الاثنين، 21 ديسمبر 2015

آمال -الفصل العشرون (أطياف من الماضي)

الأباجية عام 1959
تصرخ عقيلة جراء المخاض، تصارع كي أخرج للعالم وأخرج للنور، وأخيرا خرجت لأرى العالم في الأول من يونيو عام 1959. لقد ولدتني أمي في ذلك اليوم، وأعلنت للعالم قدومي أنا آمال توفيق آخر أحفاد ونسل آل عثمان.
أراك تسأل عن شكلي وهيئتي، أعتقد أن أمي وأبي قد وصفا كل شيء، كما قيل لك آنفا، أنا بيضاء البشرة، شعري ذا لون ذهبي طويل وناعم، أنا متوسطة الطول، أما عن وزني فلست بالبدينة ولا النحيفة، تقول والدتي أنني ممشوقة القوام.
يقول والدي أنني ورثت جمال آل عثمان، وتقول لي ليلى أني أشبه خوشيار كثيرا؛ وكذلك قالت لي شمس. أرى علامات التعجب على وجهك، لا تتعجب فأنا أرى كل شيء منذ وعيت على هذه الحياة، أرى الأطياف والجان والأشباح وأسمع كل شيء، أستطيع أن أسمعهم أينما كانوا وأسمع حواراتهم. لا تتعجب ويضيق صدرك بي سأحكي لك كل شيء بالتفصيل فهل أنت مستعد؟
عندما بدأت أعي ما حولي –وقبل أن أعرف الكلام –وجدتني أرى أشياء كثيرة، أرى أطفال في مثل سني وأرى أشخاص كبار وأشياء لم أكن أدري ماهيتها بعد –فيما بعد أدركت أنهم أشباح وجان وأطياف مختلفة –كنت أحب اللهو مع الأطفال في سني، ولأني لم أكن أعرف الكلام وكانوا هم مثلي كنا نجري ونحبو. كانت هناك نساء في المكان، كل واحدة مع ولدها أو أولادها تراعي الجميع، وكانت معي سيدة رقيقة جميلة تراعيني قالت لي اسمها شمس وظهرت أخرى معها تبدو والدتها قالت لي أنها جدتي اسمها ليلى وقالت لي أنها والدة شمس.
كانت ليلى وشمس معي دائما وتحاولان معي تعلم الكلمات، كانت شمس تتحدث العربية وليلى تتحدث مع العربية التركية العثمانية والروسية القديمة، تعلمت منهما الكلمات واللغة.
استغرب والداي بعض الكلمات التي كنت أنطق بها، ولكن لا بأس ببعض الكلمات الغريبة من طفلة لم تتعلم الكلام بعد، لن يشغل أحد نفسه ويتكلف عناء البحث عن معنى كلمات بالتركية العثمانية والروسية.
وعندما أتحدث عن التركية يجب أن تعلم أن هناك تركية عثمانية وهي التي كانت سائدة في العهد العثماني وهناك التركية المعاصرة. الفرق بين العثمانية والمعاصرة أن الأولى كانت تكتب بحروف عربية، والثانية ظهرت على يد مصطفى كمال أتاتورك الذي استبدل الحروف العربية بالحروف اللاتينية وأجرى بعض التغييرات على اللغة التركية.
كنت أحيانا أرى كائنات قميئة المظهر مخيفة، كانت كيانات ضخمة تتشح بالسواد، ذات عيون حمراء كأنها جمرات نيران مستعرة. لم يكن لهذه الكيانات فم لتعرف إن كانت تضحك أم لا ولكن كنت أشعر دائما أنها كائنات غاضبة ولا تعرف الرحمة، حتى أطفالهم الصغار لهوهم كان بمحاولة إخافة وقتل البشر، لقد سمعت هذه الكلمات في تتردد في عقلي ولم أكن أعرف معناها بعد.
ولكن كلما شعرت بالخوف وجدت ليلى وشمس بجانبي يطردا تلك الكائنات وتستعيذان بالله منها، والغريب أن هذه الكائنات تحترق كلما ذكر لفظ الجلالة "الله".  وكانت ليلى تقول لي دائما "احفظي الله يا ابنتي يحفظك، احفظي بحفظ قرآنه الكريم، لا تعصي له أمرا، ولا تخافي أبدا من مخلوق، فكل ما ترينه أمامك هي مخلوقات الله عز وعلا، ولا يستطيع أيهم أن يمسسك بسوء ما دام الله معك". لم أكن لأفهم وقتها معنى كلمات ليلى، كنت في الثالثة من عمري تقريبا، لا أدري معنى ما تقوله ولا أفقه منه شيئا فلم أكن أتكلم جملة واحدة بعد، ولكني فطنت له فيما بعد.
عندما كان يدخل أبي خلوته، كنت أراه يتحدث مع ليلى وعثمان وإسماعيل ولكني لم أرى شمس أبدا معهم في تلك الخلوة، كانت تجلس معي وتلعب معي حتى لا أشعر بالضيق وكي لا أسمع ما يقال في خلوة أبي –التي لم تخل يوما من جان يتلو القسم، وآخر يحترق.
أما أمي فكانت تتركني مع الدمى التي تخيطها لي لألعب بها وتدخل هي للمطبخ لتحضر الطعام أو تذهب لترتيب الشقة التي لم تزد يوما عن كونها غرفتان وصالة ومطبخ وحمام. وأصبحت غرفتي مقسمة قسمان، قسم منها أخذه أبي لكتبه وخلوته، وقسم آخر لي ألهو به وألعب وأنام.
عندما ولدت اضطر والدي أن يبني جدار آخر في غرفة الخلوة لتكون لي غرفتي الخاصة، وكانت غرفة خلوته تحتل نصف مساحة الغرفة وغرفتي النصف الآخر، وبالتالي أصبحت الشقة ذات ثلاث غرف. كانت غرفتي تتسع لسرير لي ودولاب صغير أضع به ملابسي ومرآة كي أرى هندامي بها، لقد اشترى أبي غرفة لا نحتاج لتغييرها عندما أكبر ولكن سريرها لا يكفي غير شخص واحد، وكأنه كان على يقين أني لن يكون اخوة آخرين.
أما غرفة خلوته –والتي لم تجرؤ أمي يوما على دخولها، إلا بعد وفاته لتخرج لي بعض الكتب والمخطوطات النادرة من داخلها –كانت تحتوي على ثلاث مقاعد صغيرة، ومنضدة مساحتها لا تزيد على الربع متر وبضعة أرفف معلقة على الحائط بها العديد من الكتب، هناك أيضا كوة صغيرة داخل الحائط يخبئ بها أبي بعض الأشياء، ولا أدري ما هي، لم يكن يسمح لي أبدا برؤية ما يخبئه داخلها. كانت غرفته مطلية باللون الرمادي الفاتح.
عندما بدأت قول الكلمات ورأيت ليلى أمامي وهي تحدث والدي وكنا وحدنا هتفت باسمها وقلت له أني أحبها، استغرب والدي جدا من ذلك، سألني هل أرى أحدا وبالطبع أجبته بالإيجاب، هنا طلب مني عدم التحدث في ذلك مجددا، وعدم إخبار أي شخص بتلك الموهبة حتى لو كانت والدتي. لذا لم أقل له أني أستطيع أن أرى ما يحدث بعيدا عني، أن أرى ما يحدث خلف الجدران.
كبرت ووصلت لسن المدرسة وبالطبع لم أقو يوما على البوح بما أرى وبما أملك من ملكات أو نقمات، لقد أحالت تلك الهبات أو النقمات أيا كانت حياتي جحيما، أن ترى خلف الأبواب شيء صعب، قد يكون جميلا في بدايته، ولكن عندما تتكشف لك الحقائق كلها وتصدم في أشخاص كنت تحبهم تكره نفسك وتكره الحياة بمن فيها.
ستعرف كل شيء في أوانه لا تتعجل، دعنا نعود لدخولي المدرسة، لقد دخلت المدرسة في العام 1965 وحدثت الهزيمة ولاحتلال الإسرائيلي لمصر وبلاد الشام في العام 1967. لقد احتلت إسرائيل سيناء وكانت تقوم بالغارات الكثيفة على القاهرة والمحافظات الأخرى، وكانت المعلمة تقول لنا أن ما حدث هو نكسة، وأن الجيش قادر على ضرب إسرائيل السيئة بالعصا ورميها في البحر.
ما قالته المعلمة كان يقال في كافة المدارس من جميع المدرسين، الغريب هو ما رأيته عندما كذبت المعلمة وقالت ذلك الكلام، رأيت كائنا طويل له قرنان وعيون مشقوقة بالطول تخرج من عيونه ألسنة اللهب، ويرتدي السواد. يبدو أنني لن أكف عن رؤية تلك الكائنات المرعبة، نظر لي وكان يضحك بطريقة أفزعتني، وسمعت من يقول لي في عقلي، اعتادي على ظهوري وعلى رؤيتي فالبشر أصبحوا ملاعين ملعونين، يكذبون ويعصون ويرتكبون الموبقات؛ لذا لن أكف عن الظهور لك مع كل كاذب، وفي كل مكان يعصى فيه خالقك. وجدتني أفعل ما قالته لي ليلى وشمس مرارا أستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وكما تعود وجدته احترق واختفى.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...