الأربعاء، 17 فبراير 2021

الفصل الحادي والعشرون


 

في المستشفى..

د.عصام: ازيك يا دكتورة رقية أخبارك إيه؟

د.رقية: تمام الحمد لله، أهو النهاردة أول يوم ليا في المصحة ومش عارفة هستلم إيه؟

د.عصام: المستشفى كلها تحت أمرك، بس فيه حالة عايزك تشوفيها.

د.رقية: دي هشوفها عشان أقول رأيي فيها، وألا أعتبر إنها تكليف ليا بالحالة باعتبارك مدير المستشفى.

د.عصام: لا أبدًا بس الحالة دي بقالها أكتر من شهرين عندنا وللأسف الحالة بتتأخر مش بتتقدم، موجودة في عنبر العزل لإنها بتحاول الانتحار أكتر من أي حاجة في الدنيا، معلقين لها محاليل ومتكتفة عشان محاولات الانتحار، مش عايزة تتكلم مع حد، وعلى فكرة أنا كنت بتابعها في العيادة قبل ما تدخل المستشفى وطلبت وضع تسجيل في أوضتها عشان نقدر نفهم الحالة.

د.رقية: شوقتني أشوف الحالة دي، هي راجل وألا ست.

د.عصام: مدام ولاء محمد، عندها 30 سنة، متجوزة وحالتها اتدهورت بعد موت ابنها، بتعتبر نفسها السبب في موته.

د.رقية: وتشخيص حضرتك إيه للحالة؟

د.عصام: في الأول كنت بعالجها على إنها حالة اكتئاب عادية بس أنا شكيت في التشخيص بعد لما جت المستشفى.

د. رقية: حضرتك شاكك في إيه؟

د.عصام: اضطراب ثنائي القطب مع اضطرابات في الشخصية، بس مش متأكد لأن الحالة رافضة الكلام ورافضة الحياة، دي التسجيلات اللي سجلناها لولاء اسمعيها ولو حبيتي تتابعيها أكون ممنون ليكِ.

د.رقية: أعتقد حضرتك رشحتلي الحالة دي عشان موضوع رسالتي؟

د.عصام: فعلًا يا دكتورة، رسالتك كانت عن الاضطراب ثنائي القطب وأعتقد لما هتسمعي التسجيلات هتعرفي إنها محتاجة طبيبة مش طبيب يتابعها.

د.رقية: تمام هسمع التسجيلات وأراجع ملف الحالة وطبعًا حضرتك معايا في العلاج خطوة بخطوة

د.عصام: طبعًا وشاكر لحضرتك، مدام أميمة الممرضة في قسم الحريم هتساعدك هكلمها تجهز كل حاجة ومكتبك هيكون جنب مكتبي هنا.

د.رقية: دي ثقة اعتز بيها ربنا يوفقني وأكون أدها، بعد إذن حضرتك.

د.عصام: اتفضلي.

ذهبت رقية إلى قسم الحريم لتتعرف على التمريض هناك وتتعرف أكثر على حالة ولاء، إنها أول حالة تعالجها بعد حصولها على درجة الدكتوراه، وكونها تتابع حالة وحدها تعتبره تحديًا يجب أن تثبت أنها قادرة عليه، تعلم أن المرض النفسي من أصعب الأمراض في شفائه وأول أسباب كونه صعبًا نظرة المجتمع للمريض النفسي وعدم قدرتهم على استيعاب ضرر تصرفاتهم على تدهور حالة المريض.

لقد رأت رقية في أثناء دراستها وتدريبها العديد من الحالات التي يُفضل فيها الأهل عدم إكمال العلاج، أو إرجاعهم سبب مرض الحالة لمس سفلي، كم من حالة انتحرت أو ساءت حالتها بسبب عدم قدرة الأهل على استيعاب معنى المرض النفسي.

