الأحد، 14 فبراير 2021

الفصل التاسع

 

كان دائم العقاب لنا، وكان يمعن في إذلالنا أمام باقي الطلبة، يعاقبنا بالوقوف قرب السبورة ورفع أيدينا طوال اليوم، وكان هو يشرح الدروس ويكتب على السبورة ويضربنا، في أول يوم لتذنيبي على السبورة بدا مرحلة الضرب والتوبيخ، وعندما رن جرس "الفسحة" شرعت بإنزال يدي والخروج، إلا أنني فوجئت بعصاه تنهال عليَّ وطلب مني العودة كما كنت، ضحك الأطفال عليَّ كثيرًا وخرجوا للعب، خرج داوود وإيمان مجبرين بعد أن ضربهما لإجبارهما على الخروج من الفصل، أغلق أستاذ نبيل باب الفصل، شعرت بالخوف الشديد وهو يقترب مني جريت لآخر الفصل وأنا أبكي، خلته سيضربني ثانية، إلا أنه وبسرعة كمم فمي واقتحمني عنوة، لتخرج صرختي مكتومة، انتهى مني وهددني إذا تكلمت، ونصحني باعتياد ذلك الفعل.

كم بكيت ذلك اليوم، كم كرهت المدرسة وكرهت كل الرجال، تكرر الأمر في اليوم التالي مع إيمان، نظرت إليها أواسيها فيما سيحدث لها، فقد حكيت لها هي وداوود عما فعله أستاذ نبيل بي، كم بكينا بعد ما حدث معي ومع إيمان وداوود، وظل ذلك الوضع قائمًا لمدة شهر كامل، لم نعرف ماذا نفعل، إنه المدرس الخاص بفصلنا، طلبت من أبلة سلوى نقلنا من فصل أستاذ نبيل، ولكن مديرة المدرسة لم توافق على النقل وقالت لنا إن من هو في مثل ظروفنا لا يطلب شيئًا ويحمد الله على ما يجده، وجدتني أبكي وأحكي لأبلة سلوى ما يفعله أستاذ نبيل بنا، كنت أكرهه بشدة، أكره ما يفعله وأشعر بالاشمئزاز الشديد منه وإن لم أفهمه حينها، لم تصدقني أبلة سلوى في بادىء الأمر؛ لذا طلبت منها أن تأتي غدا بعد انصراف الطلبة لترى بأم عينها ما يفعله بي، وبالفعل جاءت كما قلت لها ووجدت دموعي وآلامي أمامها، لم تعرف ماذا تقول أو ماذا تفعل؟ لأول مرة أرى الخوف في عين أستاذ نبيل، طلبت أبلة سلوى منه مقابل صمتها عما رأت الآن أن يتقدم بطلب لنقله فورًا من المدرسة وهي ستتكفل بموافقة مديرة المدرسة على النقل.

وبالفعل تم نقل هذا المدرس من المدرسة، ولأول مرة منذ شهر أشعر بحريتي أنا وإيمان وداوود، ولكن ما لم نستطع التخلص منه هو نظرة الطلبة لنا على أننا مرض يجب التخلص منه والابتعاد عنه، لم يكن لنا أصدقاء سوى بعضنا البعض، لم يكن عقاب أستاذ نبيل بالنقل خوفًا علينا ولكن رأت مديرة المدرسة التكتم على الأمر والموافقة على نقله دون اتخاذ أية إجراءات ضده حفاظًا على سمعة المدرسة؛ حيث إننا لقطاء ولن نستطيع الذود عن أنفسنا أو طلب حقنا ممن آذانا، واستمر بنا الحال هكذا، دون أصدقاء ونعاني من نظرات الاحتقار لنا من زملائنا ومدرسينا، لم يقترب منا أحد بعد ذلك، لم يمسنا أحد بعقاب بدني أو يعتدي علينا، ولكننا كنا قد كرهنا المدرسة والمدرسين والرجال كافة، أنهينا المرحلة الابتدائية، ولكننا خرجنا من هذه المرحلة دون ضحكة داوود ودون براءتنا نحن الثلاثة، خرجنا ونحن نكره العالم خارج دار الأيتام ونكره المدرسة والدراسة والطلبة.

تركنا داوود بعد انتهاء السنة الخامسة الابتدائية لانتقالنا جميعًا للمرحلة الإعدادية، في تلك المرحلة نقلت أنا وإيمان لدار أيتام أخرى للفتيات في المرحلة الإعدادية والثانوية وكذلك نقل داوود لدار أيتام للذكور في المرحلة الإعدادية والثانوية، في تلك المرحلة كانت المدارس تابعة لدار الأيتام فكنا جميعًا لنا ذات الوصمة وذات العار، وكلنا يحاول دفن حرجه مما لحق به من المجتمع الخارجي.

اتفق ثلاثتنا بعد أن علمنا بخبر نقل داوود أن يلقانا داوود أمام الدار التي جمعتنا سويًا نحن الثلاثة وبعدها يرينا الطريق إلى مدرسته والدار التي أُلحق بها، كما نريه أنا وإيمان طريق الدار التي انتقلنا إليها وطريق المدرسة التي أُلحقنا بها، وبالفعل ظللنا معًا نحن الثلاثة نحمل آلام الماضي وندعو الله ألا يتكرر ذلك.

ارتديت أنا الحجاب في المرحلة الإعدادية بينما رفضت إيمان ارتداءه، لا أنسى قولها عندما تحدثنا سويًا عن ضرورة ارتدائها للحجاب "لن أرتديه، أنا وصمة عار في جبين المجتمع ولن أتزوج سوى شخص له مثل ظروفي، بل وبعد ما فعله بنا ذلك المدرس أعتقد أنني أصبحت لا أصلح زوجة لأحد، لقد جعلني مومسًا"، كم شعرت بالألم عندما تذكرت ما حدث، لم أنسه يومًا ولكن كنت أحاول أن أتناساه كأنه لم يحدث، أحاول دفنه في غياهب عقلي التي لا أعلم عنها شيئًا، ولكن إيمان معها كل الحق لقد قضى ذلك الحيوان على مستقبلنا من ذا سيقبل بنا، بكيت على نفسي وعليها، حيث شعرت أنها قررت أن تمضي حياتها في طريق وحده الله يعلم منتهاه، حاولت أن أبعدها عن ذلك الطريق، لقد كبرنا مبكرًا وعلمنا أن المجتمع يدفعنا دفعًا لطريق الفساد والشرور ثم ينعتنا بأننا لقطاء وتربية شوارع، لقد صنع منا المجتمع قنابل موقوتة كارهة له.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...