الأحد، 14 فبراير 2021

الفصل السادس


 غادر فارس المستشفى، مر عليه أسبوع كامل لم ير فيه ولاء ولم يتحدث إليها، شعور مرير بالوحدة جعله يتذكر حياته الماضية مع ولاء، تذكر كيف رآها في الإدارة التي يعمل بها صديقه علي، كيف دخلت قلبه منذ اللحظات الأولى منذ وقعت عيناه عليها، أحبها حبًا شديدًا لم يدر له سببًا، سأل عنها واستغرب أن لا أحد يعرف أي شيء عنها وأُعجب بأخلاقها، لم تكن كثيرة الكلام ولم تُكون صداقات في العمل، إلا أن فارس عزا ذلك لأنها حديثة التعيين في المصلحة، وتذكر كيف تزوجها ورد فعل والدته.

فارس: ست الكل عايز أتكلم معاكِ شوية، فاضية؟

والدة فارس: شكلك فرحان ومبسوط، خير يا ابني إحساسي بيقولي إن فيه خبر حلو.

فارس: فعلًا يا أم فارس، أنا عايز اتجوز.

والدة فارس وهي لا تصدق ما سمعته للتو: يا ألف نهار أبيض يا ابني، شكلك اخترتها كمان، هي مين؟ وعندها كام سنة؟ وعرفتها منين؟

فارس: صبرك شوية عليا شوية يا أم فارس.

والدة فارس: أنا الدنيا مش سايعاني من الفرحة قوللي بقى.

فارس: هي زميلتي في الشغل، وأصغر مني ب 3 سنين.

والدة فارس: حلوة يا واد وألا تكون وحشة؟

فارس: زي القمر ومحجبة وملتزمة زي هويدا تمام.

والدة فارس: كلمتها طيب، واتفقت معاها نخطبها إمتى؟

فارس: هي موافقة، بس فيه حاجة.

والدة فارس: لو على الفلوس متشيلش هم كله يتدبر ولو على الشقة إنت كده كده شاري شقتك في السيدة زينب الشبكة والمهر سيبهم عليا لو مش عامل حسابك.

فارس: المشكلة في حاجة تانية غير الفلوس.

والدة فارس: قول يا ابني قلقتني، هي مطلقة أو متجوزة قبل كده؟

فارس: لا يا أم فارس، هي يتيمة والدها ووالدتها متوفيين.

والدة فارس: يا عيني يا بنتي، طيب هنطلبها من مين؟

فارس: من نفسها يا حاجة.

والدة فارس: نعم يا عين أمك؟

فارس: هي مقطوعة من شجرة.

والدة فارس: أُمَّال مين اللي رباها؟

فارس: دار أيتام.

لم يكد يكمل فارس جملته الأخيرة حتى انتفضت والدته من مكانها وكأن ثعبانًا قد لدغها لتوه، وولولت وصرخت: يعني من كل البنات اللي بيتمنوا التراب اللي بتمشي عليه متعجبكش غير تربية الشوارع اللي لا ليها أهل ولا أصل ولا فصل، دي اللي اخترتها يا ابني.

فارس: أنا اخترت خلاص وهتجوزها يعني هتجوزها.

والدة فارس: وأنا مش موافقة.

فارس: مفيش مشكلة برضه هتجوزها.

والدة فارس: لا وربنا دي عملالك عمل ولا تكونش غلطت معاها وعايز تصلح غلطتك ما هي تورطك وتتجوزها هي تطول واحد زيك؟!

فارس بعصبية: كفاية غلط فيها أنا قررت إني هتجوزها خلاص سواء وافقتي أو لا، مش مسئوليتها إن أهلها ماتوا.

والدة فارس: ماتوا وألا هي ما لهاش أهل أصلًا.

فارس: ماتوا.

والدة فارس: طب لو وافقتك وقلت ماشي هتقول إيه للمعازيم لما يسألوا عن أهل مراتك؟

فارس: مفيش فرح ولا معازيم هنعمل كتب كتاب في المسجد ونسهر أنا وهي في أي مكان وأروح على بيتي.

والدة فارس: كمان مش هفرح بابني الوحيد عريس، وربنا ما يحصل.

فارس: كتب الكتاب هيبقى أول خميس بعد ما أفرش الشقة.

والدة فارس: يا عيني عليا، وقال إيه مستنية افرح بابني واشوفه عريس في الكوشة أخرتها كتب كتاب ويروح كإنه عامل عملة ويتجوز ده أهل الحي هياكلوا وشي منك لله يا شيخ.

فارس: خلصت يا أم فارس، هتقفي تفرشي معايا وألا لأ؟

والدة فارس: لا يا فارس خلي بسلامتها تبقى تفرش الشقة، مليش فيه مش إنت مصر عليها اشربها بقى.

فارس: حاضر يا أمي هشربها بس خليكي فاكرة إنها من اللحظة دي خطيبتي هنزل اشتري الشبكة وألبسها لها الخميس الجاي عرفي أخواتي.

والدة فارس: والله ما يحصل الشبكة يوم كتب الكتاب وإن كان عاجبكم إنتم الاتنين.

فارس: هي كده حاضر، يبقى أنا هكلم البنات ينزلوا معانا في شرا الشبكة يوم الخميس ومفيش فصال وتلبس الشبكة يوم كتب الكتاب، بس هي من اللحظة بقت خطيبتي ومسمعش عنها كلمة وحشة ولا حد يتكلم عنها بسوء أو يكشر في وشها وإلا كلكم عارفين فارس ودماغه لما تركب شمال.

والدة فارس: حاضر يا فارس، هي عملت فيك كده ويا دوب كلام أُمَّال بعد الجواز هتعمل فينا إيه؟

تركها فارس ولم يعول على كلامها وبالفعل تم ما أراده لقد تزوجها رغمًا عن إرادة والدته، لقد رفضتها والدته لأنها "تربية شوارع"، لم تعترف والدته بأن ولاء لا ذنب لها في وفاة والديها وتربيتها في دار للأيتام.

كما تذكر أيضًا كيف تورد وجه ولاء عندما صارحها برغبته في الزواج منها وحبه لها، وتغيرها المفاجىء من الفرحة الخجلة إلى الحزن الذي أطل من عينيها، خجلها وخوفها من ردة فعله عندما يعرف أنها تربت في دار للأيتام، وأن والديها توفيا جراء حادث سيارة.

تذكر كيف فرحت عندما طمأنها أنه يحبها ويحب أخلاقها، وكيف واجه والدته وأختيه وكيف أقنعهن بولاء، كان يعلم أن والدته وأختيه وافقن شفهيًا على زواجه من ولاء ولكنهن منذ تزوج وهن لم يكففن يومًا عن مضايقة ولاء في غير وجوده، وتذكر كيف كانت ولاء تتحمل منهن إساءتهن المتكررة ولا تتذمر ولا تشتكي إليه حرصًا على عدم إغضابه بكثرة شكواها من أسرته.

كان حبها يزداد في قلبه مع كل موقف وكل كلمة، جعلته ولاء يشعر أنه كل حياتها، وأنه أفضل ما حدث لها في حياتها، كانت تشعره بأنه زوجها وحبيبها ووالدها وأخوها وكل ما لها في هذه الدنيا، دائمًا كانت تكرر على مسامعه أنه هدية رب العالمين لها، كانت تصرفاتها دائما تقول له أنت محور حياتي بل أنت حياتي كلها، لا أشعر بالأمان إلا وأنت جواري.

أعاد فارس في ذاكرته أحد المواقف التي شهدها بنفسه تحدث بين والدته وولاء، ومنها ذلك الذي يتذكره جيدًا والذي كان منحنى خطير في علاقته مع والدته.

تذكر ذلك اليوم عندما وصل مبكرًا من عمله وكانت ولاء في أجازة من عملها لمبيت والدته عنده فهو يعرف أن والدته دائمًا ما تدعي أنها لا تستريح في الإقامة لدى شقيقاته لتبيت لديه، لكنه كان يعرف السبب؛ فوالدته شعرت أن ولاء سرقت منها ولدها وجعلته يخيرها بين زواجه برضاها أو زواجه بدون موافقتها ومباركتها، حبًا في ولدها وافقت ظاهريًا ولكنها كانت تتحين الفرص لإهانة ولاء ومضايقتها عاد في ذلك اليوم مبكرًا ليُفاجىء والدته وزوجته بدعوته لهما للغداء خارج المنزل وكان عمر زواجه آنذاك عامًا واحدًا فتح الباب وسمع صراخ والدته في ولاء جاء الصوت من المطبخ.

والدة فارس: إنتِ يا شملولة لسه ما خلصتيش الغدا، جوزك زمانه جاي، ولا إنتِ يهمك في إيه ما هو سايبك على مزاجك.

ولاء: يا طنط الأكل خلاص بيستوي، وبعدين مش حضرتك اللي أصريتي إني أنفض الشقة كلها النهاردة وامسحها وبعدين اطبخ.

والدة فارس: قصدك إيه يعني؟ مشغلاكِ في الفاعل، هو ده مش بيتك برضه وواجب عليكِ تنضفيه وتطبخي لجوزك عشان ييجي يلاقي لقمة ياكلها، واحدة زيك المفروض تعيش خدامة لجوزها مش كفاية إنه رضي بيكِ ولمك من الشوارع وعمل لك قيمة؟

جاء صوت بكاء مكتوم من المطبخ وهي تقول لوالدته: عندك حق يا طنط.

والدة فارس: أيوه أيوه اعمليهم عليا فاكراني هصدق دموع التماسيح دي!!

ولاء وهي تبكي: شكرا يا طنط..

والدة فارس وقد علا صوتها بما يكفي ليسمع سكان القاهرة جميعهم: فكرك دموعك دي تخيل عليا يا تربية الشوارع يا خطافة الرجالة، والله لا أجوزه ست ستك اللي تجيبلي أحفاد تكون أمهم حاجة تشرف مش أرض بور زيك يا عرة الحريم، وأخليكِ عندها خدامة، عيطي عيطي ما إنتِ أصلك ما عندكيش كرامة واحدة غيرك كان زمانها طلبت الطلاق من بدري، لكن هتجيبي الكرامة منين؟! إنتِ اتحدفتي علينا من أنهي داهية؟!

هنا لم يتحمل فارس أن يسمع المزيد، لم يكن فارس يتوقع أن تقول والدته ذلك الكلام الجارح والمهين لزوجته وتعيرها به، نزل كلام والدته عليه كالصاعقة، كيف تستطيع أن تكلم ولاء بهذه الطريقة؟ وكيف تصمت ولاء على ذلك ولا تقول له؟

دخل جريًا للمطبخ فوجد الدموع تنحدر على وجه ولاء شلالات وأنهارًا وهي تشكرها كبرت ولاء في عينه بعد ذلك الموقف؛ ثار على والدته.

فارس: بقى كده يا أم فارس، هي دي اللي قلت لك كرامتها من كرامتي، لا هي عندها كرامة ومتربية، عارفة ليه عشان لو مش متربية كانت ردت عليكِ الرد اللي يستحقه كلامك ده، لو سمحتي حضري هدومك عشان أروحك على بيتك، البيت ده مينفعش تقعدي فيه طالما غلطي ف صاحبته.

انهارت والدة فارس من كلام ولدها وبكت: بقى كده يا ابني بتطردني من بيتك عشان واحدة زي دي لا ليها أهل ولا أصل.

فارس: كفاية لحد كده، انتهى الكلام، لو مكنتش سمعت بنفسي كلامك ما كنتش صدقت.

ثم وجه كلامه لولاء التي صعقت مما حدث: وإنتِ ازاي تكلمك كده وما تقوليش؟!

ولاء وهي مازالت تبكي: أقول إيه؟ يعني ابقى سبب في مشكلة ليك مع أهلك؟

والدة فارس: اعمليهم عليه ما هيصدق.

فارس موجهًا كلامه لوالدته: ما اسمعش كلمة تاني وإلا وربي ما ادخلك بيت تاني.

وأخذ فارس والدته وأوصلها لمنزلها بعد أن منعها من المبيت في بيته لمدة تقارب السنة، وهددها إذا ما كررت هذا الكلام مرة أخرى أنه لن يدخل لها بيتًا جعلته هذه الذكريات يتنهد طويلًا ويقول "آه يا ولاء، يا منية القلب، ماذا بكِ؟ وما أوصلك لتلك المرحلة، أوحشتني كثيرًا".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...