تعتبر رقية أن حالة ولاء تحدٍّ لها ولقدرتها على العمل وممارسة مهنتها، هي إثبات لقدرتها باعتبارها امرأة أن تكون طبيبة نفسية، تعرف أن تخصصها في الطب النفسي في هذا المجتمع من المستحيل أن يتقبله مجتمع يقدس الذكر ويعتبره كاملًا صالحًا لكافة الأعمال والوظائف ويعتبر الأنثى كائنًا لا مكان له لإثبات ذاته، وأنها مجرد سبيل لقضاء شهوة.

تذكرت رقية الصعاب التي مرت بها لكي تُقنع والداها بمجال الطب النفسي، لقد درست في كلية الطب وتخصصت في الطب النفسي، كانت ترى الكثير من الحالات التي تحتاج إلى العلاج ولكنها تأبى الاعتراف بمرضها، قررت أن تخوض الصعاب وها هي الآن ناقشت رسالة الدكتوراه وحصلت على الدرجة العلمية وتضع قدمها على بداية طريق تعرف صعوبته، تشعر بالعرفان للدكتور عصام الذي أعطاها فرصتها لإثبات ذاتها ولكنها ما زالت لا تعلم هل بالفعل يثق بها ليعتمد عليها في حالات صعبة أم أنه يضع أمامها الأمر الواقع ويقول لها عبر تكليفها بالحالات أنت لست كفءً لهذا العمل.

نفضت رقية عن رأسها تلك الأفكار عندما وصلت لعنبر الحريم ووجدت مدام أميمة التي أطلعتها على حالة ولاء وأعطتها الشرائط التي سُجلت لولاء منذ ما يزيد عن الشهر، أخذت الملف ودخلت غرفة المكتب التي خصصها لها د.عصام، وبدات تفتح ملف ولاء.

"الإسم: ولاء محمد سمير عبد الواحد

الحالة الاجتماعية: متزوجة

التشخيص المبدئي: اكتئاب حاد وميول انتحارية  - محاولات انتحارية كثيرة يُوصي بوضعها في غرفة العزل ووضعها تحت الملاحظة الدائمة.

الأدوية: مجموعة من الأدوية الخاصة بالاكتئاب وتثبيت الحالة المزاجية، ديباكين، كويتابيين، وأدوية أخرى.

الملاحظات على الحالة:

محاولات انتحارية وعزوف عن الطعام ورغبة في الموت  -هلاوس ظهرت خلال التسجيلات للمريضة، لم يزرها أحد طبقًا لتوصيات مدير المستشفى ولم يسأل عنها زوجها ولم يُوفر المعلومات التي طُلبت منه منذ ما يزيد عن الشهر، أي منذ وضعها في عنبر العزل".

أمسكت الشرائط بترتيبها منذ اليوم الأول للتوصية بالتسجيلات بعد الأسبوع الأول من دخول ولاء المستشفى.

اليوم الأول:

 أحمد يا حبيبي عامل إيه، معلش يا حبيبي مش عارفة أجيلك غصب عني يا ابني تعالى في حضني يا حبيبي وحشتني قولي إنت عامل إيه لوحدك والله ما عارفة أجيلك إنت شايف كل مرة بحاول أموت فيها مش بتنفع ومش بموت!!

ياااااااااااااااااااه يا حبيبي حضنك حلو حاضر هقطع شرايين إيدي بالكانيولا استنى كده وساعدني ااااااه خلاص دمي بينزف اهو أنا جاية.

ملاحظات: تم إنقاذ المريضة والتوصية بتكبيلها ووضعها تحت الملاحظة المستمرة وزيادة الأدوية المهدئة.

اليوم الرابع:

شفت يا أحمد برضه ما عرفتش آجي، مش عارفة أنقذوني ازاي!! ماما ساعديني إنتِ وقوليلي أعمل إيه؟؟ أحمد مبسوط معاكِ، حضنك وحشني يا أمي هو بابا فين ليه مش معاكِ، زعلان مني ليه؟ والله يا أمي مش عارفة أجي كل مرة بحاول أموت فيها بينقذوني.

اليوم العاشر:

ابعد عني، سيبني حرام عليك ابعد عني، إنت إيه اللي جابك هنا؟!!

 الحقوونييييييييييي

صوت التمريض مالك فيه إيه؟؟

ابعدوا عني نبيل عايز يغتصبني ابعدوه حرااااااااااااااااااااااااااااام عليكم.

استدعت د.رقية الممرضة النوبتجي لسؤالها عن الحالة ووجدت مدام هالة.

رقية: هالة إنتِ متابعة الحالة من إمتى؟

هالة: متابعة الحالة دي من ساعة ما دخلت العزل، يعني من حوالي شهر.

رقية: ممكن تقوليلي أخبار الحالة إيه؟

هالة: الحالة دي بالذات على طول بتصرخ، بس أكتر حاجة صراخها وطلب إننا نبعد عنها واحد اسمه نبيل بيغتصبها وساعات بتنادي على واحد اسمه فارس من الملف عرفنا إنه جوزها.

رقية: طيب والزيارات؟

هالة: محدش زارها من ساعة ما دخلت المستشفى ورافضة تاكل أو تشرب وكمان رافضة الدوا بتاخد العلاج بالعافية والمهدئات مش بتنقطع عنها الديباكين من الأدوية المستمرة معاها وكمان الانديكويبين ومجموعة تانية بتتغير من أسبوع للتاني بس للأسف لغاية دلوقتي مش جايبة أي نتيجة.

رقية: ممكن حد يتصل بجوزها عشان محتاجة أقابله قبل ما ادخل للحالة.

هالة: حاضر يا دكتور هنتصل بيه ييجي لحضرتك بكرة الصبح عشان تكوني خلصتي الملف والتسجيلات.

رقية: تمام يا هالة متشكرة جدًا ليكِ.

هالة: أنا تحت أمرك لو احتجتي أي حاجة، عن إذنك.

رقية: اتفضلي بس يا ريت كوباية قهوة شكلي هسهر النهاردة.

هالة: حالًا.

لم تشعر رقية بنفسها إلا مع اتصال والدتها تسألها عن سبب تأخرها في العمل، نظرت رقية في ساعتها ووجدتها السادسة مساءً، اعتذرت لوالدتها عن تأخرها وكانت قد انتهت من الاستماع للتسجيلات الخاصة بولاء، تعتبر رقية أن حالة ولاء هي الحالة التي تثبت بها جدارتها وقدرتها على أن تصبح طبيبة نفسية لها اسمها، تشعر أن الكل يستغرب تخصصها كونها طبيبة أنثى في ذلك التخصص، تتذكر رقية كيف حاربت لتكون طبيبة وكيف ضحت بحياتها وحبها حتى تُكمل حلمها في العمل كطبيبة نفسية.

شردت رقية في عادل، زميلها في الكلية كان يحبها وتحبه وكان يعتقد أنها ستنهي دراسة كلية الطب وتتزوج وينتهي بها الحال زوجة طبيب مشهور تعيش هي في المنزل وتربى الأبناء ويكون هو اسمه وشهرته وعيادته ويُكمل مسيرته المهنية، لم تُعجبها أنانية عادل قط، كيف يرسم مسيرته المهنية ويطلب منها أن تتخلى عن أحلامها العملية وتكتفي بدورها كزوجة وأم ولا تكمل مسيرتها العلمية مثله، وعندما أصرت على رأيها خيرها عادل بينه وبين إكمال مسيرتها العلمية والعملية بدونه، وحسمت قرارها أن تكمل مسيرتها العلمية والعملية، لن تتخلى عن أحلامها لتكون مجرد زوجة وأم، هي تريد أن تثبت نفسها وإذا أرادت أن تُنهي مسيرتها العملية وتضحي بها من أجل أبنائها فلا مانع لديها من ذلك، ولكن هي ترى أن هذا القرار يجب أن يكون قرارها هي وليس قرار أي شخص آخر.

