الأحد، 11 يناير 2015

ضياع (الفصل الأول: في الشارع)



الفصل الأول
في الشارع
اكتوبر 1975
تعمل كوثر في احدى الهيئات الحكومية بدبلوم التجارة الذي حصلت عليه عام 1970، عملت هناك بعد توزيع مكتب القوى العاملة لها . كوثر مثل بنات جيلها فهي من مواليد عام 1954، ترتدي الميني جيب والشعر المستعار وتضع المكياج ولا تنسى طبعا الكعب العالي.
لم تكن أسرة كوثر يوما مترابطة؛ فوالدها لم يطلق والدتها ولكنه لم يكن يستقر بالبيت، نادرا ما كان يذهب هناك؛ فهو إما بالعمل أو مشغول بزيجة جديدة له. تعيش كوثر مع والدتها -والتي هي مثل كل السيدات اللاتي تزوجن لكي تنتهي حياتها في بيت زوجها، لم تتعلم غير ذلك في منزل أهلها؛ وبالتالي علمت بناتها أن الزواج هو النهاية المحتمة لكل فتاة- وتعيش مع اخوتها أمينة -وهي الأخت الأكبر لها- وعبير -الأخت الأصغر منها- وعايش -وهو الأخ الأصغر في العائلة. لدى كوثر أخ وأخت أكبر منها وأكبر من أمينة أيضا ولكنهم سافروا خارج مصر، سيف الدين هاجر إلى الولايات المتحدة هروبا من الوضع الموجود في مصر سياسيا واقتصاديا، وسعاد تزوجت وسافرت للعمل باحدى الدول العربية مع زوجها وتعيش هناك ولا يعلم أحد متى ستعود.
وهكذا وجدت كوثر نفسها وحيدة في أسرة مفككة، كل من فيها يعمل لمصلحته الخاصة ولا أحد يهتم بغير نفسه، حتى الاخوة الذكور لم ينتبهوا أن لهم أخوات اناث يحجتن إليهم. عايش عمره الآن تسعة عشر عاما، حصل على دبلوم الصناعة، وعبير وأمينة حصلتا على دبلوم تمريض.
لم تشغل القوى العاملة سوى أمينة وكوثر. ومازالت عبير تنتظر دورها لتعمل؛ وبما أنها لا تعمل فهي المكلفة بالأعمال المنزلية، مما ولّد لديها شعور باضطهاد اخواتها ؛ لأنهم يعملون وهي أصبحت خادمتهم- ولكنها لم تعلن أبدا عن مشاعر الحقد والكره، دائما ما تحتفظ بها لنفسها وتخرجها في أي مشاجرة تنشب بين أختيها ؛ حيث تحرض احداهما على الأخرى ثم تشاهد المشاجرة ، وتظهر في النهاية بمظهر الملاك الذي يحافظ على العائلة.
وبدأ يوم عمل كوثر بعد مشاجرة صباحية معتادة بين كوثر واختيها عبير وامينة على الملابس الخاصة بالعمل
كوثر: ايه يا أمينة انتي كل يوم تاخدي الهدوم الجديدة بتاعتي حرام عليكي كده ما تشتري حاجة ليكي مش لازم حاجتي
عبير: ايه يا كوثر أختك الكبيرة وانتي وهي واحد ايه المشكلة؟
كوثر: وهي من امتى أمينة بتسيب حد يلبس هدومها؟
أمينة: ان كان عاجبك، ح ألبسهم غصب عنك سواء رضيتي أو لأ، مش بمزاجك.
كوثر: انتي مستفزة والله يا أمينة، دي بقت حاجة تقرف، مش انتي ح تلبسي البلوزة اللي أنا لسه شرياها، والله لألبس البلوزة والجيب والباروكة بتوعك اللي بعتتهم أختك سعاد من بره.
أمينة: طب ابقي اعمليها كده ووريني ح تخرجي بيهم ازاي؟
كوثر لم تلتفت لكلام أمينة، وبالفعل عندما أنهت أمينة كلامها كانت كوثر نفذت ما قالته وبدأت تضع المكياج لتتأهب للخروج للعمل، وعندما سمعت الأم المشاجرة هدأت أمينة وطلبت منها أن تكف عن مضايقة كوثر وتتركها تذهب لعملها حتى لا تتأخر، وهذا ما حدث بالفعل.
خرجت كوثر وذهبت لعملها بعد القيام بالطقس المعتاد؛ وهو الذهاب لعربة الفول التي تقف بجانب العمل لشراء طعام الافطار، وهنا رآها برهان لأول مرة. راقبها من بعيد دون أن تلاحظ هي وظل يتابعها وهي ذاهبة للعمل دون أن ينبت ببنت شفة إلى أن علم أنها تعمل في نفس مكان عمله، في نفس الهيئة مع اختلاف الإدارة التي تعمل بها، وبما أنه مشهور في العمل بمعاكسة الفتيات والسيدات، رتب أن يراقبها فترة من الوقت حتى يعرف ان كانت مرتبطة بأحد من العمل وما هي حالتها الاجتماعية، وبدأ التحريات عنها. وبعد مرور أسبوع من مراقبة برهان لها، قرر أن يتكلم معها ويحاول مغازلتها
برهان: بنصبح على القمر
كوثر (تسير دون أن تنظر إلى من يكلمها ولا تعيره انتباها)
برهان (يتجرأ ويمشي بالقرب منها): أنا بصبح على فكرة طب حتى ردي السلام
كوثر (تلتفت له بعصبية وتخلع فردة الحذاء الخاصة بها): على فكرة لو ما ممشتش من هنا ح افتح دماغك بالجزمة دي، فاهم ولا مش فاهم؟
برهان (بخوف من رد فعلها الذي لم يتوقعه): أنا بشتغل هنا
كوثر (بعصبية وبعد وابل من السب): حتى لو بتتنيل هنا اجري ياض من هنا واياك اشوف وشك ولا اسمع صوتك بيكلمني تاني
شعر برهان بالخوف والحرج الشديد، لم يكن يتوقع مثل هذا الرد، أقصى ما كان يتوقعه هو أن تتركه وتذهب للعمل أو تستنجد بالمارة ولكنها لم تفعل. كانت قوية في رد فعلها، وهو ما لم يراه برهان من قبل، وهنا بدأ تحرياته عنها وعن حياتها وعملها.
برهان أصغر الأولاد في أسرة أقل من متوسطة، حصل على دبلوم التجارة؛ ولأنه شارك في حرب أكتوبر استطاع أن يدخل كلية التجارة- وهي منحة من الحكومة لكل من شارك في الحرب أو كان يقضي فترة الجيش الخاصة به أثناء الحرب، وكان برهان أحد هؤلاء- مازال في الكلية في السنة الأولى. ويعمل -كما وزعه مكتب القوى العاملة- في نفس الهيئة التي تعمل بها كوثر.
ليست أسرة برهان بأفضل حال من أسرة كوثر، برهان له اخ غير شقيق من والدته التي كانت متزوجة قبل والده، وهو يكرهه ولا يحبه- الحقيقة أنه يكره الجميع ولا يحب أحدا ولا يعرف لماذا- له أخت أكبر منه مباشرة تفيدة -وهي مطلقة ولديها طفلة تركتها لوالدتها ووالدها لتربيتها وسافرت للعمل باحدى الدول العربية وكان عمر الطفلة في ذلك الوقت عامان. برهان له شقيق أكبر منه ومن تفيدة وهو عبد الله -وهو يعمل مهندسا في احدى الدول العربية - تزوج وسافر وترك زوجته وابناءه أيضا مع والده ووالدته وكان يرسل مصاريف الزوجة والأولاد شهريا.
كان المنزل بالنسبة لبرهان مكان لا راحة فيه ولا سعادة، كان كثير بل دائم الهرب منه. يعتبر نفسه العارف بكل شيء الفاهم لكل شيء وهو في الواقع لا يعرف أي شيء، وبالرغم كثرة معارفه لا أحد يحبه الجميع يبتعد عنه، لا صديق له. حتى من أقاربه لا أحد يحبه الجميع يتحاشاه ويبتعد عنه. عندما حاول أن يتزوج رفضت والدته عروسه التي اختارها واختارت له أخرى رضي بها، ولكنه لسوء طباعه لم تتم الزيجة التي اختارتها له الأم. وكان عليه أن يجد له عروسا أخرى ترضى أن تتزوجه وتعيش مع والدته ووالده. إلا أن القدر لم يمهله من الوقت، لقد توفت الوالدة دون سابق انذار ووجد نفسه مسئول عن طفلة صغيرة عمرها الآن أربعة سنوات، وسافرت زوجة الأخ المنزل مع أولادها لزوجها. وأصبح برهان مسئولا عن والده وعن هدى الطفلة الصغيرة؛ التي وجد نفسه دون رغبة أو طلب والدا لها. وكان لابد أن يتزوج بأسرع وقت ليجد من تعتني بهدى ووالده وتعتني به هو شخصيا.
وفي أثناء البحث عن هذه الزوجة وجد برهان أن الصفات الزوجة التي يبحث عنها تتلخص في أنها لابد أن ترضى بالعيش مع والده، وترضى بتربية فتاة صغيرة، وأن تعيش بمرتبه الصغير الذي بالكاد يفي بحاجاته اليومية من افطار وسجائر وخروج مع أصدقائه. وكان الأهم عنده أن تكون لديها وظيفة ودخل ثابت يساعد في مصاريف المنزل وأن تكون بلا خبرة في الرجال وبلا حب سابق، إلا أن برهان لديه شعور شبه يقيني بأنه لا توجد فتاة بلا حب سابق في حياتها حتى لو قالت هي ذلك، فلابد أنها تكذب ولا تقول الصدق.
