلمها في العمل كطبيبة نفسية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...