تركت عادل وأكملت مسيرتها العلمية وها هي تشرف على أول حالة في تخصصها الذي اختارته وتريد أن تثبت لعادل ولغيره أنها قادرة على إثبات نفسها في الشق العلمي والعملي وأيضًا في الشق العاطفي؛ إلا أنها قررت أن تؤجل التفكير في الحب والزواج مرة أخرى حتى تثبت نفسها أو حتى تجد من ترى أنه جدير بها وجدير أن تؤجل أحلامها قليلًا من أجله، طوت رقية صفحة عادل والحب والزواج منذ تخرجها من كلية الطب وها هي الآن ناقشت رسالة الدكتوراه وبدأت أولى خطواتها العملية مع حالة تُشرف عليها، أغلقت ملف ولاء ووضعته في درج مكتبها وتناولت حقيبتها وعادت إلى البيت لوالدتها، ومازال تفكيرها في حالة ولاء وكيف تُخرجها عن صمتها أمام الأطباء والبدء في علاجها.

ذهبت رقية إلى المستشفى في اليوم التالي وأكملت دراسة ملف ولاء ولاحظت أن كل من تابع حالة ولاء كانوا من الأطباء الذكور ولم تتجاوب ولاء مع أيٍ منهم؛ حتى د.عصام الطبيب الأصلي للحالة بعد دخولها المستشفى في المرة الثانية رفضت التحدث معه هو الآخر، طلبت رقية لقاء د.عصام لتعرف منه سبب تأخر السماح لزوج ولاء بزيارتها وبالفعل قابلت د.عصام وعلمت منه طلاق فارس لولاء وعدم إخبارها بذلك حتى لا تزداد الحالة سوءًا، حتى إنه لم يهتم بالسؤال عنها طوال ما يزيد عن الشهر كل ما يفعله هو دفع مبالغ تحت حساب علاجها في المستشفى.

قررت رقية أن تبدأ في حث ولاء على الكلام، ولكنها ظلت تفكر كيف تفعل ذلك؟ ووجدت أن عليها أن تدخل لولاء وتعرف ولاء بنفسها وترى كيف ستسير المقابلة، نادت رقية الممرضة النوبتجية وكانت مدام أميمة.

رقية: أميمة لو سمحتى محتاجة حد يتصل بأستاذ فارس زوج مدام ولاء ويا ريت ييجي النهاردة الساعة 6 مساءً.

أميمة: حاضر يا دكتور، حضرتك تطلبي أي حاجة تانية؟

رقية: يا ريت تلحقيني بكوباية قهوة وتجيبيهالي في أوضة مدام ولاء

أميمة: حاضر يا دكتور، بعد إذنك.

وبالفعل انصرفت أميمة لعمل القهوة للطبيبة وطلبت من سويتش المستشفى الاتصال بفارس كما أوصت الطبيبة، ودخلت رقية حجرة العزل الموجود بها ولاء، كانت ولاء تتحدث مع أحد ثم صمتت عندما فتحت رقية الباب وظلت ولاء تحدق في الفراغ أمامها تبتسم تارة وتبكي تارة أخرى، لم تجد رقية بدًا من بدء الكلام.

رقية: صباح الخير يا مدام ولاء، أنا دكتورة رقية المشرفة على حالة حضرتك، مفيش حد غيري هيضايقك أنا بس اللي هضايقك بوجودي معاكِ شوية كده، وابتسمت رقية عندما رأت ولاء تنظر لها وعلى وجهها يلوح شبح ابتسامة:

طب كويس إن كلامي عجبك ممكن بقى تسيبي أهلك شوية ونتكلم احنا مع بعض وهسيبك ترجعي تقعدي معاهم تاني، ونظرت رقية إلى حيث تنظر ولاء ووجهت حديثها للفراغ لو سمحتم ممكن أتكلم مع ولاء شوية لوحدنا.

نظرت لها ولاء نظرة تحمل استفهامًا، "هل ترينهم مثلي؟" وفهمت رقية هذه النظرة لذا استغلت هذا المدخل ولم تجب بالإيجاب أو السلب ولكنها طلبت منها أن تُعرفها بهم.

رقية: ممكن تعرفيني بيهم الأول يا مدام ولاء؟

نظرت إليها ولاء نظرة تعجب هل تراهم مثلها، كانت ولاء تريد أن يشاركها غيرها رؤيتهم، أن يتحدث معهم أحد كما تفعل هي، لا أن ينظر لها الأطباء نظرة شفقة لمجنون فقدوا الأمل في إمكانية شفائه، فأعادت عليها رقية السؤال مرة أخرى: ممكن تعرفيني عليهم؟

ولاء (وهي تنظر جهة اليمين): دي والدتي، جت لما دخلت المستشفى هنا.

ثم حولت نظرها على أركان الغرفة وهي تعرف الموجودين: ودا داوود كان زميلي في الدار والمدرسة ودخل الجامعة ودلوقتي هو معيد هناك، ودي إيمان زميلتي في الدار والمدرسة مكملتش تعليمها واشتغلت في محل كوافير وكانت سمعته وحشة واتقبض عليها ومعرفش إيه اللي جابها وليه عايزة تنتقم مني؟! ودا أحمد ابني دلوقتي عنده سنة وكام شهر بيقول ماما وبيضحك معايا وطلبه الوحيد مني مش عارفة انفذه، أما الحيوان اللي هناك ده أستاذ نبيل كان المدرس بتاعي وأنا في سنة أولى وكل يوم ييجي "وأدمعت عينا ولاء وهي تكمل" عشان يغتصبني ويفكرني باللي عمله معايا في المدرسة وانهارت باكية.

رقية احتضنتها وقالت: متخافيش من النهاردة الحيوان ده إنتِ اللي هتضربيه وهو متكتف وكمان كل يوم هتموتيه بطريقة مختلفة وتطفي نارك.

نظرت إليها ولاء نظرة متسائلة كأنها تسألها "كيف ذلك"، واستغلت رقية الفرصة التي سُنحت بالكلام مع ولاء والتعرف على الشخصيات الفاعلة في هلاوسها فقالت لها: لازم تحكيلي كل حاجة يا مدام ولاء عشان أعرف نقطة ضعف الحيوان ده ونقطة قوتك عشان تستردي حقك منه إنتِ وكل اللي ظلمهم، في حد تاني هنا أنا مش عارفة هو مين؟ مين ده؟

ودون أن تنظر للطبيبة قالت لها: ده فارس جوزي بيخوني وسابني في عز حاجتي ليه.

رقية: ممكن بقى لو سمحتم كلكم كده تسيبونا مع بعض، ويا ريت يا أستاذ فارس تكتف نبيل وتبعده عن مراتك ده حقها عليك وألا إيه؟ ممكن بقى اقعد مع ولاء براحتي؟

ولاء: على فكرة دي أول مرة يسيبوني لوحدي ويخرجوا.

رقية: لازم تكوني قوية يا مدام ولاء عشان تقدري تسيطري عليهم وتاخدي وقت راحة منهم وألا إيه؟ تحبي ننزل في الجنينة بتاعة المستشفى شوية ونتكلم براحتنا وأوعدك أعرفك ازاي تكوني قوية.

ولاء: لأ مش عايزة اتحرك بس هو أنا هفضل متكتفة كده كتير؟

رقية: بصي عشان أكون صريحة معاكِ إنتِ عايزة تموتي نفسك وده مينفعش يحصل في المستشفى فالحل الوحيد إنك تخفي عشان تقدري تعملي اللي نفسك فيه.

نظرت لها ولاء باستغرب: يعني لازم آخد العلاج وأخف عشان أقدر أموت نفسي؟

رقية: مش بالظبط كده، بس لازم تكوني قوية وعارفة إنتِ عايزة إيه؟ وعايزاه ليه؟ عشان تاخدي حقك من اللي ظلمك ومتخليش حد يظلمك تاني وعشان تكوني إنتِ صاحبة القرار.

ولاء: مش فاهمة حاجة.

رقية: بصي يا مدام، البيبي الصغير في عمر أُسبوع بيعيط عشان عايز ياكل لكن هل هو عارف هو عايز ياكل ليه؟

نظرت لها ولاء باستغراب ولم تتكلم!!

رقية: بيعيط عشان الأكل، لكنه في السن ده غير مدرك إنه لازم ياكل عشان يعيش ويعمل اللي نفسه فيه، كل اللي يعرفه بس إنه عايز ياكل، إنتِ بقى عايزة تموتي وده حقك لكن ليه عايزة تموتي وهل ده اللي إنتِ فعلًا نفسك فيه؟ وألا دي رغبة حد تاني؟

لازم تعرفي الأول إنتِ عايزة إيه؟ وليه عايزاه؟ وهل اللي إنتِ عايزاه ده فعلًا هيتحقق؟ بصي لو أنا والدي ميت وكل يوم بشوفه ويقولي تعالي عشان إنتِ وحشاني وأنا بحبه وعايزه أروحله، هنا أنا عايزة أروحله عشان بحبه وأكون معاه بس طيب عشان أموت يبقى لازم أموت نفسي طيب هو بابا موت نفسه لأ ده توفى عادي زي كل الناس ما بتتوفى يبقى السؤال طب لو أنا قتلت نفسي هل هروحله وألا هروح مكان تاني هو مش فيه، الإجابة هروح مكان تاني هو مش فيه لأن أنا قتلت نفسي فعقابي هيكون إني أبعد عنه، رغم إن الموت رغبتي عشان أكون جنبه لكن الحقيقة مش هكون جنبه بل بالعكس هفقده نهائيًا.

نظرت لها ولاء نظرة من يفكر في الكلام ولكنه غير مصدق وقررت رقية أن تمضي قدمًا في حديثها دون أن توحي لولاء أنها تعرف عنها كل شيء، لأنها تريد من ولاء الحديث والاستفاضة فيه قدر استطاعتها.

رقية: ممكن نتكلم مع بعض شوية عنكِ إنتِ؟

ولاء: أنا تعبت ممكن نكمل وقت تاني؟

رقية: ممكن طبعًا براحتك، عن إذنك وافتكري خليكِ دايمًا قوية وحاسمة معاهم عشان تقدري تستريحي وفكري في كلامي.

تركت رقية ولاء وهي تعلم أن مفتاح حديث ولاء معها كونها أنثى، وأيضًا اعترافها بما تراه ولاء، كانت تعرف أن السبب الأول كاف لتتقبلها ولاء، فولاء تخاف كل الذكور وهم بالنسبة إليها مجرد حيوانات تبحث عن الغريزة، لم تتوقع رقية أن تستجيب ولاء لها وتعرفها على الأشخاص الفاعلين في هلاوسها، كان أقوى هؤلاء أستاذ نبيل وأحمد ولدها، بينما كان الباقي أضعف في تأثيرهم على ولاء، واستغربت رقية ضعف تأثير فارس على ولاء، فمن ملف ولاء والأوراق التي تحتويه فارس هو الحب الأول والأخير في حياة ولاء وهو كل ما لها في الحياة، فكيف يكون دوره هامشيًا لهذه الدرجة!

فكرت رقية فيما عرفته من ولاء وما عرفته من التقارير الطبية، حالة ولاء تحتاج أن تثق في أحد لتتكلم، لقد علمت أن ولاء تحتاج أن تتكلم مع أحد تثق به ويفهم ما تراه وما تعانيه، وتوصلت رقية أن كل ما تحتاج إليه لعلاج ولاء هو أن تكسب ثقتها لكي تبدأ بالكلام ثم يبدأ العلاج.

وبدأت رقية وضع خطة علاج ولاء والتي تبدأ بكسب ثقة ولاء لكي تجعلها تحكي كل شيء، وذهبت كالعادة لغرفة ولاء لتتحدث معها.

رقية: ازيك النهاردة يا ولاء عاملة إيه؟

ولاء: الحمد لله، بس مخنوقة من الربطة دي.

رقية: معلش يا ولاء لازم كده شوية لغاية لما اطمن عليكِ، ممكن بقى أعرف منك شوية حاجات؟

ولاء: عايزة تعرفي إيه؟

رقية: اللي إنتِ عايزة تقوليه عنك، عايزة أعرف مين ولاء؟

ولاء: أنا يتيمة الأم والأب اتربيت في الملجأ لإن محدش عرف ليا أهل، كنت الملطشة للزمن والناس كله يلطش ويضرب براحته عشان مليش حد ومطلوب مني آدي خدي التاني للي يضربني على خدي الأول.

رقية: مين اللي قال إنك لازم تبقي ملطشة عشان يتيمة؟

ولاء: الملجأ والناس.

رقية: بالعكس ناس كتير عاشت حياتها يتيمة وقدرت تبقى حاجة مشرفة وتخلي الكل يفتخر بيها، احنا اللي بنحدد نظرة الناس لينا.

ولاء: إنتِ مصدقة نفسك يا دكتورة، احنا في مجتمع بيشوف الست اللي ملهاش ضهر واحدة سايبة وسهلة ياخد منها اللي هو عايزه وغصب كمان والناس تسقف له عشان كسر عينها وراحت في بكاء شديد.

رقية: ولاء إنتِ غلطانة، إنتِ قوية مش عشان إنتِ ست يبقى تستسلمي بالعكس، الوقت ده بيكون وقت تقدري تظهري قوتك لو ما قدرتيش إنك تمنعيه يغتصبك تقدري تاخدي حقك منه وتمنعيه يعمل ده في غيرك وساعتها إنتِ اللي هتقفي تضحكي عليه، ممكن تحكي لي حكاية نبيل ده عشان أقدر أساعدك تموتيه وتاخدي حقك منه وتضحكي عليه وتضحكي الناس كلها عليه؟

ولاء وهي مازالت تبكي: مش هقدر أتكلم تاني ممكن نكمل وقت تاني؟

رقية: براحتك يا ولاء وقت ما تحتاجي تتكلمي معايا اطلبي من التمريض وهتلاقيني عندك على طول، تحبي أدخلهم وألا أسيبك تنامي شوية وتفكري في الكلام اللي قلناه؟

ولاء: مش هتفرق؟

عرضت د. رقية على د. عصام ما دار بينها وبين ولاء..

د. عصام: إنتِ عارفة إنك عملتي خطوة كبيرة في علاج ولاء.

د. رقية: ازاي يا دكتور؟

د. عصام: أولاً: عرفنا مين هما الشخصيات الموجودة معاها دي حاجة مهمة جدًا.

ثانيًا: عرفنا إنها اتعرضت للاغتصاب في المرحلة الابتدائية ومين اللي ارتكب الموضوع ده وبالتالي عرفنا سبب خوفها من الأطباء الذكور وعدم كلامها معاهم.

 ثالثًا: هي مدركة الواقع المجتمعي وده عاملها ضغط شديد بتعززه حماتها واخوات جوزها بمعايرتها كل شوية إنها تربية شوارع وده من الجلسات اللي كنت بعملها معاها وكلام أستاذ فارس، أنا معرفتش موضوع الاغتصاب قبل كده بس كنت متوقعه رغم إن مدام ولاء وأستاذ فارس محدش أتكلم فيه ودورك المرحلة الجاية تعرفي منها هل فارس عارف ده وألا لأ.

رابعًا: إنتِ خليتي عندها مبرر تفكر فيه هي لو ماتت هتروح للناس دي وألا لأ وازاي تقدر تفضل معاهم ده هيشغل تفكيرها الفترة الجاية وحاولي الجلسات تكون يومية وتراعي فيها العصف الذهني عايزها هي اللي تفكر في مبررات شفائها لأنها طول ما هي مستسلمة للمرض مش هنقدر نساعدها تخف.

د. رقية: تمام يا دكتور أنا طلبت يتصلوا بفارس عشان أتكلم معاه شوية.

د. عصام: واسأليه عمل إيه في البيانات والمعلومات اللي طلبتها منه؟

د. رقية: حاضر يا دكتور عن إذن حضرتك.

ذهبت رقية لمتابعة باقي الحالات المسندة إليها، وسألت عن فارس زوج ولاء واستغربت إنه حدد الموعد بعد أسبوع كامل ولم يذكر السبب، راجعت رقية ملف ولاء مرة أخرى وأكدت على التمريض استمرار التسجيل لولاء ومتابعة حالتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...