السبت، 13 ديسمبر 2014

الصحافة الصفراء في مصر

تھتم الصحافة الصفراء في مصر والوطن العربي بنشر القضايا المثيرة التي لا تخاطب في الإنسان سوى غرائزه، فمجالھا نشر الفضائح، وأخبار الجنس والجريمة و الحياة الخاصة للمشاھير، وتعتمد كثيرا على الصور وتغيير طبيعة الأخبار والاعتماد على الإثارة والضجيج الإعلامي. وهذا المفھوم يشمل مجمل الممارسات القائمة على أساس الابتزاز في العمل الصحفي، واختلاق القصص المثيرة، والمبالغة المسيئة، وتحريف الكلام عن مواضعه بقصد الإثارة، وإن كان على حساب الغير وإدعاء العلم بالأشياء، ومحاولة تشويه صورة الآخرين، والترويج للأكاذيب والخرافات وهي صحافة رخيصة تقوم على الابتزاز وفبركة بعض الأخبار والوقائع والمبالغة والتھويل في بعضھا الآخر.
إن مصطلح "الجرائد الصفراء" والذي يُطلَق عادةً على كل منبر ينتهك تقاليد العمل الصحفي، يبدو اليوم أكثر توهجًا وحضورًا من ذي قبل؛ حيث لم يعد الأمر وقفًا على الجرائد الصفراء، بل تسلَّلت "الصفرة" إلى الإعلام المرئي والمسموع والإلكتروني. كما امتدت "الصفرة" إلى التلفزيون الذي شكَّل منذ ظهوره غريمًا قويًا للصحافة المكتوبة. فالسعي الجامح لشد الانتباه وكسب أعلى نسب للمشاهدة، يحمل القائمين عليه على تقديم صورة مشوهة للواقع ما دامت تحقق العائد. إن القيمة الأساسية لديه هي قيمة السوق، والنجاح في الاستحواذ على انتباه المشاهد يعني بكل بساطة تمريرًا جيدًا للرسائل الإعلانية. ولا شك أن المشاهد العربي تابع بحسرة كيف تحولت العلاقة الجدلية بين وسائل الإعلام والأنظمة الحاكمة إلى عقد قران تخلَّت بموجبه صاحبة الجلالة عن مصداقيتها وولائها للحقيقة، كي ترخي ستارًا ضبابيًا يُعيق الرؤية الواضحة لمجريات الأمور.
وينبغي أن لا ننسى إن أنظمة الحكم الديكتاتورية تدعم وتؤيد وتساند الصحف الصفراء، فھي وسيلة ناجحة للإلھاء وإتاحة قدر ھائل من القيل والقال في أمور لا تضر ولا تنفع أو كما يقال بالعامية (لا تودي ولاتجيب)، ولا يمكن للحكومات في العالم الثالث أن تلاحق مثل تلك الصحف لأنھا لا تمس قدسية الزعيم والحاكم وھذا شيء بديھي ولا يحتاج إلى تساؤل، والغريب في الأمر إن تلك الصحف ھي الأكثر رواجا بين الناس الذين يحاولون من خلال شرائھا، الابتعاد عن أروقة السياسة ومتاعبھا وما تخلفه لھم من متاعب.
ويؤكد د.نبيل راغب في كتابه "الصحافة الصفراء الجذور والفروع" أن واقعنا أشد صفرة من أية صحافة صفراء رخيصة، وأن وسائل إعلامنا بكل أطيافها ليست بالحرية والجرأة والثورية التي تتمتع بها نظيراتها في الغرب! إذ رغم محاكاتنا للنماذج الصحفية العالمية لم تظهر بعد في المنطقة العربية صحافة صفراء لأن "كل الأساليب والألاعيب والخدع والحيل التي تتطلبها الصحف الصفراء من الصحفي أو المخبر، غير متاحة لزميله العربي المُقيَّد بالنظام المحافظ أو التقليدي أو الرسمي لصحيفته. ذلك أن معظم الصحف العربية مملوكة للأنظمة الحاكمة، طلبًا لمساعدتها ودعمها الأدبي على الأقل، وربما تجنبًا لبطشها وغضبها". ويرجع الاختلاف الجذري بينهما إلى كون الخوف الوحيد الذي تضعه الصحف الصفراء – في الدول الغربية- في حسابها هو تراجع المبيعات الذي قد يصل بها حدّ الإفلاس والتصفية في ظل لعبة رأسمالية لا ترحم. أما في العالم العربي فيمتد الخوف ليشمل المصادرة والإغلاق والبطش بالعاملين. وإذا كانت الجرأة في الغرب وليدة الحرية فإن الواجهة الديموقراطية التي يفخر الغرب بإرسائها، هي جرأة يُسمح بها كنوع من الإلهاء والتنفيس.
ولذلك "إذا ظهر رئيس تحرير لصحيفة عربية يتميز ببعض الجرأة وسطع نجمه نتيجة لذلك فإنها جرأة محسوبة ومطلوبة من السلطة نفسها لحسابات تخصها، فهي مقننة في إطار لا يُسمح لها بتجاوزه أو تخطيه. وإذا حدث هذا الخطأ نتيجة لهفوة أو غرور مفاجئ من رئيس التحرير الذي استمرأ الأضواء، فإنه سرعان ما يجد نجمه وهو يأفل بمجرد جرة قلم من المسؤول الكبير الذي منحه الفرصة لكنه أهدرها".
هل يقف الأمر عند هذا الحد؟
كلّا! إنه يُدمِّر العقل النقدي، ويُولِّد حالة من السلبية والقبول التدريجي بمعايير أخلاقية بديلة. فالحكم الأخلاقي الذي كان يصدر في السابق تبعًا لنوع الفعل أصبح اليوم مرتبطًا بمدى التعاطف الذي تكسبه الشخصية في العمل الدرامي. هكذا إذن يستمريء المشاهد العمل الإجرامي ما دام صادرًا عن شخصية تتمتع بتقديره وتعاطفه. ونظرًا للبث المُتكرِّر فإن هذه الرسائل تُسهم ولا شك في تغذية مشاريع الانحراف والجريمة على أرض الواقع!
 وتخلص الأبحاث والدراسات حول تنامي العنف وارتفاع معدلات الجريمة إلى أن لوسائل الإعلام دورًا في اهتزاز القيم واضطراب السلوك وإرباك الوعي الاجتماعي والديني والقيمي للأفراد، بسبب غياب التجاوب بين رسائلها وحقائق الواقع الاجتماعي. كما أنها تعمل على تحويل القيم من نمط يتسم بالثبات والاتساق والموضوعية إلى نمط سمته التأرجح والانتهازية والتناقض. وحين يقع الفرد ضحية تذبذب القيم يسهل وقوعه في هاوية الجريمة.
وبالعودة إلى ما يبثه التلفزيون الأصفر فإن الأمر لا يتطلب نباهة للجزم بأننا أمام رسالة إعلامية تنهل من الغرائز السفلى للكائن الإنساني!
إن العبث بالقيم والمرجعيات وتحريف الميول والاتجاهات عن مسارها السليم يتعارض بشكلٍ قطعي مع مبادئ وقيم الديموقراطية التي يصبو إلى ترسيخها كل مجتمع. فلا يمكن إيجاد ديموقراطية، يقول كارل بوبر: "إذا لم نُخضع التلفزيون لمراقبة ما. فإن الديموقراطية لا يمكن أن تعيش طويلًا ما دامت سلطة التلفزيون لم تُحجم كلية".
ولا تشذ نماذج عديدة من الصحف الإلكترونية عن قرينتها المكتوبة في استلهام مبادئ "الصفرة" ، خاصةً في ظل ما تتيحه الخدمة التفاعلية عبر الإنترنيت من انسياب مذهل للمحتوى الإعلامي، واتساع غير مسبوق لقاعدة الجمهور.
فالحرية التي أتاحتها تكنولوجيا الاتصال الحديثة حملت في ثناياها تناقضا جوهريًا بين ثراء التقنية وانكماش الرسالة، وأسهم التحرُّر المغرض من كل الضوابط والقواعد الملزمة في انتهاك القيم والمرجعيات، وتحويل المنبر الإعلامي إلى واجهة للتأليب وتشويه السمعة والتطاول على الخصوصية الفردية.
تبدو الصحافة الصفراء تجليًا آخر للعلاقة المتوترة بين الحرية والمسؤولية. وإذا كان الإعلام الحُر رافعة أساسية للبناء الديموقراطي فإن حريته تلك لا تتنافى وضرورة انضباطه للقيم والمرجعيات التي تحكم المجتمع، بل إنها تفرض عليه ولاء مطلقًا للحقيقة والاستقصاء الموضوعي بعيدًا عن التهييج والتأليب والإثارة المفتعلة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...