حاول فارس أن ينام، ولكن يأبى النوم أن يجد إلى عينيه سبيلًا، مضت
فترة طويلة قاربت على الشهر على دخول ولاء المستشفى وهو لا يستطيع النوم، يشعر
بالألم الشديد لعدم قدرته على مهاتفتها وسماع صوتها وعدم قدرته على رؤيتها، لم
يسمح له الطبيب بعد برؤيتها أو مهاتفتها، لأول مرة يبتعدا طوال هذه الفترة، لأول
مرة يشعر أن ولاء هي من يعطي للبيت حلاوته وروحه، وهي من تجعله روضة من رياض الجنة،
لم يعرف فارس كيف يُعد الطعام، لذا أصبح يشتري طعامه جاهزًا، لن يستطيع أن يذهب
لأي من إخوته أو لأمه، فهن يعلمن أنه مسافر مع زوجته، يحاول أن يأكل طعامه فلا يجد
له طعمًا، ليس كالطعام الذي تعده حبيبة قلبه، يحاول أن يبتلع طعامه بصعوبة، لم يكن يدري أن البيت بدون حبيبته هو جحيم يصْلِي
الوجوه، تنهد فارس "أه يا حبيبة قلبي كم أشتاق لرؤياك، كم أشتاق لحضنك
الدافىء".
كان فارس في البداية بعد علمه بدخول ولاء المستشفى يعتقد أن حجزها
هناك سيعجل من شفائها ويخرجها من حالة الاكتئاب التي سيطرت عليها كما سيخفف من
الضغط النفسي الواقع عليه وهو يراها تذبل أمامه ولا يستطيع أن يساعدها، اعتقد أنه
يحتاج لبُعدها ليستطيع لملمة شتات نفسه، ولكنه اكتشف عندما غابت فعلًا أنها هي من
كانت تخفف عنه مرضها واكتئابها، وأنه لا يستطيع العيش بدونها، لقد شعر أنه يحتاج
إليها أكثر من احتياجها له، لقد شعر أنه طفل ابتعد عنوة عن والدته، ويأبى أن يعيش
بدونها، لذا اتخذ قراره سيتصل بالطبيب لابد أن تخرج ولاء من المستشفى وسيقوم هو
على رعايتها، لن يتركها تغيب عن عينيه، قرر فارس أنه يستطيع تحمل تقلبات ولاء
المزاجية، ويستطيع حمايتها من نفسها ومن محاولات الانتحار، اتصل بالطبيب وهو في
حالة يرثى لها يكاد قلبه يتقطع على حبيبته وتحول لطفل صغير لن يصمت حتى تعود له
والدته، سمح له الطبيب بعد إلحاح شديد بمهاتفة ولاء والاطمئنان عليها، ولكنه حذره
من خطورة خروج ولاء من المستشفى قبل إتمام الشفاء، لم يسمع منه فارس أية كلمات سوى
أنه يستطيع الآن مهاتفة ولاء.
لم يكن فارس يتوقع أن تظل ولاء مصرة على قرار الصمت وعدم الكلام طوال
هذه الفترة بل وتصر على عدم الكلام معه هو أيضًا، لم تهاتفه ولاء بل أصرت على عدم
التحدث معه كانت تصر على الصمت التام، مما جعل فارس يجن، ثار فارس وذهب للمستشفى
وهو لا يدرك ما يفعله، حرر محضر ضد المستشفى باحتجاز ولاء ضد إرادتها، تم إبلاغ الطبيب بوجود الشرطة في المستشفى وتحريره محضر
ضد المستشفى.
حضر الطبيب وحذر فارس في محضر رسمي من خطورة التطورات التي يمكن أن
تلحق بولاء وضرورة وضعها تحت الملاحظة الطبية، وأن خروجها في ذلك الوقت خطر على
حياتها، ولكن مع إصرار فارس أنهت المستشفى إجراءات خروج ولاء مع توقيع فارس على
إقرار خروجها وعدم مسئولية المستشفى والطبيب المعالج عن تبعات ذلك عليها.
كتب الطبيب العلاج وحدد موعد الجلسات التي لابد من الخضوع لها، وافق
فارس على الجلسات وطريقة العلاج التي طلبها الطبيب، فهو لم يكن يشعر بشيء سوى أنه
يريد أن يرى ولاء، أن يحتضنها، أن يعتذر لها عن عدم قدرته على ملاحظة تعبها
وحالتها المتهدورة.
وبالفعل خرجت ولاء من المستشفى ومعها أوراقها التي كتبت بها ما جال
بخاطرها طوال فترة وجودها بالمستشفى، والأوراق التي تواصلت من خلالها مع التمريض
والأطباء، لم يلاحظ فارس أن ولاء تحاول إخفاء بعض الأوراق عندما وصلا للمنزل، كما
لم يلاحظ أن ولاء لم تكن على طبيعتها، لقد كانت ساهمة شاردة طوال الوقت، تنحدر
الدموع من عيونها أنهارًا، عندما وصلت بيتها واحتضنها فارس كانت ولاء في عالم آخر
غير الذي توجد فيه فعليًا.
لم تكن ولاء ترى زوجها وحبيب قلبها، كانت في عالم آخر، عالم اعتقدت أنها نسته بزواجها من فارس وحبها له وحبه لها، ولكن هيهات يأبى عقلها طي ما حدث في الماضي، وتأبى ذاكرتها نسيانه، على قدر ما كانت تحتاج لحضن زوجها الدافىء والشعور بالأمان في أحضانه، كانت تشعر بالخوف وتتذكر نبيل ومن على شاكلته، فما كان منها إلا أن بكت بشدة وحاولت الابتعاد عنه لم يفهم فارس سبب ذلك؛ وكلما زاد بكائها احتضنها بشدة حتى يخفف عنها وحاولت هي الابتعاد أكثر، كان حضن فارس بالنسبة لها يجمع كل المتناقضات، الحب والكره، الأمان والخوف، الحياة والموت، ولكنها كانت تحب فارس وهو الشخص الوحيد الذي كانت تشعر معه بالأمان، تعلم أنه أمانها وأنه هو من يزود عنها الألم وشرار الناس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق