الثلاثاء، 16 فبراير 2021

الفصل السادس عشر

 

منذ دخلت ولاء المستشفى في المرة الثانية وهي ترفض التعامل مع الأطباء، ترفض تناول الأدوية وتناول الطعام مما اضطر الأطباء لتركيب محاليل لها لتعويضها عن الطعام، وتم تركيب جهاز تسجيل في حجرتها لتسجيل ما تقوله، لقد سمعت إحدى الممرضات أن ولاء تتكلم وهي وحدها، فنقلت ذلك بدورها للأطباء في المستشفى وتم تركيب جهاز التسجيل ليستمعوا لما تقوله ولاء.

كانت حالة ولاء خطرة فعلًا، كانت تحاول الانتحار في كل لحظة، ومن أساليبها في ذلك ترك الطعام والشراب، حاولت فك المحاليل المركبة لها أكثر من مرة وقطع شريانها، مما اضطرهم في المستشفى لتكبيلها في السرير ووضعها في عنبر الحالات الحرجة الخطرة حتى لا تؤذي نفسها، أما ولاء كانت تكلم صغيرها وتحكي له عن هجر والده لها منذ وفاته.

أما والدة فارس فكانت سعيدة لأن ولدها طلق زوجته لكي يرضيها ولكنها في الوقت نفسه مستاءة أنه طلق زوجته وهي في المستشفى، لم تكن تعرف لماذا دخلت ولاء المستشفى لقد كذب عليها فارس وقال إن ولاء تعاني من ارتفاع في الضغط والسكر ومن الضروري بقاؤها في المستشفى حتى تتحسن، فخطر على بالها أن ما تمر به ولاء بسبب ما فعله فارس بها وأنه قد يكون ضربها عقابًا لها على ردها عليها، كم شعرت بالحزن وأنها السبب في طلاقها، وحزنت والدة فارس وهي تراه يذبل أمامها، فضلت أن تلومه على تطليق ولاء، خاصة وهي تشعر أنها السبب في دخول ولاء المستشفى.

لم تكن تعرف حتى تلك اللحظة أن ولاء في مستشفى للأمراض النفسية والعصبية، لقد أخدت ملابس ولدها لتغسلها وكانت تفتش فيها قبل غسلها فوجدت إيصال المستشفى في أحد جيوبه وبه تاريخ دخول ولاء للمستشفى. شعرت بالغيط والحنق على ولدها الذي أخفى عنها أن زوجته مجنونة  -بالنسبة لوالدة فارس، مستشفى للأمراض النفسية يعني أن النزيل مجنون  -وفرحت أنه طلقها وتخلص منها ولكنها كانت تخشى أن تطالبه ولاء بالنفقة، فهي تعرف أن ولدها طلق زوجته غيابيا وأنها يحق لها النفقة والمؤخر، فمن أين سيحصل على المؤخر، وتذكرت أن ولاء تركت كل ذهبها في المنزل لذا قررت أن شبكة ولاء ستكون مؤخرها، وحمدت الله أنها تخلصت منها ولكنها لم تنس أن تخبر بناتها والجيران أن ولاء مجنونة.

لم يعرف فارس أن والدته عرفت أن ولاء في مستشفى للأمراض النفسية إلا عندما اتصل به مدحت زوج أخته الكبرى علياء ليتأكد مما سمعه من زوجته عن جنون ولاء، لم يتمالك فارس نفسه من هول الصدمة، لم يكن يتوقع أن يعرف أحد بمرض ولاء النفسي، لقد جرحه نعتها بالجنون، فرغم حنقه عليها وغضبه لتصرفاتها لايزال يحبها ويخاف عليها، رغم أنه طلقها فلن يرضى أن يهينها أحد، تعصب فارس كثيرًا.

فارس بعصبية: إنت ازاي بتقول على مراتي مجنونة، إنت اتجننت وألا إيه؟

مدحت: انا ما قلتش حاجة من عندي أختك هي اللي قالت لي بعد ما أمها قالت لها، وحمدت ربنا إنك طلقتها.

فارس: وإنتم مالكم بحياتي، وإنت أصلًا بتكلمني ليه؟؟!!، خلي تعليقاتك لنفسك واللي هسمعه بيجيب سيرة مراتي بسوء هو حر.

مدحت: تاني بتقول مراتي، إنت طلقتها خلاص، وسهل إنك تهرب من إنك تديها المؤخر والنفقة لما تثبت إنها مجنونة وتدخلها مستشفى المجانين وتخلص منها.

أغلق فارس الخط مع مدحت، وكاد يجن مما سمعه، لقد افتضح أمر مرض ولاء النفسي وحدث ما كان يخشاه، لقد أخبرت أمه الجميع أن ولاء مجنونة وأصبح عليه أن يدافع عنها، وتذكر أن ولاء لها في رقبته مؤخرها ونفقتها، لن يهرب مما عليه تجاهها حتى لو كان طلقها حفاظًا على كرامته، ولكن الآن عليه أن يعرف إلى أي مدى انتشر خبر مرض ولاء النفسي، وما لبث أن وصل لعمارته حتى وجد الجيران ينظرون إليه و(يتصعبون) على حاله ومنهم من جاء يطرق بابه ليواسيه على محنته.

لم يعرف فارس كيف يتصرف، كيف يفهم الجميع أن المرض النفسي يختلف عن المرض العقلي، كيف يفسر لهم أن ولاء مسئولة عن أفعالها وتصرفاتها، كيف يفسر للجميع الفرق بين المرض العقلي والنفسي ولكنه قرر أن يرد على الجميع برد واحد، وهو "ما شأنكم أنتم، إنها زوجتي أنا ولا شأن لكم بها"، إلا أن هذا الرد لم يقنع والدته عندما ذهب إليها ليلومها على فضح ستره.

والدة فارس ما إن رأته: بقى بتضحك على شيبتي يا فارس وتقولي ضغطها وسكرها عاليين، وتخليني أزعل عليها؟ اخس عليك.

فارس بعصبية حيث لم يعد يحتمل كلامًا في ذلك الموضوع: وهيفرق إيه معاكم هي فين، هي مراتي.

والدة فارس تقاطعه: انت طلقتها خلاص ومش حقها تاخد منك حاجة.

فارس بغيظ وعصبية: أنا ردتها لعصمتي خلاص ورجعت في طلاقي ليها، هي لسه في العدة وما اسمعش كلمة تجرحها او تسيء ليها من حد، خلاص..

والدة فارس وهي تبكي: بقى كده يا فارس يا ابن بطني بتعلي صوتك عليا عشان واحدة مجنونة وتربية شوارع كمان.

فارس بعصبية: حرااااااااااااااااااااام حراااااااااااااااااااااااااااام، ارحميني بقى، من ساعة ما اتجوزتها وإنتِ مش طايقاها وحطاها على راسك ومش طايقة لها كلمة ونازلة فيها تهزيء وبهدلة من ورايا بسمعك وبسكت عشان هي مش بتشتكي ومش عارف لو كانت اشتكت كنت عملت إيه، ارحميني بقى وارحميها إنتِ ما سبتيش بني آدم إلا وقولتيله إنها مجنونة!!

وتركها وخرج من منزلها وصفق الباب وراءه، لا يشعر بأي شيء ولا يعرف إلى أين تأخذه قدماه، وجد نفسه على الكورنيش في المكان الذي كان يجمعه مع ولاء في بداية زواجهما، كانت تحب المشي على الكورنيش والنظر للنيل.

أما والدة فارس فظلت تبكي غير مصدقة ما فعله وحيدها للتو بسبب زوجته تربية الشوارع المجنونة. اتصلت بابنتها الصغرى هويدا وحكت لها عن تصرف فارس معها، لامتها هويدا على تسرعها في فضح سر فارس ونعتها لولاء بالجنون وسوء التربية أمام فارس، فلقد كانت هويدا مثل فارس تتقي الله في تصرفاتها، وتعرف أن ولاء على خلق وأنها لا ذنب لها في وفاة والديها، فهي يتيمة فعلًا لوفاة والديها وليست ابنة سفاح كما بعض الأطفال في دور الأيتام، لم تتحمل والدة فارس لوم ابنتها لها فتعصبت وأغلقت الخط في وجهها، فاتصلت هويدا بأخيها تطمئن عليه وعلى حاله وحال ولاء، رد عليها فارس وكان ما يزال على الكورنيش يستعيد الذكريات التي تجمعه بولاء.

هويدا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فارس: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، عاملة إيه يا هويدا؟

هويدا: أنا الحمد لله بخير وفي نعمة، اتصلت اطمن عليك، ماما كلمتني.

فارس: الله يكرمك يا هويدا مش عايز افتح في الكلام ده تاني.

هويدا: حبيبي أنا اتصلت عشان اطمن عليك إنتَ، لما عرفت من ماما إنك نزلت وإنتَ متنرفز وغضبان.

فارس: ربنا يخليكي يا أختي، أنا الحمد لله كويس بس محتاج أقعد مع نفسي شوية.

هويدا: طيب لو حبيت تتكلم في حاجة أنا موجودة وتحت أمرك.

فارس: ربنا يكرمك يا أختي، في حفظ الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هويدا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

مشى فارس على الكورنيش يستعيد ذكرياته مع زوجته وحبيبة عمره، ويلوم نفسه على تسرعه في طلاقها، لذا قرر أن يذهب للمأذون ليردها رسميًا كما كان الطلاق رسميًا وفي رأسه كانت آلاف الأفكار والذكريات تتزاحم لتجعله غير قادر على التفكير.

الكورنيش قبل أربع سنوات..

ولاء: الله يا حبيبي أنا مبسوطة قوي إننا مع بعض وبنحتفل بأول سنة على جوازنا.

فارس: بجد فرحانة يا ولاء؟

ولاء وهي تتمسك بيده: طبعًا إنتَ مش عارف إنت عملت فيا إيه!!، إنتَ بقيت كل حاجة في حياتي إنتَ جوزي وأبويا وأخويا وصاحبي وعيلتي كلها إنتَ حياتي نفسها والنَّفسْ اللي بتنفسه.

التفت لها فارس ليرى عينيها وجعل النيل على يساره وولاء أمامه: مش عارف بجد أقولك حبك عمل فيا إيه لولا إننا في الشارع كنت حضنتك وما خلتكيش تخرجي من حضني أبدا.

ولاء: بجد يا فارس بتحبني زي ما بحبك، يعني موضوع الولاد ده مش هيأثر على حبك ليا.

فارس: ولاء إنتِ عشق عمري، إنتِ حياتي ودنيتي كلها، ما اقدرش أبعد عنك حتى مسافة طرفة عيني، باعشقك واعشق كل تفاصيلك.

نظرت إليه ولاء وبعينيها دموع الفرحة مما سمعت والخوف من المستقبل: بحبك يا فارس اوعى تبعد عني أبدا.

خرج فارس من شروده على صوت السيارات وآلات التنبيه، عبر الشارع وذهب لمكتب المأذون الشرعي ورد ولاء لعصمته مرة أخرى، وبدا مرحلة أخرى في حياته.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...