الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

عقيلة -الفصل الثامن عشر (أطياف من الماضي)

بعد وفاة توفيق كان لابد لي من البحث عن عمل أنفق منه على البيت وعلى تعليم آمال، لم تكن لي شهادة أعمل بها غير الابتدائية، بحثت كثيرا حتى وجدت وظيفة ممرضة في مستشفى، تعلمت التمريض وأصبحت أعمل في فترات مختلفة، لم يكن معاش أبي يكفيه وكبر لينفق على أمي وعلينا، وابتعد عنا الجيران خوفا على أنفسهم، منذ تكلم توفيق في حقيقة الهزيمة والجيش أصبحنا منبوذين غير مرغوب بنا، لذا لم يهتم أحدا لأمرنا، لم يهتم أحد لأمر سيدة وابنتها التي لم تكمل عامها التاسع بعد، ذهبت الأخلاق والشهامة والمروءة وحل محلها الخوف والجبن، كنت أبكي ليلا وأنا أحكي لتوفيق ظن الناس بي، وسيرتي التي يلوكها الجميع، لا يخاف أحدهم أن يرد له ذلك في أولاده وبيته.
كنت أبكي في حضن ليلى ليلا أبثها حزني وخوفي على وحيدتي، كانت تفهمني وتصبرني وكلما زاد عليّ همي قمت فتوضأت ونظرت في وجه آمال واحتضنتها، كنت أعلم أنها تسمع بكائي ولا تعرف له سببا، لم أقو على أن أصارحها بوفاة والدها على ذلك النحو، كانت صغيرة جدا وبريئة جدا لتتحمل ذلك.
كنت أعلم خوفها من البقاء وحدها في المنزل ولكن كنت أترك معها ليلى، وأعلم مكان العهد الذي لابد لها من تلاوته عند البلوغ، وحيدتي تتلو عهدا مع الجان، كم كان هذا غريبا ولكنها وصية والدها التي لابد أن تنفذ.
كان أكثر ما يهمني في تلك الفترة هو تعليمها تعاليم دينها جيدا وإدراكها لأسباب النهي والأمر، وكانت تلك معضلة كبرى، لا يوجد علم متاح في المساجد ولا في الأزهر ذاته لتتعلم منه ذلك، لقد تبدل حال الأزهر ولم تعد الكتاتيب موجودة، لقد أغلقت ولا يسمح للمساجد بدروس العلم، حتى وجدت توفيق يرشدني على مكان مجموعة نادرة من الكتب والمخطوطات الإسلامية، كان قد خبأها ليوم مثل هذا، وبالفعل أخرجتها وعودت آمال على القراءة ومصادقة الكتب، كنت أعرف أن القراءة هي السبيل للفهم والمعرفة، وكانت هي تقرأ في نهم أحببته منها، حتى أنها حفظت الأربعين النووية في أقل من شهر وحفظت صحيح مسلم والبخاري، كانت لديها مهارات وملكات تجمع بيني وبين أبيها رحمه الله.
أنهت آمال حفظ القرآن وهي في المرحلة الإعدادية مع حفظ الأحاديث وإخراجها، كان ذلك صعبا وليس بالأمر السهل، ولكن آمال كما توفيق تعشق كل تحدي، لا تستسلم أبدا؛ وكان لابد أن أكون مثلها.
لم استسلم لنظرات الخوف والكراهية من النساء؛ خوفهن مني على أزواجهن وحقدهن عليّ لفقدي زوجي وخروجي من المنزل في مواعيد متأخرة وعودتي متأخرة رغم التزامي بحجابي. كان لابد لي من البحث عن عمل فلا معاش لتوفيق ومعاش والدي لا يكفي، فوالدي معاشه بالكاد كان يكفيه ووالدتي، لذا بحثت عمل. عندما وجدت عملي في احدى المستشفيات، كنت أعرف أنني سأترك وحيدتي مع والدايّ حتى أعود، ولكن القدر أبى أن أهنأ؛ توفى والدايّ في نفس يوم حصولي على الوظيفة.
عندما قرأت في احدى الصحف عن طلب ممرضات في مستشفى حكومي، وذلك بسبب العمليات الفدائية والضربات التي يوجهها لنا العدو من وقت لآخر، ذهبت وتقدمت للوظيفة وقبلوا بي، وكان من المفترض أن أتسلم وظيفتي أول الشهر، أي بعد أسبوعين من الآن.
فرحت بالوظيفة والراتب الذي يساعدني على الحياة، وعندما كنت أخرج في فترة التدريب على العمل كنت أترك آمال مع أمي، وفي ذلك اليوم عند عودتي كنت أسمع صوت آمال تبكي قبل أن أصعد العمارة، هرعت إليها وجدتها تحضن والدايّ وتستحلفهم بالله أن يرد أحدهم عليها.
لم أصدق حدسي بوفاتهم، هرعت إليهم أضع يدي على وجههما لألتمس منهم أي نفس خارج، دون جدوى، لقد فارقا الحياة، لا أدري أي حظ هذا، ولكني وجدت تلك الأشباح فرحة، ثم تحدثت آمال لأول مرة لي بما تراه، وما رأته.
كانت في الصف الرابع الابتدائي في ذلك الوقت، توقعت هول صدمتها أن يموت جداها معا أمامها، وتحدثت
عقيلة (وهي تبكي وتحاول احتضان آمال لتبعدها عن الجثث): تعالي في حضني يا صغيرتي، ادعي لهما بالرحمة
آمال (وهي تبكي وتشير لركن ما بالغرفة): لقد قتلهما ذلك الشبح، لقد قتلهما
وبالفعل نظرت صوب المكان فرأيته يضحك، ما أخبث ما رأيت، وقال لي "خافي مني، دورك قادم، ولا يوجد توفيق لينقذك". أصابتني الدهشة، من هو؟ ولماذا قتلهما؟ ولماذا يتوعدني؟ لم أخف منه، لقد قابلت كثيرا، ولكني نظرت لآمال فوجدتها تراه وتسمعه، لذا احتضنتها وطمأنتها كي لا تخاف، فوجدتها تقول لي "لا تخافي منه يا أماه، لن يمسنا بضر". كل ما كنت أفكر فيه هو من هو؟ وكيف قتلهما؟ ولكن لابد من احضار الطبيب وتشييع الجثمان لمثواه الأخير، وليقضي الله أمرا كان مفعولا.
دفن والدايّ، دفن سندي وظهري ووراهما التراب، فلترحمني يا ربي ولتعينني على ما هو قادم، مرت أيام العزاء، ونسيت ما حدث وكان لابد لي من ترك آمال وحيدة أثناء فترة عملي. كانت قوية وشجاعة ومؤمنة بالله وبقضائه، شعرت أن الله عوضني بها عن فقداني لأحبابي واحدا تلو الآخر، وتذكرت كلام جدي يوسف لي "يجب أن أكون قوية".
في تلك الفترة لم يسأل عنا أحد، لم يسأل أحد عن أحوالنا ولا كيف نعيش، نهشتني عيون الرجال وذبحتني نظرة اشتهائهم، قتلتني تلك النظرات التي تشعرك أنها ترفع عنك سترك لترى كل ما تستره وتنتهك حرمتك.
كنت أبكي كل ليلة قبل نومي حتى تظهر ليلى تضمني لحضنها الدافئ وتقرأ لي ما تيسر من القرآن حتى أنام، كنت أشكو لها نظرات النساء والرجال، أشكو لها كيف يتعامل معي الناس، كأنه ذنبي أن أصبحت أرملة وأنا مازالت شابة، كأنه ذنبي أن أصبحت أرملة وأنا جميلة.
مرت الأيام سريعة وتوفى عبد الناصر وبعدها جاء نصر أكتوبر كانت آمال في المرحلة الإعدادية، وتلاشى الخوف من الرقابة المستمرة، وبدأ الجيران في محاولة التودد لنا والسؤال عنا، ولكني قررت البعد عن الجميع، لن اختلط بأحد، من تركني وأنا في حاجته لن يقترب الآن. انتهى الاختبار ورفعت الأقلام وجفت الصحف.
انشغلت في عملي وتربية وحيدتي، كانت ليلى رفيقة دربي، لم تتركني وكذا توفيق، كم كنت اشتاق لوجوده بجانبي، تبا له عبد الناصر وتبا لتلك الثورة المزعومة وتبا لكل من صار في ركبها وعاش على حساب حياة أعز الناس إليه. كرهت الثورة وعبد الناصر ولكني لم أقو على التصريح بذلك، خفت على صغيرتي من سيرعاها، أنا كل أهلها؛ لذا اتفقت معها ألا نتحدث في السياسة قط فلنكره من نكره دون التصريح به.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...