أ
عرفكم بنفسي أنا إسماعيل بن عثمان بن محمد، أنا جد آمال لأبيها. اسمحوا لي أن أعود بكم بالزمن عندما نزح والدي وأسرته للمحروسة؛ حيث نزحت عائلتي من الآستانة للمحروسة، وبدأت الحكاية.
عرفكم بنفسي أنا إسماعيل بن عثمان بن محمد، أنا جد آمال لأبيها. اسمحوا لي أن أعود بكم بالزمن عندما نزح والدي وأسرته للمحروسة؛ حيث نزحت عائلتي من الآستانة للمحروسة، وبدأت الحكاية.
جاء والدي عثمان بن محمد في جيش محمد علي الذي وصل لفتح مصر وتحريرها
من المماليك، والذي تطلق عليه بعض كتب التاريخ في المناهج الدراسية المصرية
الحديثة الاحتلال العثماني لمصر. لن أدخل بك لتفاصيل كثيرة نحن لسنا بصددها الآن،
حيث أرى أن ذلك لم يكن احتلالا؛ لسبب بسيط أن مصر في الأساس كانت تابعة للخلافة
الإسلامية والتي كانت في ذلك الوقت مقرها الآستانة.
جاء والدي مع جيش محمد علي عام 1805، كان شابا فتيا وكان قائمقام في
الجيش العثماني في ذلك الوقت، وهي رتبة عالية جدا في الجيش العثماني آنذاك. كان
يمتد نسبه للسلطان عثمان مؤسس الدولة العثمانية والذي جاء من نسله محمد الفاتح
وغيره من السلاطين العظام.
ظل يتولى مهام منصبه في الجيش، وكان متزوج من ليلى هانم عندما جاء
لمصر، وللأسف لم ينجبا خلال زواج دام أكثر من عشر سنوات، أحبها والدي بعد زواجه
منها، كانت في عينيه ملاكا نزل للأرض ليحرسه ويسهر على راحته، ولكنها لم تكن تنجب
وكان حلم الأبوة كثيرا ما يداعب خياله، يحلم أن يكون له طفل من صلبه، أن يكون له
سندا، يحلم أن يجد من يشد أزره وقت كبره وعجزه، ولكنه لم يحظ بالذرية طوال فترة
زواجه من ليلى.
عندما جاء لمصر جاءت معه ليلى زوجته، نيغار أخته، وخوشيار والدته. لم
يكن له أخوة من الذكور، كانت أمه تحلم بالذرية والعائلة الكبير، التي حرمت منها
لوفاة زوجها في أحد الحروب بين الدولة العثمانية والغرب في الفتوحات التي كانت
تقوم بها الدولة العثمانية آنذاك.
قدر ما كانت خوشيار تحب ليلى وتقدرها، كانت تكره تعلق ولدها الشديد
بها، وتكره عدم إنجابها منه. كثيرا ما طلبت من عثمان الزواج بأخرى أو أخريات حتى
يحظى بالذرية والولد والسند، ولكنه كان يأبى أن يتزوج عليها، ويرفض طلب والدته،
وعندما طلب منه الباب العالي أن يذهب إلى مصر ويكون ضمن جيش محمد علي ويكون عين
السلطان على محمد علي لم يستطع الرفض، ولكن طلب أن يأخذ أسرته معه لمصر، وقد كان.
كانت النساء في الآستانة يرتدين ما يسمى "اليلك" وهو رداء يلبس فوق القميص مشقوق من الأمام
حتى الذيل وهو مفتوح من الجانبين، والكمان ضيقان ينتهيان عند المعصمين، ويلف حول الخصر
حزام من الحرير أو الكشمير وقد يكون من المعدن، ويلبس "اليلك" صيفا وشتاء فيصنع في الصيف من الحرير والأقمشة القطنية الرقيقة وفي الشتاء
من الصوف أو الكشمير، وكانت ترتديه الأميرات ونساء القصر وعِلْية القوم في كل مكان،
نزولا إلى جميع نساء الطبقة الوسطى، كما تلبس النساء القفطان فوق "اليلك" وتحت الجبة، ثم تلبس معه “الحبرة” وهي قطعة من القماش مربعة المساحة تقريبًا
طول ضلعها حوالي مترين، وهي من الحرير الأسود في منتصفها شريط ضيق يثبت حول الرأس وتنسدل
لتغطي الرأس والوجه وبقية الجسم من الخلف، وتمسك السيدة طرفي الحبرة من الداخل وتضمها
بذراعيها لتلف جسدها كله فلا يظهر منها سوى وجهها الذي يغطيه البرقع، وهو الجزء الثالث
المكمل لزي خروج المرأة في ذلك الوقت. وعندما جاءت جدتي للمحروسة مع جدي عثمان كانت ترتدي هذه الملابس
العثمانية، التي شاعت فيما بعد واختفت أزياء العصر المملوكي.
كان عثمان أبيض البشرة، طويل، عريض المنكبين، مفتول العضلات، ذو شعر
ذهبي ناعم يلمع تحت أشعة الشمس، عيونه لا تعرف إن كانت خضراء تميل للزرقة أم زرقاء
تميل للخضرة. كان يأخذ جماله من والده رحمة الله عليه ووالدته، فالجذور التركية
تجري في دمائه. كان للشجاعة مثال يحتذى، كان رجل كما يجب أن تكون الرجال، متدين لا
ينافق ولا يرائي، لا يفعل إلا ما يعرف أنه لا يغضب المولى عز وجل هكذا رباه أبوه
وعلمته والدته.
كانت خوشيار آية في الجمال، رغم أنها والدته إلا أن أحدا لم يكن يصدق
أنها والدته من جمالها وبشرتها البضة التي لم يظهر عليها الشيب أبدا. كانت تشبه
البدر في تمامه بيضاء شديدة البياض ذو خدود حمراء تزيدها بهاءً وروعة، طويلة الطول
المحبوب في النساء، لا هي بالبدينة ولا هي بالرفيعة، كانت بين ذلك وذاك، ذات شعر
أصفر بلون الذهب، شعرها طويل ناعم لم يرى شعرها سوى زوجها وابنها ونساء القصر؛ فهي
كما النساء في ذلك الوقت لا تخرج بلا حجاب يغطي شعرها ووجها، لا يسمح للنساء بكشف
الوجه أو الشعر أمام غير المحارم.
نيغار أخت والدي عثمان –وعمتي –ورثت جمال والدتها وتألقها، كانت تتعلم
الموسيقى وعلوم الدين في المنزل، مثل كل بنات العائلات في ذلك الوقت، هن لا يذهبن
لأي مكان حتى لو كان لتلقي العلم، العلم هو من يسعى إليهن ليأخذوه، كانت ذكية جدا،
حفظت القرآن الكريم كاملا وهي لا تزال في سن الخامسة، كما حفظت الأحاديث النبوية
كاملة ولكنها لم تتزوج حتى جاءت مع أخيها عثمان للمحروسة وهي تتجاوز الثامنة عشر
من العمر، كانت نيغار تحب ليلى كثيرا وتحب حب عثمان لها.
كانت ليلى رائعة الجمال كانت من أب تركي وأم روسية، جاءت أمها مع
السبايا في فتوحات الدولة العثمانية واعتنقت الإسلام، وأُهْدِيَتْ أمها لوالدها
الذي أحبها وأعتقها وتزوجها وأنجب منها ليلى، كانت ليلى فينوس، رمز الجمال، بيضاء
البشرة، متوسطة الطول، ممتلئة بطريقة محبوبة ولكنك لا تستطيع أن تقول إنها بدينة،
شعرها أحمر يميل لونه للون البندق، جميلة هي، خفيفة الظل، تعرف التركية والعربية
والروسية، تراها ملاكا في ملابسها ذات اللون الأبيض –اللون الذي تعشقه وتفضله.
أحبت ليلى عثمان عندما تزوجته، كان رجلا كما يجب أن يكون الرجال،
أحبها من قلبه، كان يخاف عليها، يحافظ عليها، لم يجرحها يوما بكلمة، لم يشعرها
يوما بعجزها عن الإنجاب. كان يعنف والدته كلما أشعرتها بعجزها.
جاءوا جميعا للمحروسة، أسس لهم بيتا في وسط المدينة، في حي شبرا
بالقرب من قصر محمد علي باشا. كان قصرا فخما، أسسه أحد المهندسين الفرنسيين في ذلك
الوقت، وكان الأثاث تركي في كل ركن وزاوية من المكان. كانت عائلة والدي من
العائلات الثرية، وكيف لا تكون كذلك وهي عائلة تنتمي للأسرة الحاكمة! كان الأثاث
وكل ما في القصر يذكرهم بالآستانة، ويأخذهم الحنين للذهاب هناك، ولكن لمن يذهبون،
لقد رحل عنهم الأحباء ولم يتبق سواهم، لذا كان قرارهم بالاستقرار مع عثمان في
المحروسة.
كان عثمان شديد الحب لليلى، ولكن كان شوقه وطوقه للأطفال يزداد يوما
بعد يوم؛ فكانت كثيرا ما تطلب منه أن يتزوج بأخرى لكي ينجب الولد الذي يتمناه،
وكان دائم الرفض للفكرة، ودائما ما يطالبها بعدم الحديث فيها مرة أخرى. كان ذلك
قبل أن يرى شمس –والدتي –كانت شمس، اسما يليق بها لجمالها وبهائها، كانت أخت أحد
الضباط معه في الجيش، ذهب معه مرة للبيت وشاهدها صدفة دون موعد، رآها لما يقل عن
الثانية، وعندما غابت غاب معها عقله وقلبه، سلبتهما منه وتوارت.
كانت شمس أخت الضابط إبراهيم خليل، وهو ضابط مصري برتبة صاغ يخدم في
المحروسة تحت إمرة عثمان في الجيش. جميلة شمس هي وبهية، لها ضحكة تسلب منك عقلك
دون أن تشعر، بيضاء البشرة –وذلك غير معتاد في بنات المحروسة حيث أنهن للون الخمري
أقرب –ذو عينان عسليتان، لم ير لون شعرها في ذلك الوقت، لقد كانت تناول أخيها
الشاي ليقدمه للضيف من وراء الباب ولكنه لمحها وغض بصره حتى لا يضايق إبراهيم،
ولكنه لم ينسى ذلك الوجه الصبوح أبدا.
عندما ألحت عليه ليلى –كما اعتادت كلما وجدته شاردا –أن يتزوج، صارحها
بأنه بالفعل يفكر في الزواج، صدمها رده هذه المرة، لقد اعتادت منه رفضه للفكرة،
ولكنه صرح لها أنه فكر في الأمر وأنه اختار من يتزوجها، كانت ليلى قوية أمامه
لتلقي هذه الضربة الموجعة لها كثيرا، أن يتزوج الرجل أكثر من زوجة أمرا معتاد، وأن
يكن له من الجواري ما يشاء أيضا أمرا معتاد، وكذا هي غيرة النساء على الرجل الذي
تحبه أمرا معتاد.
لم تظهر ليلى أي شيء لزوجها تقبلت أمامه الأمر بصدر رحب، طلبت منه أن
تعرف من هي العروس لتذهب مع أخته ووالدته لخطبتها، وبالفعل ذهبت وتم الزواج، ولكن
ليلى لم تستطع أن تعيش لترى زوجها في أحضان أخرى، لقد دخلت فراشها في يوم زفافه
ولم تستيقظ، وافتها المنية، استيقظ الجميع صباحا ليجدوها قد فارقت الحياة.
حزن والدي عليها كثيرا، وتكلم مع نيغار، كان يشعر بالذنب تجاهها كما
كان يشعر بافتقادها، واسته نيغار في مصيبته وفقده حبيبته، وطلبت منه الاهتمام
بزوجته –التي لا ذنب لها في وفاة ليلى –لها حقوق الزوجة التي لابد أن يفي بها مهما
كان حاله، سافر بعد الأربعين في مهمة كلفه بها الباب العالي.
كانت شمس طيبة المعشر، تقبلت حزنه على زوجته الأخرى، وإن كانت شعرت
بفرحة داخلية أضمرتها لأن لا زوجة أخرى ستأخذه منها، لم تظهر فرحتها وتقبلت حزنه
وصمته، حتى جاء اليوم الذي ظهرت لها فيه ليلى وتحدثتا سويا وعلمت من ليلى أنها
تحمل ولدها في أحشائها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق