اعتدت أن أرى وأسمع ما يحدث خلف الأبواب المغلقة، سمعت تعليمات يقولها
شخص ذو صفة عسكرية ورتبة عالية، الجميع يخاف منه، يأمر الجميع بعدم استخدام لفظة
هزيمة واستبدالها بكلمة نكسة. والجميع يلبي وذلك الكائن يحضر الاجتماع ومعه العديد
من الكائنات التي تشبهه في الشكل والهيئة، يضحكون على البشر وخوفهم ومعاصيهم التي
لا تعد ولا تحصى.
كنت أرى ما يحدث في خلوة أبي قبل النكسة، عندما كان يخلص أحدهم من مس
أو يفك عنه عمل سيء، كنت أرى إدريس ومساعديه، وأرى غيرهم الكثير، الغريب أن تلك
الكائنات الغريبة لم تقدر يوما على اختراق خلوة أبي ولا الاقتراب منها، كان آخر حد
لهم هو غرفتي، ثم تحدثت ليلى بشأن ذلك مع أبي فحصن الشقة بالكامل منهم ولم يجرؤ
أحدهم على أن تطأ قدماه –إن جاز أن أقول قدماه –شقتنا الصغيرة.
كنت أحفظ القرآن على يد والدي ووالدتي، وأتلقى على يديهما تعاليم ديني
الحنيف، كان كلا منهما يعتمد على شرح الأسباب للمنع والنهي والأمر، لم يكتف أحدهما
بمجرد أن يقول لي يجب أن نفعل ويصمت كما يفعل البعض مع أولادهم وكما يحدث معنا في المدرسة،
لم يكن مسموح لنا السؤال عن الأسباب، لم يكن مسموح لنا أن نفهم، مسموح لنا فقط أن
نحفظ. لا أنسى أبدا ذلك اليوم الذي سألت فيه المعلمة
آمال: هل كان جمال عبد الناصر ضابطا في الجيش؟
المعلمة: آمال لابد أن تقولي سيادة الرئيس قبل ذكر الاسم، نعم كان
ضابطا في الجيش
آمال: إذن هو دخل المدرسة وتلقى التعليم، هل هذا صحيح؟
المعلمة وقد بدأت تشعر بالضيق من الأسئلة: نعم بالتأكيد، ماذا تريدين؟
آمال: كل ما أريد قوله أن الكتب تقول أن الرئيس كان ابن لأسرة فقيرة،
وحضرتك ذكرتي أنك من أسرة متوسطة، وأنتِ تعلمتِ وهو أكمل تعليمه لكي يصبح ضابطا،
والأكثر من ذلك أن الكتب تقول أن الجيش منع عن المصريين قبل الثورة، والرئيس وغيره
من ضباط الثورة كانوا ضباطا في الجيش، الكتب تكذب
لم تتمالك المعلمة نفسها من الغضب الناتج عن حرجها من السؤال، لم
يتوقع أحد أن تفكر طالبة في الصف الثالث الابتدائي وتسأل عن ذلك. كانت الهزيمة قد
حدثت قبل بدء العام الدراسي، وبعد سؤالي قامت المعلمة بنهري وعنفتني بشدة وطلبت
مني الجلوس ولم تسمح لي بعدها ذلك اليوم بأي سؤال.
ما حدث بعد خروجها هو ما سبب لي الحزن الشديد، لا أعرف كيف رأيتها
تخرج وتذهب لأحد الضباط وتحكي له ما حدث، وكان أقرب تخمين وقتها أن هذا الكلام
لقنه لي والدي لكي أنشر الشائعات وأتسبب أنا ووالدي في زعزعة أمن الدولة، ونست أن
تضيف المحتلة. ورأيت ما كان يحاك لوالدي، لقد أمر الضابط بإحكام المراقبة على
والدي ومتابعة كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، وبالطبع وصل له ملف والدي الذي أعد له
عقب الانقلاب العسكري –والذي سلب منه كل ما يملكه بناءً عليه، وعلى جهل من أعده –وكان
كلام والدي الذي كان يقوله في كل مكان ولكل شخص عن الانقلاب وسبب الهزيمة سببا
وجيها لاعتقاله وقتله من وجهة نظر هؤلاء القتلة.
لقد كنت أرى الشياطين تحلق فوق رؤوسهم في كل اجتماع لهم يخص اعتقال أو
قتل شخص ما، كان القتل والاعتقال وسلب الأموال والأعراض يتم بدم بارد، لا تطلب مني
أن أحبهم، فلا رصيد لهم يشفع عندي. لقد نهبوا أموال والدي عقب انقلابهم، واعتقلوه
وقتلوه، بعدها اضطرت أمي للبحث عن عمل لسد احتياجات المنزل والانفاق على تعليمي
وعلى حياتنا.
كيف أحبهم وحياتي تحولت لسلسلة طويلة من الطوابير التي لا تنتهي،
طوابير للحصول على الكساء الشتوي، وأخرى للصيفي، وثالثة للخبز، ورابعة للحوم،
وخامسة وسادسة وسابعة. لقد تحولت حياتي لطوابير لا تنتهي. أضف على ذلك الكذب
والافتراء الذي تحمله الكتب والمقررات الدراسية، كيف كانت مصر محتلة من
العثمانيين، ومصر كانت تابعة للخلافة الإسلامية التي كان مقرها الآستانة، وانتهت
الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية عام 1922، عندما طرد مصطفى كمال أتاتورك آخر
السلاطين العثمانيين، لم يكن قط احتلالا، كان الاحتلال الحقيقي هو الاحتلال
البريطاني والفرنسي الذي تعرضت له مصر تلاهما الاحتلال الصهيوني لها. لم يفكر
هؤلاء الضباط قط في صالح البلاد والعباد، كان تفكيرهم في السلطة والصراع عليها، كم
من الفظائع ارتكبت في تلك الفترة، كم من جرائم قتل وهتك أعراض، ومنكرات لا يرضى
عنها رب العالمين ارتكبت باسم الثورة في تلك الفترة.
كيف أحب من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، بدعوى
الحرب على الإخوان المسلمين، منذ حادث المنشية الذي وجدتني أرى كيفية التحضير له
وكيف رتب له عبد الناصر ليلصق التهم بأشخاص أبرياء، كانت تلك أستطيع أن أرى فيها
الماضي وما حدث به، بعد موت عبد الناصر ظهر العديد من الضباط ليكتب كل منهم
مذكراته ويحكي ما حدث كما رأيته، كما حكى هؤلاء العديد من المساخر كانت حدثت في
تلك الفترة بين الضباط، لقد كانوا يقتلون بعضهم البعض، ولا يراعون الله في أفعالهم
مع العباد، لقد أصر هؤلاء على نشر الإلحاد والشيوعية.
صاحب موجة الإلحاد والكفر ودعوات العري، جهل وفقر انتشر في البلاد، كما
زادت الأسعار فكانت الحكومة والجيش هو الأب والأم وهو من يوفر الغذاء والكساء وترك
مهمته في حماية حدود البلاد، لم يحدث أيام الملك أن نام أحد بلا طعام، كان صاحب كل
أرض مسئول عن غذاء وكساء العاملين لديه. كان الجميع يعمل، كان هناك الحرفي والفلاح
والأفندي، بعد الثورة لم يستطع الفلاحين رعاية الأراضي وبدأ الاتجاه لبيعها أو
تجريفها. لم يملك أي من هؤلاء حق الأسمدة اللازمة للأرض، كان كل ما يملكونه هو
جهدهم في زرعها وحرثها ولا شيء أكثر من ذلك.
تم القبض على أبي رغم تحذيرنا جميعا له، ونصحنا له بالهرب، ولكنه لم
يهرب وقرر أن يواجه مصيره. في ذلك اليوم لم أذهب للمدرسة وأخبرني والدي أن أتجلد
وأكون خير معين لوالدتي ولا أتركها ولا أتسبب في حزنها أبدا. وخرج والدي لعمله
ورأيت ما حدث له، كيف اعتقلوه واقتادوه للمعتقل وعذبّوه حتى توفى، لم أقو على تحمل
ما رأيته وأصبت بحمى شديدة، كانت والدتي وليلى معي لا يتركاني، وعندما توفى أبي
رأيت كيف رميت جثته في القمامة، بكيت ووجدت ليلى بجانبي تقول لي أنها عرفت مكان
والدي، احتضنتها وجاءت والدتي على صوت بكائي وجلست في مكان آخر واحتضنتني هي
الأخرى. كنت أعلم أنها ترى ليلى وغيرها من الأطياف والأشباح والجان ولكنها لا ترى
باقي الكائنات التي أراها، ولا ترى الرعب الذي أراه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق