قبل خروج ولاء بأسبوع من المستشفى أخبرتها رقية أن فارس طلقها أثناء
وجودها في المستشفى وطلبت منها أن تفكر في حياتها وتَمضي بها قدمًا، انهارت ولاء
ففارس كان هو الصدر الحنون لها، هو العالم بالنسبة إليها، لم تعرف كيف ستواجه
العالم دون وجوده في حياتها وفقدت وعيها.
كان عليها أن تتعلم كيف تواجه الحياة وحدها وأن تكون سند نفسها، قد
كُتب عليها أن تكون وحيدة، توقعت رقية أن تقدم ولاء على الانتحار مرة أخرى أو أن
تنتكس إلا أنها تعافت وأصرت على مواجهة عالمها، لن تكون لقمة سائغة في فم الصيادين
ولن تترك الفرصة لأحد كي يتحكم بها، أخيرًا قررت ولاء الخروج من الشرنقة التي حبست
نفسها فيها، وأخيرًا انتهت زيارات الكابوس لها، لقد فهمت سبب الكابوس، لم يكن
كابوسًا إنما كان الواقع الذي تخشى أن تواجهه، كانت ترى نفسها في دار الأيتام
وحيدة تفكر في الموت وتحاول الموت وتستيقظ وهي تحاول أن تقتل نفسها، كان الكابوس
يتكرر بعدد محاولاتها الانتحار.
أخيرًا خرجت ولاء من المستشفى وطلبت من فارس أن
تأخذ حاجياتها من المنزل وأخبرها أنه أجر لها منزلًا جديدًا وأن نفقتها ستصل لها
شهريًا بما يرضي الله تعالى وأعطاها مؤخر صداقها، وبدأت ولاء في حياتها من جديد
تواجه الحياة الحقيقية لأول مرة في حياتها دون هلاوس وتهيؤات تواجه الحياة وهي
صلبة قادرة على الوقوف أمام الصعاب.
أخبرتها رقية بضرورة الاستمرار في العلاج حتى
لا تعود لسابق عهدها، أعطتها رقم هاتفها الشخصي، اقتنعت ولاء بضرورة استمرار
علاجها واحتفظت برقم رقية، وحفظت الأدوية التي عليها تناولها ومواعيدها وكتبتها في
جدول وعلقته في كل مكان بالشقة حتى لا تنسى.
بعد خروج ولاء من المستشفى حصلت رقية على إجازة للزواج من فريد ابن
عمها، الذي أوفى بعهده لها، بل وفتح لها عيادة خاصة لكي تمارس فيها تخصصها رغم
معارضة الجميع ذلك، إلا أن فريد كانت شخصيته قوية ولم يستطع أحد فرض رأيه عليه، ففي
النهاية رقية زوجته وهو الرجل المسئول عنها.
عندما ذهبت للإدارة التي تعمل بها فوجئت بعلمهم بكل تفاصيل حياتها
وتربيتها في دار الأيتام، إلى جانب الشائعات عن علاقتها المحرمة مع شخص آخر غير
زوجها، لم تتحمل نظرات الشك والريبة في عيون زملائها، كما لم تتحمل نظرات الرغبة
فيها من كل من ظن أنها صيد سهل سائغ، لم تستطع أن تستمر في عملها وزينات معها في
نفس المكان، خاصة بعد أن علمت أن زينات سبب علم الجميع بمرضها النفسي، طلبت نقلها
من الإدارة التي كانت بها وأرادت أن تنتقل إلى الإسكندرية لتبدأ حياتها هناك، وأخبرت
فارس برغبتها في السفر من القاهرة نهائيًا فأجر لها شقة هناك وساعدها على نقل
الأثاث لشقتها الجديدة.
كانت تعلم أنها لابد أن تتناول علاجها ولا تقطعه حتى لا تنتكس مرة
أخرى، أحبت البحر كثيرًا، كانت تذهب هناك وتتكلم مع البحر وتشكو إليه ما لاقته في
حياتها، كانت تنتقي الأوقات التي يكون الكورنيش فيها خاليًا من المارة لتجلس أمام
البحر وتكلمه.
كانت زينات سعيدة مع فارس خاصة أن حنين كانت تقول له بابا وزاد من
سعادته أن زينات حملت بعد زواجه منها مباشرة وأنها على وفاق مع والدته وأخواته
البنات وهو ما كان يفتقده مع ولاء، رغم اشتياقه لها إلا أنه علم أنه لن يستطيع أن
يتحمل تبعات مرضها، لم يفكر في الشفاء أو أي شيء آخر سوى ما يمكن أن يحدث إذا
تصرفت بشكل غير لائق أمام الناس، يعلم أنها تخاف الله ولن تخونه ولم تفعل ذلك
مسبقًا؛ حيث عرض عليه الطبيب حالة ولاء وأنها بالفعل لم تخنه وأنها كانت تتخيل كل
ذلك كما أنها لم تخدعه مطلقًا وبالفعل كانت بكرًا عندما تزوجها.
عندما حملت زينات ذهبت والدته لتكون بجانبها وترعاها، لقد جمعت
السعادة لزينات تزوجت وخرجت من سطوة أخويها، واستطاعت كسب قلب فارس وحماتها، وها
هي تحمل في أحشائها ولدها من فارس وتدعو الله أن يكون ولدًا ليكون سندًا لها
ولابنتها.
كانت زينات تشكر حماتها كلما رأتها عن معروفها معها، وبعد أن أنجبت
زينات رزقها الله تعالى ولدين أسماهما فارس عبد الله وعبد الرحمن، فرحت زينات
بولديها كثيرًا وكأن الحياة قد ابتسمت أخيرًا لها ظلت معها حماتها حتى أتمت النفاس
وكان فارس يعمل عملًا إضافيًا ليستطيع توفير نفقات زينات وأولاده وكذا نفقة ولاء.
عاد في إحدى المرات وسمع زينات وهي تشكر حماتها وتتذكر معها الخطة
المحكمة التي تم حوكها ضد ولاء من زينات ووالدته، لم يصدق فارس ما سمعه توًا من
حديث زينات ووالدته، لم يتمالك نفسه من الغضب ودخل يضرب في زينات، ووالدته تحاول
أن تبعده عنها حتى لا يؤذيها، كان يضربها ويقول لها "أنت من جعلني لا أقوى
على النظر في عيون زملائي واضطرني لترك الإدارة التي عملت بها لسنوات عديدة، أنت
من جعل الجميع يشمت بي، أنت طالق طالق طالق" لم يكن فارس يعلم أن والدته
وزينات اتفقتا على ولاء ولكن لا مجال للندم الآن، فهو لن يستطيع تحمل مرض ولاء
ولكنه غضب من زينات وطلقها لأنها غير أمينة، لم تراع الله في نفسها وفيه، لقد كذبت
وافترت على ولاء وجعلته حديث زملائه.
شعر فارس أن ما حدث هو عقاب الله له على ما فعله في ولاء وفي تسرعه
في طلاقها، تدخلت والدته لتصلح بينه وبين زينات، وكذا تدخل أخوي زينات وكان المدخل
أن الأولاد لابد أن يعيشوا وسط أسرة وأن زينات إن أصر على طلاقها منه ستتخلى عن
ولديها له، فلن يرغب أحد بالزواج من مطلقة لمرتين ومعها ثلاثة أطفال تدخلت هويدا
لصالح زينات، لم يكن لأن زينات على حق ولكن لأن زينات الآن في موقف ضعف وإن كانت
قد أخطأت فهو أيضًا أخطأ ولكن إذا أصر على الطلاق فإنه يحكم على أولاده مقدما
بالتشتت بين والدتهما ووالدهما.
انصاع فارس لكلام العقل، وسامح زينات على ما كان إلا أنه كان يشعر
معها بعدم الأمان والثقة؛ كيف يثق بمن خاضت في شرف أخرى لمجرد أنها أرادت أن تتزوج
زوجها، وسأل نفسه كيف يثق هو بنفسه وقد ترك زوجته في وقت حاجتها له.
كان يعلم أن زينات لم تخنه ولم تفعل، وأنها تزوجته لأنها لابد لها أن
تتزوج في مجتمع يستضعف النساء الوحيدات، النساء بلا زوج مسئول عنهن، كان يعلم أن
طلبها أن تكون الزوجة الوحيدة هو طلب أي زوجة
من زوجها، فولاء كان يمكن أن تطلب الطلاق منه بعد زواجه من زينات، طبيعة المرأة
التي تحتاج أن تكون هي حياة زوجها ومركز اهتمامه.
أما ولاء فكانت تتناول العلاج كما كتبته لها رقية وتذهب بصفة دورية
للعيادة كل فترة كما يُطلب منها، لأول مرة استطاعت ولاء أن تعيش بدون خوف من
الماضي، أخيرًا اكتشفت أن أحدًا لم يغتصبها، وأنها شريفة ولم تخن فارس كما كانت
تعتقد، وأخيرًا عرفت أن هؤلاء الذين كانت تراهم مجرد أوهام في خيالها وهي من يتحكم
بهم إذا كانت قوية سوف تسيطر عليهم وإن ضعفت سيطروا هم عليها، أخيرًا تعافت من
كابوسها الملازم لها، أصبحت لا تخاف الناس، لم تعد تُحمل نفسها ذنبًا لم ترتكبه.
واجهت ولاء الناس بحالتها التي كانت تخاف أن يعرفها أحد، هي الآن
يتيمة ومريضة نفسية ومطلقة. فيما مضى كانت تخاف أن تواجه العالم، أما الآن وهي ترى
أنها أساءت الاختيار وتزوجت من فارس لأنه تخلى عنها وقت حاجتها له، تعلم أن عليها
أن تكون قوية في عالم لا يرحم من كان ضعيفًا، لذا كان الحل أن تواجه مخاوفها وأن
تعترف أمام نفسها أن الهروب ليس حلًا.
توالت حكايات ولاء للبحر وفي تلك الأثناء كان يراقبها شاب في نهاية
العقد الثالث من عمره، فقد حبيبته حديثًا، توفيت إثر حادث سيارة وكان يأتي ليقف
يتذكرها في المكان الذي اعتاد أن يكون معها فيه، وهناك وجد ولاء تبث حزنها للبحر، راقبها
كان يظهر على ملامحها حزنها وقوتها في آن واحد، لا أحد يجزم أن تلك الواقفة أمام
البحر الواثقة من حالها كانت قبل أسابيع قليلة تعلق حياتها على شخص واحد هو فارس
ولاحظته ولاء، ولاحظت مراقبته لها، لم يعجبها ذلك الوضع فغيرت المواعيد التي تذهب
فيها للشاطىء.
كان البحر يثور ويهدأ من جديد وكأنه يتفاعل مع أحزان الجميع، كأن
البحر كُتب عليه أن يحمل آهات العاشقين وآلام المجروحين، ثار البحر كثيرًا في ذلك
اليوم وكأن البحر يقول لهم كفى حزنًا وكفى ضعفًا عليكم أن تواجهوا وتتخذوا قرارات
حاسمة في حياتكم وصلت رسالته لولاء وقررت أن تأخذ قرارها لن أنهزم بعد الآن، لن
أترك حياتي ومصيري في يد أحد أيا كان.
واصلت اجتهادها في عملها وترقت في عملها حتى وصلت لمدير عام، كان لها
جار أرمل له طفل واحد ماتت أمه أثناء ولادته، عندما سكنت ولاء الشقة كانت أم
الرضيع على قيد الحياة وأحبت ولاء كثيرًا وكانتا تتحدثان سويًا لفترات طويلة، لم
تخف منها سميرة على زوجها، لقد تعلمت سميرة كيف تقرأ الخيانة على الوجوه وكان وجه
ولاء من الوجوه النادرة التي يظهر عليها الحب والوفاء، كان يأتي عاطف أحيانًا
وولاء عندهم في المنزل يسلم عليها وتستأذن هي للذهاب إلى شقتها.
بعد وفاة سميرة أثناء الولادة اضطر عاطف أن يكون وحده مع ولده، سميرة
ماتت والدتها وليس لها أخوات إناث وهو أيضًا ليس لديه أخوات أو أم تساعده على
تربية الوليد لم يجد عاطف بدًا من اللجوء لولاء، حتى يجد من تراعي الصغير أثناء
وجوده في العمل.
أحبت ولاء الطفل كثيرًا، وكانت ترعاه كأنها أمه، لفت ذلك نظر عاطف
لها، فقرر أن يرتبط بها حتى يحفظ سمعتها أمام الجيران ويضمن من تحفظ بيته وولده، فهو يثق في رأي سميرة في الناس -الذي
لم يخطىء يومًا- فهي قالت له إن ولاء من الشخصيات النادرة الطيبة الوفية.
عوضها زواجها بعاطف كثيرًا عن سنوات المعاناة التي مرت بها، لقد كان
طيبًا ودودًا، لم تتخيل يومًا أن يكون شخص في مثل هذه الطيبة، كان يتابع معها
علاجها وجلساتها ويرى ولده يكبر أمامه ويقول لولاء يا ماما، كم كان سعيدًا وهو يرى
سعادتها على وجهها وهي تسمع منه تلك الكلمة "ماما"، تلك الكلمة التي
افتقدتها كثيرًا ولكنها الآن تسمعها وتشعر بها.
شجعتها رقية على متابعة طبيب للنساء لتعرف سبب تأخرها في الإنجاب
وشجعتها وشجعت عاطف على ذلك لما له من أثر طيب على علاج ولاء، عملت ولاء بنصيحة
رقية وتابعت لدى طبيب مشهور حتى حدث الحمل وأنجبت أحمد وهدى.
تعلمت ولاء من ماضيها أن تربي أبنائها على الحب والقوة، علمتهم
جميعًا أن الحب ليس ضعفًا أو استسلامًا، إنما الحب قوة، والحياة تحتاج القوي الذي
يستطيع اتخاذ القرار أيًا كانت صعوبته، تعلموا وتخرجوا في الجامعة، وظلت ولاء
مواظبة على علاجها، توفى زوجها بعد عشر سنوات من الزواج وأصبحت هي الأم والأب
لثلاثة أطفال، وقررت ألا تتزوج مرة أخرى وأن تُفني عمرها في تربية الصغار وقد كان
وفرحت كثيرًا بهم.
ومرت الأيام والسنون وكبر الأطفال، علمتهم أن الحياة قرار، الحياة
جميلة في جنب الله، أصرت على إنهاء حفظهم للقرآن الكريم والأحاديث النبوية، كُرم
أحمد في مسابقة حفظ القرآن الكريم وكذا كُرمت هدى ومحمد ابن زوجها المتوفى.
أخيرًا وصلت ولاء إلى نهاية مشوارها بعد أن غرست القيم والأخلاق في
أولادها، علمتهم الحب وكفالة اليتيم والعطاء لمن يستحق، توفيت ولاء بعد صراع مرير
مع الأيام تعلمت منه الكثير وأخيرًا ذهبت لأحمد ابنها وذهبت لوالديها، أخيرًا علمت
الحقيقة، أننا جميعًا خُلقنا لنُؤدي دورًا محددًا في الحياة وأن الحياة دار ابتلاء
وامتحان، أخيرًا الراحة بعد الشقاء وأسلمت روحها لبارئها في سلام.
تمت،،
شيرين مصطفى
الاسكندرية
إبريل 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق