الأحد، 14 فبراير 2021

الفصل الثامن


 

من أوراق ولاء..

أتذكر ذلك اليوم جيدًا، إنه أول أيام الدراسة وذهابي للمدرسة، ذهبت مع بعض الأطفال معي من الملجأ، وداخلنا خوف كبير وعلامات استفهام أكبر لأول مرة نغادر الملجأ، طلبت منا مشرفة الملجأ الذهاب للأخصائية الاجتماعية بالمدرسة وعدم الاختلاط بالأطفال الآخرين، وبالفعل سألنا عن الأخصائية الاجتماعية عندما وصلنا المدرسة، وتعرفنا عليها وبدأت في إعطائنا بعض المعلومات عن المدرسة والدراسة وسلمتنا الزي الدراسي الخاص بالمدرسة، كما سلمتنا الكتب الدراسية.

كانت أبلة سلوى  -كما اعتدت أن أناديها- أطيب من قابلت، أذكر حين سألتها عن سبب طلب المشرفة منا عدم الاختلاط بالأطفال الآخرين ردت عليَّ ردًا مختصرًا لم أفهمه حينها "لأنكم مختلفون، والبشر تخاف الاختلاف، ولأنكم ضعفاء والبشر يبحثون عن الأضعف ليقهروه، نخاف عليكم من خوفهم منكم ورغبتهم في قهركم." كان رد أبلة سلوى غريب؛ فكيف نكون مصدرًا للخوف ويقع علينا القهر؟

كنا نحن الثلاثة أنا وإيمان وداوود من التحق بهذه المدرسة من الملجأ، كما كنا معًا في ذات الفصل، إيمان هي صديقتي من الدار منذ فتحت عيني على الدنيا كانت معي، أكبرها بشهرين، جميلة هي بيضاء صهباء، ذات عيون عسلية وأهداب طويلة، أحب أن أنظر لعينها، كانت معي في نفس العنبر تنام على الفراش الذي يقع على يميني، إلا أن إيمان لا تعرف لها أهلًا لأنها كما يذكر المحضر الذي حُولت به للملجأ، وُجدت تحت إطار إحدى السيارات، أما داوود فهو أرق طفل يمكنك أن تراه في حياتك، ظل معنا في الدار حتى أنهينا المرحلة الابتدائية ثم ذهب إلى دار أخرى، كما فعلنا نحن أيضًا، ذهبنا لدار للإناث فقط وهو ذهب لدار للذكور فقط، أسمر البشرة، كانت له ضحكة لا تموت -ولكنها ماتت في أول شهور الدراسة- جعد الشعر أسوده، هادىء الطباع.

في بداية اليوم الدراسي دخلنا الفصل لنبدا أولى خطواتنا في الحياة خارج الملجأ، في الملجأ كنا نعرف أننا أيتام ولكن لم يكن أحد يعيِّرنا بذلك، ولكن في المدرسة دخل المدرس وفي بداية الحصة سأل عن أسمائنا وعمل الأب، وعندما جاء الدور علينا لم نعرف ماذا نقول، نظرت لإيمان وداوود كما نظرا هما إليَّ وأمسكت إيمان يدي، وكأننا اتفقنا على الرد،

-اسمي إيمان، يتيمة وما أعرفش أي حاجة عن أهلي.

-اسمي ولاء، يتيمة والدي ووالدتي اتوفوا في حادث سيارة.

-اسمي داوود، يتيم والدي الله يرحمه كان محاسب.

نظر لنا المدرس بتهكم وقال "هو أنتم اللي جايين من الملجأ؟" وكان ردنا عليه بالإيجاب.

لم نفهم في ذلك الوقت أن إجابتنا هذه ستكون بداية الوبال علينا، فهذا المدرس، ومثله كثيرون، لم يفهم أن كل واحد منا له حكاية وراء دخوله الدار، وأننا لسنا كلنا لقطاء ولا ذنب لنا فيما حدث من آبائنا أو حدث لهم، فحكايتي كما سطرتها وكذلك إيمان أما داوود دخل الدار منذ أقل من سنة بعد وفاة والديه في انهيار عقار وأودعه عمه دار الأيتام لعدم قدرته على تربيته والإنفاق عليه، إننا لم نفهم أن هذا السؤال كان يحمل الاستهزاء بنا، وبداية قهرنا من مجتمع لا يرحم من كان ضعيفًا.

كان اسم هذا المدرس أ/نبيل، ولكنه لم يكن نبيلًا قط، كان يدرسنا في الصف الأول الابتدائي، جعل منا نحن الثلاثة أضحوكة بين التلاميذ، كان يتعمد إذلالنا وإهانتنا أمام زملائنا، كان يختارنا نحن بالذات للأسئلة التي يعجز الطلبة عن حلها، في البداية كنا نخجل لأننا لا نعرف الحل ولكننا اعتدنا ذلك بعد فترة، كان يبدأ في النقد والتهكم علينا، ثم يلعن التعليم المجاني الذي يأتي باللقطاء للتعليم.

بعد أول أسبوع من الدراسة ابتعد عنا الطلبة، وبدأنا نرى الاحتقار في نظراتهم، ولم نعرف سبب ذلك، فسألنا أحد الطلبة عن سبب ابتعادهم وقال لنا "أستاذ نبيل قال لماما إنكم من الملجأ وإنها لازم تخاف عليا منكم" كان رد زميلنا غريب علينا ولم نفهمه آنذاك، وكان ما فهمناه فقط وقتها أننا لن نجد من يشاركنا اللعب والضحك والمذاكرة ولكننا لم نفهم حينها معنى أن تكون لقيطًا، لم نفهم معنى أن تكون وحدك تواجه هذه الحياة بلا عون أو سند، ابتعد عنا الجميع، لقد خاف منا أهالي باقي الطلبة وبدأت سلسلة القهر، حيث كشر الوحش عن أنيابه، فأستاذ نبيل لم يكن متزوجًا، وكنا بالنسبة إليه هدية جاءته على طبق من ذهب، كان يعشق الأطفال ولكنه ينتقي منهم من لا أهل له ولا سند، وقادنا حظنا العاثر إليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...