برهان من الشخصيات المترددة التي لا تستطيع اتخاذ قرار في حياتها، تخاف من القرارات، ولا تثق في أي شخص مهما كانت درجة قربه منه، يرى أن كل الناس لصوص وأوغاد وهو وحده فقط النظيف الشريف الذي لا يحبه أحد لنزاهته وشرفه، كما يرى أن كل الناس كاذبين أفاقين. ولذلك فإن ملف خدمة برهان مليء بالجزاءات نتيجة تعديات على رؤسائه وزملائه بالعمل ودائما ينتقل من إدارة لأخرى؛ فلولا قانون العمل الذي يقضي بعدم فصل الموظف إلا لأسباب قانونية محددة لا تنطبق على برهان لكان خارج العمل مفصول منه منذ أول يوم استلمه فيه.
اعتاد برهان معاكسة الفتيات ومشاكستهن، وقليلا ما كان يجد من تصده وتصد تصرفاته. كان يجد عينيه دون وعي منه تذهب إلى جيب فلانة وصدرها وقدميها وحذائها وجسمها، وكان يريد أن يعاشر أي واحدة منهن لولا أنه يعرف أنه لا نقود معه لبذلها في الحرام، كما أنه أيضا من الشخصيات التي تخاف الانفاق وتخشاه، تخاف أن تنفد منه النقود فلا يجد ما ينفقه على سجائره وملذاته الشخصية. كما كان يخاف على سمعته في العمل التي اكتفى أن تكون أنه سبّاب ولعّان لا يكبر أحدا ولا يوقر أحدا.
كان يشعر أن البنات تتهافت عليه وتريد الخروج معه، ولكنه كان حال بعض الفتيات في ذلك الوقت حيث كانت الفتيات تخاف من شبح العنوسة، تريد أن تتزوج حتى لا يقال عنها عانس، وبالتالي كان يمكن للبعض منهم الخروج مع الشباب. وبالطبع ملابسهن في هذه الفترة تعكس رغبتهن في الزواج ميكروجيب وكعب عالي ومكياج صارخ وشعر مستعار بكافة التسريحات والألوان.
وكانت كوثر من الفئة التي تحب أن تظهر لكي تجد عريسا لها، منجدا لها من تفكك أسرتها. كانت تبحث عن فارس الأحلام الذي تحلم به كل فتاة الذي سيخطفها على الحصان الأبيض، تنتظر مخلصها من العذاب، ومن تسلط أخت اكبر وحقد أخت أصغر. كانت تفرح داخليا بمغازلة الشباب لها، فذلك دليل على جمالها ولكنها لم ترد على مغازل لها، كانت تتجاهلهم جميعا. فهي تعلم أن من يريد الحلال لن يأتي هكذا بغزل في الشارع بل سيأتي إلى المنزل، وهي تحافظ على نفسها حتى تجد عريسها وفارسها المنتظر لتقول له، لقد انتظرتك كثيرا فأين كنت بالله عليك.
رغم كثرة المغازلات التي تتعرض لها كوثر يوميا بسبب لبسها وشعرها ومكياجها الصارخ، لم يتطاول أحدهم على المشي بالقرب منها مما دفعها إلى سبه وتهديده بالضرب الحذاء، لقد استغربت نفسها في ذلك اليوم، وتعصبت كثيرا منه، خاصة بعد أن عرفت من زميلة لها أن هذا طبع ذلك الرجل، فهو يتصور أن النساء تهيم به عشقا وأن أي فتاة تتمنى الارتباط به. لم تعره انتباها بعد هذه الحادثة، ونست ما حدث وما قيل لها، وياليتها لم تفعل.
بعد المشادة التي قامت بين برهان وكوثر وتجنبه التواجد في مكان توجد به، تحرى عنها برهان جيدا وعلم أن الإدارة التي تعمل بها لها دخل أعلى من دخله، وأنها من أسرة تشابه أسرته من حيث الفقر وبالتالي سترضى به وبظروفه وبما سيقدمه لها من شبكة ومهر. وبعد السؤال عن كل شيء عنها وبعد شرائها طعام الافطار من عربة الفول توجه إليها مرة أخرى برهان ولكن في هذه المرة كان ينوي الانتقام منها لما فعلته به، وذلك بالزواج منها، طلب منها عنوان منزلها وتحديد موعدا معهم.
ولسوء حظ كوثر أنها صدقت أنه كان يختبرها، ورضى والدها بمقابلته ووافق عليه وعلى أن تعيش كوثر في منزل حماها وترعى ابنه تفيدة، لم تعِ أن ذلك بداية تعاستها، فرحت لأنها ستتزوج وفرحت لأن برهان متعجل في الزواج، أخيرا ستترك هذا البيت لتذهب إلى بيت آخر تكون هي سيدته والحاكم الناهي به. لم تدرِ في وقتها أن كل ذلك مجرد أحلام توجد فقط في عقلها ولا توجد على أرض الواقع، فلن يكون ذلك بيتها ولن تكون الحاكم الناهي به، بل ستبدأ مأساتها به؛ لكن مأساتها بدأت حقا يوم رضيت أن تعطيه عنوان بيتها، بدأت في الشارع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...