الاثنين، 7 ديسمبر 2015

عقيلة- الفصل الرابع عشر (أطياف من الماضي)

كان يوسف هو جدي لأمي، أنا عقيلة والدة آمال، كان لابد لي أن أعود بكم للماضي كي تعرفوا عني أصلي وعائلتي. كان لابن يوسف زوجة تحمل في أحشائها ولده، وضعته بعد وفاة زوجها بستة أشهر، أرسل لها يوسف قبل وفاته كل ماله لتنفق به على ولدها ولكنها بالطبع لم تعلم مصدر تلك الأموال المرسلة، وتربى ولدها في مصر وهكذا حتى أتت أمي لهذه الحياة الدنيا.
ولدت أمي عام 1910 لأسرة متوسطة الحال، كان والدها يعمل في ديوان الحكومة لقد كان أفندي في الديوان، لا أعرف كيف اختفت ثروة أجدادي ولا ماذا حدث لها. أعلم أنك تتساءل كيف عرفت عن يوسف ما عرفت، لسبب بسيط لقد زارني يوسف مرتين قبل زواجي من توفيق ولم يقل لي أن توفيق له صلة نسب وصهر لعائلة أمي، ولكنه حكى لي ما حدث وما كان، كنت أرى صدق توبته، أراك تسألني مرة أخرى كيف ذلك، أقول لك لقد أتى في زي أبيض ووجه يملأه النور، وعلمني في زيارته أن ما أراه وأسمعه من أطياف وأرواح وأشباح هي قدرة توارثتها بعض الأجيال في الأسرة.
كبرت والدتي وتزوجت من أبي وهي في سن السابعة عشر، كان والدي هو الآخر أفندي في الحكومة كان يعمل مع والدها وعين حديثا في الديوان، وكان عمره ثلاث وعشرين عاما، تزوجها ولم ينجبا غيري أنا عقيلة محمد ثابت.
عندما ولدت كنت مميزة، يقول أبي أني "وش الخير" على الأسرة، حيث وجد يوم ولادتي عشرة جنيهات في الشارع وكان الشارع خالي من المارة، إن ذلك المبلغ يعتبر ثروة عام 1930، ادخر ذلك المبلغ وحاول أن ينشئ تجارة صغيرة لنا لنعيش منها بجانب عمله في الحكومة وبالفعل قد كان ذلك.
كنا في ذلك الوقت نعيش في منزل صغير يتكون من طابقين في حي السيدة زينب، وهو حي شعبي ولكنه كان مناسبا لنا أن نعيش به. منذ بلغت الخامسة أصبحت أرى وأسمع أشياء وأطياف لا يراها غيري، ولكني لم أقدر على البوح بذلك، كنت ارتاد الكُتَّاب وأبي أصر على ذلك، ثم دخلت التعليم الابتدائي، وعندما أنهيت التعليم الابتدائي كنت قد أنهيت حفظ القرآن، وبلغت مبلغ النساء. منذ ذلك الوقت ارتديت حجابي ولم يسمح لي أبي بالخروج من المنزل إلا بصحبة أمي.
أحببت أنا ذلك، كنت أعلم أن قدرتي على رؤية الأرواح والأطياف هبة من الله، أخبرني أحد الأطياف ذلك، وقال لي لا يجب أن يعرف عنها أحد، عندما رأيتهم أول مرة وأنا في الخامسة رأيت طفلا صغيرا يريد أن يلهو ويلعب؛ لعبنا معا حتى أنهكني التعب ورقدت أستريح من التعب، ورأيت فرحة ذلك الطفل لأني لم أخف منه ولعبت معه، استغربت ذلك، ثم ما لبثت أن أدركت أننا وحدنا في المنزل فمن أين أتى ذلك الطفل؟!!
شعرت بالخوف، ولكن لا أدري لماذا لم أطلب أن أعرف من هو، تكلمنا كثيرا وتجاذبنا أطراف الحديث وقال لي أنني مميزة، كانت هذه الكلمة محببة إلى سمعي، إنها الكلمة دائما ما يقولها لي والدي الحبيب، ويغدق عليّ من النقود لأشتري به الحلوى والشكولاتة. ثم تتابعت رؤيتي للأطياف صغارا وكبار، سمعت منهم الكثير وتعلمت أكثر؛ كانوا يظهرون في غرفتي ليلا أو عندما أكون وحدي في الغرفة أو المنزل، كنت أحب تواجدهم معي كثيرا، وعرفت سبب شعوري أني مراقبة دوما.
لم أخبر أي من أبي أو أمي ما بي، وعلمت من دراستي أن الأرواح من علم الله، وأن الضار والنافع هو الله؛ لذلك تلاشى خوفي ولم أعد أخاف. وعندما بلغت مبلغ النساء ارتديت الحجاب كما أمر به الله، وكان ذلك في الوقت الذي ظهرت فيه دعوات كثيرة لخلع الحجاب والمطالبة بتعليم المرأة، لقد كانت البنات تذهب للكتاب، ثم يستحضر لها الأب من يعلمها في المنزل، وإلا كيف تعلمت البنات اللغات والعلوم الأخرى وظهر بينهن الصحافيات والكاتبات والشاعرات، وكيف ظهرت صفية زغلول وهدى شعراوي ومي زيادة؟!
كانت النساء ترتدي " الحبرة واليشمك" وهو يشمل غطاء للرأس والوجه، وكانت هناك العديد من المحاولات المستميتة حتى يظهر وجه المرأة ولا يختبئ وراء حجاب، لم أفهم لماذا هذا الإصرار على أن تظهر المرأة وجهها.
عندما كنت في العاشرة كانت السينما منتشرة والأفلام تعرض فيها، ورغم نظرة المجتمع السيئة للممثلات والممثلين باعتبارهم فئة ضالة ولا تلتزم بتقاليد المجتمع وآدابه وعاداته، إلا أن ملابس الممثلات وطريقة ظهورهن أغرت الكثيرات بتقليدها. في الأربعينات كانت معظم الممثلات من اليهوديات، وغير المصريات، وقلة قليلة هي المصرية، ولم تكن منتشرة، ولكن لا أعلم متى أصبح الجميع يريد أن يلبس كما الممثلات، يظهرن في الأفلام بفساتين وشعر مصفف بعناية، مع كمية لا بأس بها من أدوات التزيين.
عندما حدث حريق القاهرة في يناير من العام 1952 احترقت تجارة أبي واحترق منزلنا أيضا ووجدنا أنفسنا نبحث عن مأوى، وجد أبي مأوى لنا عند أحد أقاربه، عند ابن عمه كان يقطن في قنطرة السباع، انتقلنا هناك وحاول أبي أن يجمع بعض الأموال لنشتري بيت آخر ننتقل إليه، وتفرغ لعمله الحكومي.
أثناء بحثنا هنا وهناك كنت أنا أبلغ وكان ابن عم والدي لديه ولد أكبر مني ورأى أبي أن ذلك خطأ أن يختلط الجنسان، لأنه مكمن الخطر، في ذلك الوقت حدثت الانقلاب العسكري –كما أطلق عليه الضباط أنفسهم، الذي ما لبثوا أن قالوا عنه ثورة –وتولى الجيش زمام البلد وشيدت المحافظات وحدات سكنية للتمليك وأخرى للإيجار، ذهب أبي ليستعلم عن الأمر فوجد وحدات سكنية في منطقة تسمى الأباجية جاهزة للتسليم الفوري.
لم يتقص أبي عن المنطقة، بل أنهى الإجراءات وكان يتشوق لكي ننتقل لبيتنا نحن، لم نتذمر لضيق المنزل الجديد، بعد أن كان بيتنا القديم مكون من طابقين وحديقة، وجدنا أنفسنا في شقة مكونة من ثلاث غرف ومطبخ وحمام. كانت صدمة لنا، ولكن الصدمة الكبرى التي تلقيتها وقتها –وكان عمري آنذاك اثنين وعشرين سنة –أن المنزل عامر بالأشباح والأرواح الطيبة وغير الطيبة، لم أكن أعرف قدرتي آنذاك على التصدي لهم، لذا لم أترك قراءة القرآن والاستعاذة، واللجوء إلى الله ليمدني بالقوة اللازمة لذلك.
وفي أول مرة دخلت شرفة المنزل لنشر الغسيل الخاص بنا، كنت أرتدي حجابي، رأيته؛ كان شاب يبدو أنه في الثلاثينيات من عمره، علمت بعد ذلك أنه يبدو أكبر من عمره لما لاقاه في حياته، رأيته وتظاهرت أني لم أره، ولكنه رآني وما لبث أن طرق باب بيتنا لنتزوج. لقد كان توفيق زوجي ووالد ابنتي الوحيدة آمال.
عندما رأيته صدفة وأنا أنظر لأسفل لأرى إن كان أحد من الجيران ينشر غسيل له، ولم أجد فعاودت النظر لمكاني، وهنا وقع نظري عليه، أبيض البشرة وله عيون تجذب من ينظر له، شعرت به يسرق قلبي مني، تعلقت به، ولا أعلم لماذا دعوت الله أن يكون لي. سرى حبه في دمي، لم أعلم ما الذي حدث ولكني أحببته.
بعد أن أنهيت مهامي المنزلية مع والدتي دخلت غرفتي لأنام، وعندما أغلقت باب الغرفة رأيت يوسف، لم أكن أعرف من هو وقتها لذا كان لابد لي من سؤاله عن هويته، وعرفت منه أنه جدي وحكى لي حكايته كاملة، ولكنه في هذه المرة لم يذكر لي أن توفيق هو حفيد إسماعيل، ولكنه قال لي أني قوية ولابد أن أكون بالقوة التي تعينني على تحمل هذه الأشباح البغيضة، وأن أتمسك بقربي من ربي ولا أبعد عنه.
بعد مرور أسبوع على ملاحظتي لتوفيق ووقوعي في حبي وشوقي له، وجدته يطرق باب بيتنا يطلب يدي، وسأل عنه والدي وتأكد من حسن خلقه وسيرته الحسنة في المنطقة وفي عمله، ولكنني لاحظت دائما أنه لا يأتي منفردا، وجدته يأتي مع سيدة ورجلين، لم أكن أعرف وقتها من هم ولم أعلق أو أظهر أني أراهم لأن والدي لا يعرفان هذه القدرة؛ لذا تظاهرت أني لا أرى شيئا، وتم الزواج خلال شهر واحد، انتقلت من شقة والدي لشقة توفيق –في العمارة المقابلة لعمارتنا.
ما لفت نظري وقتها أنه بمجرد زيارة توفيق الثانية لنا مع أهله الذين تعرفت عليهم –فيما بعد –طلب مني أن أعد له الشاي وطلب من أبي أن يأتي له بمصحف ويصليان سويا، وبعدها لم أجد أية أرواح غير طيبة في الشقة. وعلمت أن توفيق يرى مثلي الأرواح والأشباح، ولكني آثرت الصمت وعدم الخوض في تلك المواضيع حتى يشاء الله. وقبل الزواج كانت الزيارة الثانية والأخيرة من يوسف لي حكى لي خلالها أن إسماعيل هو جد يوسف وأن ابنتي التي سأنجبها ستكون وحيدتي، وطلب مني أن أكون قوية بما يكفي للحفاظ على ابنتي وزوجي، كما أوصاني بعدم الحديث عن قدراتي تلك مع توفيق حتى يأتي الوقت المعلوم لذلك الحديث. وامتثلت لكلام جدي يوسف، ولكني لم أصدق أنه علم أني لن أنجب سوى ابنه وحيدة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...