كان فارس يشعر بأنها ليست على ما يرام بعد كل علاقة منذ تزوجها، بعد
ذلك اعتاد الأمر ولم يعره انتباهًا، ولم يعتبره مشكلة ليبحث لها عن حل، وهنا كانت
غلطة فارس التي لم ينتبه إليها، وهي ما فاقمت مشكلة ولاء النفسية، لم تستطع ولاء
التغلب على مشكلتها التي تسبب فيها أستاذ نبيل، وكان قرب فارس منها يذكرها بمرارة
تلك التجربة، خاصة بعد أن تذكرتها وهي في المستشفى.
حاولت ولاء بعد خروجها من المستشفى الخروج عن صمتها والرجوع لحالتها
الطبيعية، ولكنها لم تستطع أن تعود لحالتها الطبيعية، كان الصراع داخلها على أشده،
كان هناك صراع بين شخصية ولاء المتدينة المحترمة المحبة لزوجها والمحبة للناس مهما
كانت قسوتهم عليها، والشخصية الأخرى الكارهة لولاء المتدينة والكارهة لكل الناس
خصوصًا فارس.
كان الصراع داخل ولاء بينها وبين نفسها، كان صراعًا على الحياة، كل
منهما تريد الحياة لنفسها وقتل الأخرى، كان الصراع على أشده كان صراعها شديدا، وهي
ترى ولدها يناديها ويطلب منها أن تذهب إليه لتؤنسه في وحدته، كانت تشعر أن حماتها
على حق وأنها يجب أن تموت وأنها لا تستحق العيش، كيف تعيش وهي السبب في وفاة ولدها،
واستسلمت ولاء في تلك الفترة لاكتئابها واستسلمت للموت، وقبلت أن تذهب إليه
بإرادتها الحرة، لكي ترى طفلها الذي حُرمت منه وتؤنسه في وحدته.
كانت ولاء قليلة الكلام منذ عادت إلى المنزل، حتى أثناء جلساتها
العلاجية لم تكن تتكلم بالكلام الكثير، لذا طلب منها الطبيب المعالج جميع الأوراق
التي كتبتها في المستشفى وبعد خروجها ليستطيع مساعدتها، إلا أن ولاء كانت تحتفظ
لنفسها بالأوراق التي تتذكر فيها ماضيها، وتخفي فيها مصائب الدهر التي واجهتها ولا
يعلم عنها فارس شيئًا، لِمَ تُعطِ ولاء الطبيب أوراقًا ذات قيمة؟!، كانت تلك
الوريقات التي رآها في المستشفى والتي تقول فيها إنها لا ترغب في الحياة وإنها
لابد أن تموت فمن مثلها لا يستحق الحياة.
بعد مرور شهر على خروج ولاء من المستشفى كان لابد لها من التعامل مع
الناس والعودة للعمل، والأهم من ذلك التعامل مع حماتها، وتحمل انتقاداتها؛ لذا قرر
فارس أن يذهب لزيارة والدته دون ولاء ولتفعل والدته ما تريد، لن يسمح لوالدته
بالتسبب في نكسة لزوجته وحبيبته، ما زال يشعر بالندم أنه أخرجها من المستشفى بسبب
أنانيته، دون أن ينتظر أن تتم شفاءها، منذ خرجت من المستشفى لم تكن ولاء التي
يعرفها، كانت تصرفاتها غريبة، كانت تقضي وقتًا طويلًا أمام جهاز اللاب الخاص بها
ولا يعلم فارس ماذا تفعل.
وبسبب مصروفات علاج ولاء نفسيًا اضطر فارس أن يعمل في وظيفة أخرى مع
وظيفته الحكومية لكي يستطيع الوفاء بتكاليف العلاج، لذا كان يتغيب فترات طويلة
خارج البيت ويترك ولاء وحيدة مع ذكرياتها ومع جهاز اللاب، يا ليته ما فعل.
في فترات غياب فارس الطويلة عن المنزل أنشأت ولاء صفحة لها على
الفيسبوك باسم مستعار لم يكن يدري عنها فارس شيئًا، وضعت فيها صورًا ماجنة وما إن
أنهت صفحتها بالصور حتى انهالت عليها طلبات الصداقة من أشخاص وجدوا في صاحبة هذه
الصور ضالتهم التي يبحثون عنها، صيدا سهلًا لن يكلفهم شيئًا.
عندما أنشأت ولاء هذه الصفحة كانت تشعر بالكراهية تجاه كل الرجال، وخصوصًا
فارس، كانت تريد أن تنتقم منهم جميعًا ولا تعلم كيف، فكان انتقامها أن تقول لهم
أنتم أغبياء تجرون وراء شهواتكم حتى لو كان ما تطاردونه خيالًا، فكانت هذه الصفحة
التي أنشأتها لتشاهد كم هم أغبياء وكم هم شهوانيون، وجعلتها الصفحة التي تفتح
تلقائيًا على جهاز اللاب الخاص بها لكي يراها فارس عندما يفتح جهازها، أما أوراقها
وذكرياتها فكتبت كل ما كان في الأوراق على ملف في جهازها وأخفته فلا يصل إليه
غيرها لتسطر فيه كل ذكرياتها التي ترغب في إخفائها عن الجميع، وتسطر فيها ما تفعله،
وسبب تصرفها على ذاك النحو، لم تكن تعرف هل ما تفعله صواب أم خطأ، كانت تريد أن
تنتقم من المجتمع ومن فارس ومن كل الرجال ولكنها لم تعرف هل فعلت ذلك حقًا أم لم
تفعل، لم تعد تعرف، طبعت بعض تلك الأوراق ولأول مرة قررت أن تعرض بعض هذه الأوراق
على طبيبها المعالج فهي أصبحت تثق به إلى حد ما؛ لذا قررت أن تعرض عليه هذه
الأوراق.
عندما قرأ الطبيب أوراق ولاء طلب من فارس الانتظار بالخارج ليتحدث مع
ولاء على انفراد، واستجاب فارس له وخرج.
الطبيب: مدام ولاء، إنتِ عارفة إنتِ
كاتبة إيه في الورق ده؟
ولاء: أيوه عارفة.
الطبيب: كاتبة إيه؟
ولاء: عايزة أموت، أنا ما بقتش عارفة
أنا خلصت من الماضي ولا لأ، عايزة أموت عشان أنا ما استحقش أعيش، أنا عملت صفحة
ليا حطيت فيها كل حاجة أنا رافضاها كنت فاكرة كده بانتقم من الرجالة كلهم بس مش
عارفة أنا بنتقم فعلًا منهم ولا من نفسي، عشان كده عايزة أموت.
الطبيب: طيب كويس إنك عارفة إنك لسه ما
اتخطتيش الماضي، وإنك بتتصرفي باندفاع وتهور من غير تفكير وكمان عايزة تموتي، يعني
الميول الانتحارية لسه موجودة.
ولاء: أنا حاسة إني اتنين بيتخانقوا
واحدة فيهم متدينة ومحترمة والتانية مومس الاتنين بيتخانقوا بس دلوقتي خايفة
المومس هي اللي تكسب.
الطبيب: مدام ولاء كلنا في جوانا اتنين
عكس بعض تمامًا، والاتنين دول على طول في خناق ومعارك واحد منهم طيب والتاني شرير،
ده طبيعي، وما ينفعش واحد منهم يموت، الحل إنك تتصالحي مع نفسك، بلاش الإحساس
بالذنب المستمر حتى على الأفكار، ربنا مش بيحاسبنا على أفكارنا ربنا بيحاسبنا على
أفعالنا، ولا إيه؟
ولاء: أنا مش عارفة أسيطر على نفسي
بعمل ساعات حاجات كتير مصايب ومش عارفة اتصرف، أنا عملت حساب على الفيس عاملة فيه
مصايب وكوارث، خايفة ومش عارفة اتصرف ولا أعمل أي حاجة وزيادة على كده عايزة فارس
يشوفه عايزه انتقم منه هو كمان.
الطبيب: ما أنا قلت لك كلنا جوانا
شخصيتين عكس بعض ولازم يبقى فيه كل شوية خناق بينهم، المهم إنك تعرفي تصالحي
الاتنين دول على بعض، المتدينة المحترمة بره البيت وتعاملك مع الناس، التانية اللي
إنتِ شايفة انها مومس خليها تتعامل بطريقة المومس مع زوجك، اتدلعي والبسي كل اللي
نفسك فيه وإنتم مع بعض في البيت، اعرفي إننا كلنا كده واحنا اللي بنحدد مين اللي
يظهر، بس من الأوراق دي قولتي إنك ما قدرتيش تتخلصي من الماضي، إيه هو الماضي ده؟
صمتت ولاء ولم ترد على الطبيب، شعر الطبيب أن هناك سرًا في حياتها
تحاول إخفاءه عن الجميع، لم يرى جميع ما كتبته في مذكراتها، لقد حرصت على إخفاء
الأوراق التي تحوي ذكرياتها التفصيلية واكتفت ببعض الأوراق التي تحتوي على المصائب
التي فعلتها في حالات اندفاعها، لم يتأكد بعد الطبيب من تشخيص حالة ولاء فهو يشك
في اكتئاب حاد أو أنها تعاني من الاضطراب الوجداني ثنائي القطب مع بعض اضطرابات
الشخصية، وبالتالي عليه وضع ولاء تحت الملاحظة الطبية وكذا البحث في الأمراض
الوراثية في عائلتها والتعرف على ماضيها أجمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق