الأحد، 18 يناير 2015

ضياع (الفصل الخامس: برهان)



قاعة المحكمة الآن
بعد أن سمع برهان حكم المحكمة بطلاق كوثر منه، لم يصدق أن الحكم بابعادها عنه صدر بالفعل وأنها الآن لا تحل له مطلقا. لم يكن ذلك سببه حبه لكوثر أو بسبب عدم قدرته على البعد عنها أو بسبب عدد سنوات العشرة بينهما، ولكن كان سبب عدم تصديقه الطلاق أنها طلقت منه على الرغم منه، وأنه بعد الآن لن يكون قادرا على الانتقام منها. نسي برهان أنه في قاعة المحكمة، وعاد بذاكرته إلى الوراء، لقد تذكر عشرة دامت مع كوثر لأكثر من ثلاثين عاماً نتج عنهم ثلاث بنات. وتذكر أول زواجه وأول طلاق لكوثر.
اكتوبر 1975
بعد أن عاد برهان من عمله تذكر المشادة التي حدثت بينه وبين تلك الفتاة، لقد نهرته وبشدة وتذكر كلامها معه
برهان: بنصبح على القمر
كوثر (تسير دون أن تنظر إلى من يكلمها ولا تعيره انتباها)
برهان (يتجرأ ويمشي بالقرب منها): أنا بصبح على فكرة طب حتى ردي السلام
كوثر (تلتفت له بعصبية وتخلع فردة الحذاء الخاصة بها): على فكرة لو ما ممشتش من هنا ح افتح دماغك بالجزمة دي، فاهم ولا مش فاهم؟
برهان (بخوف من رد فعلها الذي لم يتوقعه): أنا بشتغل هنا
كوثر (بعصبية وبعد وابل من السب): حتى لو بتتنيل هنا اجري ياض من هنا واياك اشوف وشك ولا اسمع صوتك بيكلمني تاني
لم يتوقع برهان رد الفعل العنيف الذي قامت به تلك الفتاة، فملابسها لا توحي بأنها لا تتساهل مع الآخرين. تذكر طول الجيب التي ترتديها، والتي كانت بالكاد تغطي منتصف الركبة والبلوزة التي كانت تكشف معظم صدرها والحذاء ذا الكعب العالي، كل ذلك من وجهة نظره يدل على فتاة تنادي على الرجال وليس فتاة تحافظ على نفسها منهم.
وبسبب رد الفعل العنيف من كوثر قرر برهان أن يسأل عنها ويعرف الكثير مما لا يعرفه، وراقبها دون أن تشعر به وعرف عنها كل شيء عمرها ومحل اقامتها وعائلتها وتفككها، وكذا الإدارة التي تعمل بها ووظيفتها تحديدا. حاول خلال أسبوع واحد أن يعرف عنها أكثر ما يمكنه. وبالفعل عرف عنها الكثير، وذلك بسبب تعدد العلاقات النسائية له والتي ساعدته في جمع المعلومات.
بعد أن عرف برهان الكثير عن كوثر وعرف مكان عملها تحديدا، ومن هو رئيسها في العمل دارت في رأسه العديد من الظنون، فهو دائما أبدا لا يثق في انثى أيا كانت، فكلهن خائنات، لايردن من الرجل سوى شخص ينفق ما ادخره عليها وتحصل منه على متعة خاصة ولا شيء غير ذلك. لقد كانت نظرة برهان للنساء نظرة ظالمة لكل النساء، عادلة من وجهة نظره.
دار في عقل برهان العديد من الأفكار والهواجس وظل يتحدث مع نفسه في حوار ذاتي طويل. تساءل في هذا الحوار هل كوثر بالفعل امرأة مختلفة عن كل النساء وعن كل من يعرفهن أم أنها تفعل ذلك لأنها تعرفه وتريد أن تتزوج؟ فإن كانت محترمة فلماذا ترتدي هذه الملابس وتضع هذا الكم من مساحيق التجميل وهي ذاهبة للعمل؟ أتضعه لمديرها في العمل؟ أم أنها تضعه لتصطاد به عريسا؟ هل هي بالفعل عفيفة على غير المتوقع من النساء؟ هل ستتكفل بنفقات نفسها أم أنها ستطالبه بنفقاتها الخاصة ونفقات المنزل ولن تكتفي براتبها؟
كان برهان حريصا على المال، لا ينفقه إلا على نفسه وأحيانا كثيرة كان يحاول أن ينفق عليه غيره ليدخر هو نقوده، فدائما يسيطر عليه هاجس أن المال هو من سيحميه من غدرات الزمن، وتقلبات الأيام. ولا شيء غير المال سيحميه ويجعل الجميع يجري وراءه. لذا لو وافقت كوثر على الزواج منه لابد أن تتولى هي مصاريف ونفقات المنزل ويدخر هو ما يمكنه ادخاره، لن يترك لها مليما واحدا تتدخره حتى تكون دائما في حاجة له. كان يعتقد في داخله أن النساء إذا أيقنت أن معك من المال الكثير وأنك تدخر لنفسك ظلت معك لا تفارقك وتطيعك في كل ما تأمرها به. كانت هذه فكرة برهان عن النساء وكانت نفسه دائما تحدثه بذلك.
وتذكر علوية جارتهم الأرملة ذات الخامسة والأربعين من عمرها ، ذو العيون العسلية والشعر الذي يشبه في لونه لو العسل والبشرة البيضاء التي تنافس في لونها بياض الحليب، ممشوقة القوام، كانت كلمة جميلة أقل ما يمكن أن يقال عنها، كانت صديقة والدته تسكن في الطابق السابق لهم ودائما ما كانت تصعد إليهم. يكبرها زوجها بخمسة عشر سنة، يشتكي من العديد من الأمراض وكان دائما يسمعها تشكو لوالدته منه ومن اهماله لها، ولكنه كان يعوضها عن ذلك بماله حتى توفاه الله.
ثم نشبت مشادة التي دارت بين برهان ووالده لرغبة والده في الزواج من علوية جارتهم بعد وفاة والدة برهان وعدم قدرة كلاهما على خدمة وقضاء طلبات فتاة صغيره لا يتجاوز عمرها أربعة سنوات، ورفض برهان رفضا باتا زواج والده واتصل بتفيدة لكي يخبرها برغبة والدها في الزواج من أخرى وحرضها على رفض زواج والدها. لقد تكبد برهان مبلغ طلب مكالمة دولية من السنترال وانتظر ساعات حتى استطاعت عاملة التليفونات توصيله بالطرف الثاني. لقد تحدث معها خلال دقيقة واحدة كانت كافية لرفضها زواج والدها:
برهان: ازيك يا تفيدة عاملة ايه
تفيدة : الحمد لله انت عامل ايه واخبار هدى وابوك ايه
برهان: كلنا كويسين، ابوكي عايز يتجوز، عايز يجيب واحدة تاخد اللي وراه واللي قدامه وتاخد عليهم الشقة كمان
تفيدة: عايز يتجوز، وليه ان شاء الله
برهان: ضحكت ولافت عليه وعايزاه يتجوزها، ومش بعيد تخلف له كمان
تفيدة: ما تقلقش يا برهان مفيش جواز ح يحصل
وأغلق معها برهان الهاتف وهو يشعر بنشوة الانتصار، لن يتزوج والده من هذه السيدة ولن تسمح له تفيدة أن يتزوج من الأساس، ستخاف على الشقة وتخاف أن تنجب له أخرى من يشاركها في شقة والدها وما سيتركه لها من معاش. أما برهان فهو يرى أن كل المطلقات والأرامل مومسات يلاحقن أي رجل ليتزوجنّه؛ وعلوية -بصفة خاصة- لن يسمح لوالده أن يتزوجها، هذه الحية الرقطاء، التي تأخذ أموال زوجها وتخونه مع غيره، لقد خانت زوجها مع والد برهان من قبل ، فنا يمنعها الآن أن تخونه مع غيره، لن يسمح بذلك وسيواجه والده بما يعرفه ولن يتم الزواج.
وتذكر برهان مواقف كثيرة مرت عليه، جعلته يكره النساء ويؤمن أنهن خلقن لخيانة الرجال وسرقة أموالهم، تذكر سناء زميلته في الجامعة، كان يخرج معها وكان يحبها جدا، عرفها في السنة الأولى من الكلية وكان يحبها ويتوهم حبها له، ولكن مع أول خلوة حدثت بينهما تركت له نفسها ولكنه لم يعرف أن يفعل شيئا، تركها كما هي لم تفقد عذريتها ولكنه خاف أن تفضحه، كلما مر على مجموعة من الشباب في الجامعة ووجدهم يضحكون اعتقد أنهم يضحكون عليه، لقد فضحته أمام الجميع، ألا يكفي أنه غير وسيم ولا تسعى الفيتات إليه، ألا يكفي ذلك، تقوم هذه الفتاة بفضيحته وأنه ليس رجلا. كل النساء كذلك تريد المال والفحولة، لذا سينتقم من كل النساء، وسيفضح سناء في كل مكان ويقول أنه نالها وأنها تسعى وراءه ليتزوجها وتداري فضيحتها.
بعد ما حدث بينه وبين سناء وما كان بين والده وبين علوية، كان هناك يقين داخل برهان أن النساء غادرات خائنات حتى وإن لم يظهرن ذلك، لذا لن يعطي ماله لامرأة. لم يصدق بالطبع أن هناك نساء عفيفات شريفات، لذا لم يصدق أن كوثر طاهرة ، فهي في النهاية وإن كان يعرف أنها طيبة فهي انثى وبالتالي فهي خائنة ومومس ويجب عليه مراقبتها والشدة عليها حتى لا تلوث اسمه وسمعته.
وعندما وجدها في مكتب المدير، كان يعرف أن المديرين دائما ما يقيمون علاقات حميمية داخل مكاتبهم والآن كوثر تزوجته وهو يشعر في قرارة نفسه أنه ليس رجلا كامل الفحولة، ولابد أن تبحث كوثر عمن يعوضها ذلك فهو متيقن أن النساء لا يستطعن الصبر على الحاجات الجسدية، فقرر أن يدخل عنوة ليرى كوثر متلبسة حتى لا تنكر ودخل ولم يجد شيئا مما كان يجول في خاطره، وحدثته نفسه أنهما أنهيا ذلك قبل أن يأتي هو فضربهما. وبعد ذلك وجد أحد عشاق كوثر يغازلها وهو يعرفها وإلا لما غازلها كذلك ولما تلبس هي كذلك، إنه عشيقها شاب ووسيم ولابد أنه أكثر منه فحولة وغازل كوثر أمامه ليقول له أنا أعرف أنك لست كامل الفحولة. ولم يشعر بنفسه إلا وهو يضربها ويرمي عليها يمين الطلاق، تركها في الشارع ومشى لا يعرف ماذا فعلت ولا كيف وصلت بيتها، لقد خلصها منه المارة وهو يضربها.
قاعة المحكمة الآن
عاد برهان من شروده مرة أخرى، ولعن كوثر والنساء جميعا. من هي كوثر حتى تطلب منه الطلاق ولا تقدر ما قام به من أجلها؟ من هي حتى تطلب الطلاق دون رغبة منه؟ ولماذا تسعى الآن للطلاق؟ لابد أن هناك رجل آخر تسعى للزواج منه، فليس منطقيا أن تزهد العيشة معه دون سابق انذار؛ فهو كما هو لم يتغير فماذا تغير اذن؟ ألا تحمد الله أنه استمر معها طوال هذه السنوات رغم عدم انجابها للولد وولادتها ثلاث اناث، ماذا يفعل بهن؟ لقد ابتلاه الله بهن، ثلاث اناث مع أمهم لابد أن يراقبهم على مدار اليوم حتى يحافظ على اسمه وسمعته وشرفه، فالنساء جميعا لابد أن تقف لهم بالسياط على الباب حتى لا يخطئن، ولكنه تحمل ذلك كله من أجلهن ولا يقدرن ما فعله "آه من الجحود!" هكذا قال في نفسه.
برهان شخص شديد الشك في الآخرين ولا يثق في أحد مهما كان مدى قربه منه، انه أحيانا يشك في نفسه. الآن يشعر أنه لم ينجب لأنه لم يرزق ولد. كان يتمنى أن يرزق الولد ولكنه أنجب ثلاث بنات ولم يرزق الولد الذي تمناه. كان يرى أن الولد كان سيقف بجانبه ضد كوثر وبناتها، الذين لم يقدرن ما فعله لهم بل ويشعرن أنه فعل لهن شيئا: "آه لو كان لي ولد" هكذا قال في نفسه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...