عندما انتهيت من جمع الملابس والكتب لميار أعطيت أم حامد مبلغ من
المال كما أعطيتها إجازة من عملها حتى تخرج ميار من المصحة، حزنت أم حامد على حال
مخدومتها كثيرا، فهي ترى أن مخدومتها طيبة القلب وما يحدث لها لا تستحقه، فهي
تستحق أن تعيش حياة سعيدة مليئة بالفرحة، لا حياة يملأها الألم واليأس.
ذهبت أم حامد لمنزلها أخيرا، بعد أن سيطر عليها تفكيرها في ميار وما
يحدث لها طوال طريقها لمنزلها الكائن في المقطم. تعيش أم حامد في المقطم في منطقة
تدعى الخزان وهي منطقة شعبية يعيش بها الأهالي الذين كانوا يعيشون في العشش في
العشوائيات التي هدمتها الحكومة وأعطت الحكومة لهم هذه المساكن بديلا عن عششهم
المهدمة.
لم تجد أم حامد مكان أفضل من ذلك نظرا لضيق ذات اليد، فعندما طردت من
منزلها بعد وفاة زوجها ما كان معها من نقود لم يكف إلا لاستئجار شقة في هذا
المكان.
كثيرا ما تشعر أم حامد بالحزن كلما تذكرت زوجها وما كان يفعله معهم
وأنه كان يحميهم من غدرات الدهر ومشقة الأيام، تفتقده كثيرا وتفتقد أياما كانت
تشعر فيها بالأمان ولم تذق فيها طعاما لمرارة الزمان. بعد وفاة زوجها عرض عليها
أخو زوجها الزواج منها ولكنها رفضت ذلك، لشعورها أن زوجها مازال موجودا بجوارها
وأنها لا تريد أن يربي أولادها غيرها. بعد رفضها الزواج رفع أهل زوجها أيديهم من
الانفاق على أولاد أخيهم وتركوهم بلا حول ولا قوة وقاموا بطردهم من الشقة قبل
العيد الأضحى بيوم واحد وطلبوا من أم حامد تنظيف الشقة قبل أن يراها المشتري،
شعورا من القهر شعرت به وهي مضطرة لترك مكان به ذكريات كثيرة مع زوجها ومكانا
يبعدهم عن الشارع وغدراته.
اضطرت أم حامد للعمل في البيوت لكسب رزقها؛ فهي لا تملك الشهادات ولا
المهارات الحرفية الأخرى، تحملت مشقة هذه الأعمال لتنفق على أولادها الذين تركهم
زوجها أمانة في عنقها، كان ولدها في ذلك الوقت في السنة الثالثة من الثانوي العام
وكان عمره سبعة عشرة عاما، وكانت بتول عمرها خمسة عشر عاما وبدور الصغيرة ثلاثة
عشرة عاما. لم يشعر أولادها برحيل والدهم مثلها، فهم تعودوا على أن طلباتهم مجابة
وأنهم يأكلون أفضل الأطعمة ولا تنقطع الفاكهة والحلوى عن منزلهم. ولكن أنَّى
لوالدتهم الوفاء بذلك، لقد رحل عائلهم الذي لم يجعلهم يوما يشعرون بألم الحاجة وذل
السؤال. الآن لا تدخل اللحوم لمنزلهم سوى في الأعياد والفواكه والحلوى أصبحت من
الماضي البعيد.
كانت تتوقع أن يساندها ولدها البكري في مصاريف المنزل وأن يعمل بجانب
مذاكرته، ولكنه لم يفعل وها هو يعيد السنة الثالثة من الثانوي العام للمرة
الثالثة، كلما وجدت له عمل تململ وترك العمل بعد يوم أو يومين أو ثلاثة أيام على
أقصى تقدير، دائم طلب النقود منها، يشتري به لفائف التبغ ويجلس على المقهى مع
أصدقائه، يتناول الحشيش، وكلما قالت له أنها لا تستطيع توفير احتياجاتهم اليومية
والضرورية قال لها أنها ملزمة بذلك ولا شأن له فيما هي فيه.
يكاد ما تحصل عليه من العمل عند ميار يسد احتياجاتها الأساسية من مأكل
ومشرب ولكنه لا يكفي الإيجار ومصروف الأولاد وثمن الدروس الخصوصية لأبنائها، فحامد
ما يزال في الصف الثالث الثانوي وهكذا بتول أما بدور فهي الآن في السنة الأولى من
الثانوي التجاري. تحاول العمل في يوم إجازتها من عملها لدى ميار ولكن أولادها
استاءوا من ذلك لأنها لم تعد تجلس معهم. فهي تعود من عملها لدى ميار لتنظف المنزل
وغسل الأواني وغسل الملابس وتنهي أعمال المنزل ثم تخلد للنوم لتستطيع العمل في
اليوم التالي، تكاد تنام أربع أو خمس ساعات في اليوم. تعلم أنه لا أحد يشعر بها
وبمعاناتها ولكن أخيرا قررت بتول مساعدتها ونزلت لتعمل مساءاً في صيدلية قرب
المنزل لكي تستطيع توفير نفقات دروسها، ولكن لضعف بتول الجسدي صرفها صاحب الصيدلية
من العمل، وعادت أم حامد وحدها هي من تعول الجميع، أما بدور فتطلب ما تريد ولا
تهتم بحالتهم المادية كل ما تفكر به هو نفسها وكفى.
قبل دخول ميار المصحة كانت أم حامد قد طلبت منها مبلغا من المال على
أن ترده من راتبها الشهري لتصلح التلفاز حيث كسره حامد في نوبة من نوبات غضبه لعدم
وجود المال الذي طلبه من والدته، تأكدت ميار أنه يتعاطى المخدرات وأنه طفل مدلل لم
يعتد المسؤولية، اعتاد أن طلباته مجابة دون سؤال أو نقاش، لم يعتد بعد تحمل
مسؤولية المنزل كأي شاب في مثل ظروفه.
أخبرها ولدها أنه منذ أيام قابل صديق لوالده لديه ورشة لتصنيع الحقائب
النسائية وأنه سأله إن كان لديه عمل أم لا، فأجابه بالنفي فما كان من صديق والده
إلا أن طلب منه العمل معه في الورشة، كما أخبرها أنه وافق على ذلك، واستمر في عمله
وفرحت والدته أنه أخير سيعمل ليساعدها على أعباء المنزل، إلا أنه لم يعطِ لها قرشا
واحدا وظل يطلب منها النقود لينفق منها على مواصلاته ولفافات التبغ الخاصة به،
رفضت أم حامد إعطائه أية نقود بعد عمله وانصاع هو أخيرا لذلك ولكنه أبى أن ينفق
على المنزل، ولا تعلم حتى الآن فيما ينفق أجره من العمل خاصة عندما علمت أنه اقترض
من صديق له ومن ضرتها مبالغ مالية، ولكنها بعد فترة علمت من صاحب الصيدلية التي
كانت تعمل بها بتول أن حامدًا يشتري أقراص الترمادول المخدرة ونصحها بإقناعه الكف
عن هذا المخدر حفاظا على حياته، وزادت الأحمال على أم حامد ما كان ينقصها بالفعل
هو إدمان ولدها، ولم تعلم ماذا تفعل، فواجهت ولدها الذي أخبرها أن صديق والده هو
من يشتري لهم هذه الأقراص كي يتمكنوا من العمل لساعات طويلة.
بعد دخول ميار المصحة، لم تعرف أم حامد متى ستخرج ميار وبالتالي متى
ستقبض راتبها الشهري وهل سيكفيها هذا المبلغ الذي أعطيته لها؟ وعلى قدر حزنها على
ميار اعتراها الحزن من أين ستنفق طوال هذه الفترة فذهبت لجارتها أم عنتر
أم حامد: كيف حالك يا أم عنتر
أم عنتر: الحمد لله وانتِ كيف حالك
أم حامد: الحمد لله، أريد أن أسألك طلبا؛ لو طلب منك أحدا شخصا للعمل
أخبريني لأني احتاج العمل
أم عنتر: لماذا يا أم حامد فأنتِ تعملين لدى أستاذة ميار
أم حامد: لقد سافرت في عمل لها ولا أدري متى تعود والمبلغ الذي أعطتني
إياه قبل سفرها لا أعلم هل ستعود قبل أن ينفد أم لا وأنتِ تعرفين حالنا
أم عنتر: حاضر يا أم حامد إذا طلب مني أحدهم شخصا للعمل سوف أخبرك
استمر لقاء أم حامد مع جارتها طويلا حكت فيه كل واحدة للأخرى ضيق ذات
اليد والمصروفات التي لا تنتهي وطلبات البيت المستمرة مع غلاء المعيشة ثم تركت ام
حامد جارتها وذهبت لبيتها لترى ما عليها إنجازه، فبناتها لا يقومون بأعمال المنزل،
فينتظرون والدتهم لأدائها وتتعلل كل واحدة منهما إما بالمذاكرة أو التعب، فتضطر هي
للقيام بأعمال المنزل وحدها دون مساعدة، كما تتحمل أعباء المعيشة وحدها دون
مساعدة، ودون تقدير للمشقة التي تلاقيها في العمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق