الجمعة، 30 يناير 2015

ضياع (الفصل التاسع: الطلقة الثانية)



صيف عام 1982
كانت كوثر قد ردت إلى برهان بعد الطلقة الأولى منه بعد علمها بالحمل وتحاملت على نفسها طباع برهان الغريبة والتي لا يمكن أن يحتملها أحد؛ فقط من أجل طفل يجب أن يولد وسط أسرة سوية -حتى لو لم تكن كذلك -وزاد ذلك عندما وضعت ووجدت أنها وضعت بنتا -وفي مجتمع يرى أن ابنة المطلقة غنيمة للذئاب الضالة وغير مسموح لها بالزواج مثل باقي البنات -قررت أن تتحامل وتتحمل برهان وطباعه وسوء خلقه، ورزقت بعد ذلك بهادية بعد عام من ولادة رضا ثم رزقت بآخر العنقود –إيمان -بعد ولادة هادية بأربعة أعوام؛ وبما أنها أصبحت أما لثلاثة بنات أصبح عليها أن تلتزم الصمت أمام تصرفات برهان وإهانته المستمرة لها وبخله في الإنفاق عليهن.
كان برهان لا يهتم بأي شيء يخص المنزل أو بناته، كانت كوثر هي المسئولة عن كل شيء عن البنات وتوصيلهن للحضانة في إجازة نصف العام والإجازة الصيفية وتوصيل رضا للمدرسة وهادية وإيمان للحضانة أيام الدراسة، وبالطبع هي المسئولة عن المرور عليهن وجمعهن في رحلة الإياب للمنزل وشراء مستلزمات المنزل من خضار وغيره. كان عمر إيمان في ذلك الوقت أقل من عام أي أن كوثر تضطر إلى حملها إلى جانب ما تحمله من مسلتزمات، وعندما تصل للمنزل مطلوب منها التنظيف وإعداد الطعام وإرضاع الصغيرة. أما برهان فلا شأن له بأي شيء فهو يجب أن يجد كل شيء جاهز في جميع الأوقات، فكوثر بالنسبة لبرهان خادمة لا تتقاضى أجر، ويكفي أنه جعلها أمًا لثلاثة بنات وتركها زوجة له رغم عدم إنجابها الولد.
وفي كل تحركاتها تكتشف أن برهان كان يراقبها، أصبح ذلك الأمر معتاد لها، فبدلا من مساندتها ومساعدتها على حملها اليومي، فهو يراقبها لكي يتصيد لها الأخطاء، أي تفكير هذا، ولماذا يبقي عليها إذا كان يتصيد الأخطاء ليعاقبها ويعاقب أطفال لا ذنب لهن إلا أنهن ولدن إناثًا.
وفي إحدى المرات بعد أن قامت بروتينها اليومي من توصيل بناتها للحضانة والذهاب للعمل للتوقيع ثم النزول لشراء طعام الإفطار، كان برهان يراقبها –كعادته دون أن تشعر –فوجدها مع عائشة، زميلة لها في العمل، وكان بينهم ما كان
برهان (بعصبية موجها كلامه لكوثر): انتي ايه اللي نزلك مع الست دي؟ انتي ايه خلاص فجرتي على الملأ وناوية تروحي معاها شقق يا بنت الكلب يا واطية
عائشة (بعصبية موجهة كلامها لبرهان): انت اللي واطي وناقص كمان، أنا بتاعة شقق، والله لأوريك بس نوصل للشغل وأنا أعرفك شغلك يا برهان اللكلب. ما أنت لو كنت راجل بجد ما كنتش اتشطرت على واحدة ست ولا قلت كلامك السافل دا، بس الرجولة أصلها بالفعل مش بالبطاقة. (ثم وجهت كلامها لكوثر): عن إذنك يا كوثر ربنا يكون في عونك في الحيوان اللي انتي متجوزاه
لم تدرِ كوثر ماذا تفعل إزاء كل ما حدث، فهي حتى تلك اللحظة لم تكن تصدق ما حدث وما قاله برهان، شعورها بالحسرة تجاهه والحسرة على نفسها وما آل إليه حالها، إنه وبسبب شكه المستمر لم يبقِ لها صديقة؛ فهو إما يواعدهن ويتعرف عليهن أو يشنع عليهن ويتهمهن بأبشع التهم ويقذفهن في أعراضهن إن هن رفضن الخروج معه ولم يقبلن تهريجه الخارج عن حدود الأدب واللياقة.
بعد أن غادرت عائشة وتركت كوثر، ذهبت للعمل وتقدمت بشكوى رسمية ضد برهان أنه تعدى عليها لفظيا أمام زملائها بالعمل، وأحضرت الشهود على ذلك –وبالطبع لم يذكر أي منهم أن ذلك كان في الشارع، ولكن قالوا أن ذلك كان في العمل –وأن برهان تعدى عليها لفظيا أثناء تأديتها عملها في إدارتها التي ليست ذات صلة بإدارته لا في طبيعة عملها ولا الموقع الجغرافي لها؛ أي أنه ترك عمله وجاء إلى مكان عملها ليتعدى عليها. ولم تكن شكوى عائشة ضد برهان هي الأولى من نوعها ضد برهان، فملف عمل برهان مليء بالشكاوى من هذا النوع تقدمت بها زميلات عديدات ضده، وبالتالي لم تكن الشكوى في حقه غريبة.
أما عن برهان وكوثر، فبعد أن تركتهم عائشة في الشارع وعادت للعمل لتتقدم بشكواها ضد برهان، كان برهان قد أهان كوثر بما يكفي ليتعاطف معها أي مار في الشارع خاصة بعد أن أوسعها ضربا في الشارع وحاول المارة تخليصها من يده، وكاد أن يخلع عنها حجابها –فكوثر كانت قد أرتدت الحجاب بعد ولادتها لآخر العنقود إيمان –لم تكن كوثر تشعر بما حولها ولا ما يتفوه به برهان ولكن أعادها من شرودها وشعورها بالحسرة على ما أضحت فيه صوت برهان الذي ظل يدوي في أذنها " انتي طالق طالق طالق" والتي ظل يرددها حتى اختفى نهائيا عن نظرها.
لم تعرف كوثر كيف تتصرف، لقد طلقها في الشارع لثاني مرة بعد أن ضربها وسبّها ولكن هذه المرة –أمها توفت وكذلك حماها –ومعها ثلاثة أطفال، أين ستذهب بهن، عادت لعملها دون أن تشتري افطارها. كان جميع من في العمل علم ما حدث من مشاجرة بين برهان وعائشة ودل مظهر كوثر على ضربه لها، لكن لم يكن أحد قد علم طلاقها. عندما شاهدت عائشة كوثر على هذا النحو، اعتذرت لها عما حدث، حتى أنها عرضت عليها أن تتنازل عن شكواها ضد برهان ولكنها وجدت كوثر تنهار باكية في المكتب
عائشة : مالك إيه اللي حصل تاني ؟
كوثر (منهارة وارتمت في حضن عائشة): طلقني، أعمل إيه وأروح فين بالبنات في إيدي؟
عائشة: روحي  عند أخوكي اقعدي عنده وسيبي البنات لأبوهم، مش كل مرة تغضبي تاخديهم معاكي وهو يعيش سلطان زمانه. جمدي قلبك وسيبيه لايص بيهم ويعمل اللي يعمله، ابعتي أي حد يقوله إنك روحتي عند أخوكي وإن البنات في الحضانة وهو بقى يتصرف يأكلهم ويشربهم ويلبسهم يحس بيكي شوية وبتعبك
كوثر (مازالت منهارة): واضح إني لازم أعمل كده، عايش مش ح يستحمل البنات معايا، كفاية عليه ح يستحملني، منك لله يا برهان، حسبي الله ونعم الوكيل فيك، فوضت أمري إليك يا رب
ذهب برهان لعمله مرة أخرى، وبلغه الشكوى المقدمة ضده من عائشة، وأنه تم تحويله للتحقيق معه في الشكوى المقدمة منها ضده ومن رؤسائه لأنه ترك العمل دون استئذان، وأكمل على ذلك عندما بلغه أن كوثر تركت له البنات ولم تأخذهن معها، لم يكن يتوقع ذلك، جلَّ ما كان يتوقعه أن تأخذهن معها وتطالبه بملابسها وملابسهن ولكن أن تتركهن، ماذا سيفعل معهن وكيف سيتصرف، وأين الحضانة التي بها البنات، لم يكن يعرف أي شيء عنهن، وأرسل من يسألها عن حضانة الأطفال وذهب إليهن ليحضرهن من هناك.
عندما رأته البنات هو القادم ليأخذهن بكين بكاءًا شديدًا لقد كن يخافن منه بشده، فهو من يضرب ويسب ويرفع من صوته، أين أمهن أين ذهبت ولماذا تركتهن معه. كان برهان من داخله مثل كل أب يحب بناته ويخاف عليهن ولكنه تعلم أن حب البنات يعني الشدة الدائمة والقسوة حتى يكبرن وهن بنات محترمات ونتيجة لذلك كان جسم رضا وهي البنت الكبرى مليء دائما بآثار الضرب أما هادية فكان أقل من رضا ولكن إيمان كانت لا تزال صغيرة جدا على الضرب، هنا تذكر برهان أن إيمان لم تكمل عامها الأول بعد بما يعني أنها مازالت ترضع رضاعة طبيعية، وكان تلك المفاجأة الثانية له.
كيف كان بعيدا كل ذلك، لا يعرف ماذا تأكل البنات ولا أين هي حضانتهن ولا أين هي مدرسة رضا. وعندما سدت كل الطرق في وجه برهان ندم على تسرعه في طلاق كوثر، وندم على ما فعله، وسأل نفسه، لما يحقد على عائشة هكذا، ولما تصرف على هذا النحو، هو حقا لا يدري لماذا يفعل ذلك، ولكن هو يشعر بالحقد على كل فتاة أو سيدة تقول له لا وكل واحدة تعرف أنه ليس بالفحل الذي يصوره لنفسه.
وعاد من شروده، وقرر أن يذهب لتفيدة بعد كل تلك السنوات منذ وفاة والده بعد مشاجراتهما المستمرة بسبب كراهية تفيدة لكوثر وشعور كل من برهان وتفيدة بأحقيته في الشقة عن الآخر، حتى أنهما وصلا لتحرير محاضر في الشرطة لبعضهما البعض حتى تم التنازل عن الشقة وحصل برهان من تفيدة على نقوده عدا ونقدا منها وتنازل عن نصيبه في الشقة، ولكنه حقا كان لا يدري ماذا سيكون رد فعل تفيدة عندما تراه بعد ما يربو من الأربع سنوات لا تعرف عنه شيئا، هل ستتعاطف معه وتساعده في احتياجات البنات كما فعل هو وكوثر من قبل مع ابنتها ولكن كان وقت التفكير قد انتهى إذ أنه وصل لشقة تفيدة ودق الباب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...