بعد حادثة هاني وما مررنا به عرفت حملي، وأني أحمل في أحشائي جنين
يجمعني بزوجي وحبيبي توفيق، كنت أتمنى أن يكون ولدا، لم يكن متاحا وقتها أن نعرف
جنس المولود ولكن لا أعلم لماذا تذكرت قول جدي يوسف أني لن يكون لي سوى ابنة واحدة
من توفيق، سرعان ما نفضت الفكرة عن رأسي فلا يعلم الغيب إلا الله، ولكني دون أن
أشعر هيأت نفسي أنها ستكون وحيدتي.
منذ بداية الأربعينات وانتشار السينما والحفلات الغنائية بدأت النساء
تتخلى عن غطاء الوجه وتضع بعض مساحيق التجميل وكان ذلك في الطبقة العليا، أما غير
المسلمات في تلك الفترة بدأن في ارتداء فساتين تشبه تلك التي تظهر بها النجمات في
السينما، لم يرقني أبدا أن أخلع الحجاب وأخرج دونه وأرتدي ملابس ضيقة تبرز منطقة
الصدر والوسط، بدأت النساء التشبه بأم كلثوم وليلى مراد والنجمات اليهوديات وغير
المصريات، وبدأ الوضع يزداد سوءا بعد الانقلاب العسكري وحادثة المنشية، لقد أصبح
الإلحاد مباحا وخلع الحجاب والتبرج من المباحات، قصرت التنورات حتى أصبحت لا تصل
للركبة وكذلك حال الفساتين، انتشرت موضة "الميني جيب"
و"الميكروجيب"، زاد الاختلاط بصورة مبالغ فيها، أصبح من يصلي مادة خصبة
للسخرية منه، أصبح الملتزم بدينه متطرف يجب القضاء عليه، وبدأ المجتمع في التغير.
في البداية كان كل مجتمع يلفظ من يترك دينه ويلحد ويكفر بخالقه، ثم
بعد ذلك بدأ يتقبل الوضع عندما زاد عدد هؤلاء –طبعا أقصد بالمجتمع المنطقة التي
نسكن بها –كانت هناك أخلاق وشهامة تسيطر على السكان، ممنوع أن تعاكس جارة لك تقطن
في نفس المنطقة، وإن وجدت من يعاكسها أو يتحرش بها عليك التصدي له وضربه، إذا وجد
ابن جار لك يفعل أي شيء مخالف عليك تأديبه ويشكرك جارك، تغير كل ذلك دون أن نشعر.
كنا إذا خبز أحدنا حلوى وزع على جيرانه ليتذوق الجميع، وإذا اشترى
أحدنا فاكهة لها رائحة نافذة يوزع منها على جيرانه، إذا علمنا أن أحد أصابه مكروه
في عمله وتعطل عن العمل فترة تتكاتف الأيدي وتمد يد العون له بأموال وطعام وشراب
وعمل. لا أعلم ماذا حدث ولكن أعتقد عندما حدث التأميم تمت مصادرة الأراضي والأملاك،
واغتصبت الأملاك من أصحابها وملاكها، هرب الملاك وتشرد العمال، وعندما حاولت
الحكومة حل المشكلة بالتعيين الحكومي أصبح الدخل لا يكفي الأسرة وضن كل شخص بما
معه لأنه لا يعلم ماذا يخبئ له الغد. عندما ابتعدنا عن الدين وتعرت النساء وفرحت
عائلتهم بذلك ماتت المروءة وانتهت، وانتهى معها عصر كانت المرأة فيه مصانة، كانت
ملكة متوجة، وبدأنا عصر ينادى فيه بعري المرأة وإتاحة العلاقات الزوجية بلا زواج.
عندما ظهرت الدعوات التي تنادي بعمل المرأة كانت مصدر للضحك والسخرية
مني وهل المرأة لا تعمل؟ هل ينقصها من الأعباء ما تزيد عليه بالعمل خارج المنزل؟
لقد تعلمنا وكانت النساء تتعلم للقيام بوظيفة ذات أهمية عظمى وهي إعداد جيل طيب
الأخلاق، ولكن حتى النساء احتقرن تلك المهمة العظيمة التي ألقيت على أكتافهن وجدن
أنها وظيفة الخادمات، كان لنا من الخدم الكثير ولكن كانت الأم هي الأم، هي من تربي
وتتابع الأبناء، تتعلم جيدا حتى تساعدهم على دروسهم، تعلمهم القيم والأخلاق وتراعي
بيت زوجها وماله. أما نتيجة هذه الدعوات ظهرت بعد حين في السبعينات من القرن
العشرين، ذهبت النساء للعمل وبالفعل لم يستطعن التوفيق بين مهام الأمومة والعمل،
وظهر الجيل الذي تركته أمه ليتربى وحده، وظهر الفساد.
مرت شهور الحمل وخلالها تعرفت أكثر على ليلى وتكلمت معها، لقد علمت
منذ حادثة هاني أني أراها هي وعثمان وإسماعيل، تحادثنا كثيرا كانت تسري عني وقت
خروج توفيق للعمل، أحببتها كأنها أمي وأخبرتها بما قاله لي يوسف وأخبرتها أني رأيت
شمس أيضا، لكنها تفاجأت برؤيتي لشمس؛ فلم تظهر شمس بعد وفاتها لأحد ولكنها ظهرت لي
ولم ترها ليلى ولم يرها أحد.
كانت ليلى مرشدي في رحلة حملي، لأول مرة أتحدث معها عن موهبتي وشرحت
هي لي معنى هذه الموهبة ومشاكلها ومزاياها، ولكني صراحة لم أجد أن لها مزايا.
عندما جاءني المخاض كان توفيق في خلوته ودون أن يشعر غفا في مكانه، لم تصل له
صرخات مخاضي فذهبت له ليلى لتوقظه ليأتي ليساعدني وأخبرته بما يجب عليه فعله،
ووضعت وحيدتي آمال.
كانت آمال آية من الجمال، بيضاء ذات شعر ذهبي بلون الذهب وعيون عسلية
تخجل من جمالها الشمس، كانت منذ ولادتها لا تفارق وجهها الضحكة، كانت ملاكا. لا
تستيقظ وأنا نائمة كانت غريبة ومريحة لم تتعبني يوما.
وبعد ولادة آمال جلس معي توفيق يتحدث عن مواهبي الخفية فحكيت له كل
شيء عني وعن جدي يوسف والأطفال الذين كنت ألعب معهم في حديقة منزلي والأشباح في
شقة الأباجية، ورؤيتي لليلى وعثمان وإسماعيل ويوسف وشمس. استغرب توفيق تلك القرابة
التي تربط بيننا دون أن ندري، والظروف المشابهة التي سلبت كل منا ما يملك وتركته
يبدأ من جديد، من نقطة الصفر.
كنت أخاف من صراحة توفيق ورأيه في الانقلاب وما حدث بداية من الإطاحة
بالملك حتى الإطاحة بمحمد نجيب، الأحداث تتوالى والأخطاء تزيد، وعيون العسكر تنتشر
في كل مكان. كانت بعض هذه العيون تأتي لزوجي لطلب العون، حيث ذاع صيته وعلت شهرته
في مجال الأرواح والمس. كنت أعرف تلك العيون المندسة بمجرد وقوفهم ببابنا ولكن
توفيق نهاني عن طرد طارق لنا حتى وإن عرفت أنه كاذب ومخادع، رغم علمه بكذبهم لم
يجرح أيهم بكلمة ولا تصرف، كنت أتكلم مع إدريس ليحميه من بعض السحرة والعاملين في
السحر الأسود، وما أكثرهم في ذلك الوقت. عندما يختفي الدين والتدين يصبح السحر
والشعوذة هما الملاذ والملجأ، يذهب البعض للمشعوذين والدجالين لطلب المال والعيال،
وينسى هؤلاء رب الكون موزع الأرزاق. بالطبع لم يكن عدد هؤلاء الدجالين كما هو
الحال في عالمكم الآن لقد كان بالنسبة لنا كثيرا ولكن مقارنة بما لديكم الآن هو لا
شيء.
كبرت آمال ووصلت للرابعة لاحظت نظراتها وكلامها مع ليلى وعثمان كلما
اختلت بنفسها وقلت لتوفيق، كانت آمال شديدة التعلق بتوفيق وتعشقه وتحبه وكان هو
يبادلها نفس الحب والخوف عليها وعلى مستقبلها، كان يخاف عليها ونقل خوفه لي عندما
علمنا أنها آخر نسلنا، لم أتوقع يوما ألا يتزوج هذا الملاك، ولكنه قضاء الله
وقسمته فلا راد لقضائه.
طلب منها توفيق ألا تتكلم مع أحد حتى أنا في هذه الهبة حتى نتأكد من
كتمانها للسر، فهي طفلة ولا يكتم الطفل سرا، ولكن حقيقة كتمته ولم تتفوه بكلمة،
كنا نخاف عليها كثيرا، لقد كانت ترى وتسمع منذ وعت على هذه الدنيا، حتى قبل أن
تتعلم الكلمات والحروف.
كانت لذلك مزية وهي عدم خوفها مما ترى والتأقلم مع تلك الموهبة الفريدة،
لذا أصر توفيق على تحفيظها كتاب الله، وأصر أن تعي دينها جيدا وتفهمه لا أن يفرض
عليها دون فهم، لقد فهم توفيق الدرس ووعاه جيدا، حتى تتخطى صعاب الكون لابد لك أن
تفهم وأن تعرف سبب كل أمر ونهي أمرت به ونهيت عنه.
عندما دخلت ابنتي الصف الأول الابتدائي فرحت بها كثيرا، خاصة أنها
حفظت الكثير من كتاب الله. كانت تلك الفترة مليئة بالأحداث التي يشيب لها الولدان،
حدث العدوان الثلاثي على مصر وبعدها الديون التي فرضت عليها والأموال التي أقرضتها
مصر لبريطانيا وغيرها ضاعت ولم يطالب بها أحد، ما هذا الهراء، فرض علينا الغذاء
والكساء، نقف طوابير طويلة لنحصل على القماش الذي نفصله ليكون ملابس، وطوابير أخرى
لنحصل على الفراخ واللحم وطوابير للحصول على الخبر، وأخرى للتموين، لقد كرهت
الطوابير، تحولت حياتنا لطوابير لا تنتهي، ومساخر لا تنفد أبد. ثم كانت الطامة
الكبرى، لقد حدثت نكسة 1967 –هكذا يقولون، نكسة –أعرف كما يعرف توفيق وغيرنا أنها
هزيمة، جيش هزم آخر، ونحن الجيش المهزوم.
لقد كانت نتيجة تلك الحرب معروفة سلفا، جيل ابتعد عن كتاب الله، وجيش
منع عنه الصلاة والصيام وأي فرض فرضه الله، جيش تحول للعلمانية؛ فقد صدرت
التعليمات غير المكتوبة بعلمانية الجيش، ممنوع الصلاة، ممنوع الصيام ممنوع ذكر
الله، فكان التدين في الجيش في الخفاء، وكان الإلحاد سيد الموقف، رافق كل ضابط
أكثر من غانية، كانت الممثلات والراقصات غانيات هؤلاء القوم، لم يكن هناك تدريب
عسكري وكانت اللذة والمتعة والشهوة للمال والسلطة هي المسيطرة، فأي جيش ذلك لينتصر
على عدو له؟! لو كان الجيش انتصر لكان هناك خطأ في مقادير الكون، كافة المؤشرات
تشير بالهزيمة المحققة إذا لم يتغير ذلك الوضع، ولكنه لم يتغير وبالفعل حدثت
الهزيمة.
كانت المدارس تلقن الطلاب أنها نكسة وليست هزيمة، وأننا قادرون على
هزيمة تلك الإسرائيل، بالطبع لم أقول لابنتي أن ذلك خطأ، كنت أخاف عليها إن هي
تكلمت مع أحد بذلك أن يصيبها السوء، وكان توفيق يوبخني على صمتي عما تقوله المعلمة
لابنتنا وكان يقول لها الحقيقة كما هي، كنت أخاف على كليهما، لا أطيق فراق أي
منهما ولا إصابته بسوء وكنت أدعو الله أن يحفظهما لي. أما توفيق لم يكتف بكلامه مع
ابنتنا وتوضيح الأمر برمته لها في تلك السن المبكرة، لقد جن جنونه بعد خطاب التنحي
ونزول الشعب لمطالبة عبد الناصر بالرجوع للسلطة والثأر لشعب مهزوم، والصراع الذي
نشأ بين عبد الناصر عبد الحكيم عامر واشتد بينهما بعد إقالة عبد الحكيم من منصبه
في قيادة الجيش، وانقسام الجيش مع تلك الصراعات، الصراعات التي راح ضحيتها الشعب
الخانع لكل منتصر، كان توفيق يقول ذلك الكلام لكل من يقابله، حتى عفّ الناس عن طلب
العون منه وكأن الأرواح والأشباح انتهت من هذا الكون، وأن الجميع أصبح يعرف ما
يريده.
لم يمر وقت طويل حتى طلبت مني ليلى أن أحرض توفيق على الهرب، أن نهرب
جميعا ونترك المحروسة ونذهب للشام أو أي بلد أخرى، ولكن توفيق أبى إلا أن يواجه
مصيره كما هو، ذهب لعمله رغم تحذيرنا جميعا له، لم يستجب لتحذيرات إدريس له
بالهرب، وقبض عليه في مقر عمله، وبعد القبض عليه فتشت الشرطة منزلنا، خافت ابنتي
كثيرا ولكني كنت قوية، كان لابد لي أن أكون كذلك، فأنا أمها وأبوها، لقد صدق جدي
يوسف في نبوءته.
بعد فترة علمت وفاة توفيق عندما وجدت طيفه أمامي، أدركت العذاب الذي
تعرض له، حتى أنهم لم يدفنوه رموه في الصحراء، لذا قررت أن أذهب في المكان الذي
قال عليها مع والدي وابن عمي ووجدنا جثته بالفعل ودفناها كما يليق بها في مدافن
أسرته، بعد أن حصل منا اللحّاد على رشوة ليدفنه دون تصريح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق