كان قصر عثمان يتكون من طابق أرضي به أكثر من حجرة وصالة لاستقبال الضيوف، وحجرة للطعام وأخرى للبيانو، ودور علوي يحتوي على غرف النوم الخاصة بهم، وغرف أخرى زائدة مغلقة لحين الحاجة إليها، بالإضافة إلى حديقة شاسعة غناء بها من كل صنوف الورود والأزهار والأشجار، ومكان للجلوس وتناول الشاي كما تحتوي الحديقة على مبنى يضم المطبخ وغرف الخدم وغرفة الغسيل وكل ما يحتاج إليه القصر من خدمات. وكذا مبنى آخر يحتوي على غرف استقبال ونوم للضيوف.
عندما تزوج عثمان من شمس عاشت معهم في القصر فكانت لها غرفتها ولليلى
غرفتها في ذات القصر وذات الطابق، والتي أغلقت بعد وفاة ليلى، وكانت خوشيار هي
صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في القصر باعتبارها الأم.
وبعد وفاة ليلى سافر عثمان في مهمة كلفه بها الباب العالي، وفي أحد
الأيام كانت شمس في غرفتها بعد انتهائها من صلاة العصر وكانت تقرأ ما تيسر لها من
القرآن، ثم وجدت الشموع تهتز ما بين إنارة وخفوت وصوت ينادي عليها، ظنت في البداية
أنها تهلوس بسبب الإرهاق الذي تشعر به منذ شهر تقريبا ولا تعرف له سببا. ثم سمعت
نفس الصوت يناديها مرة أخرى، ما صدمها أن هذا الصوت يشبه صوت المرحومة ليلى، أصبح
الصوت أكثر وضوحا ثم وجدت مصدر الصوت قرب المرآة. ذهبت قرب الصوت فوجدت ليلى
أمامها في المرآة، ثم تجسدت أمامها في رداء أبيض ووجه مشرق ضاحك، بسملت شمس وحوقلت
حتى كادت يغشى عليها وهنا تكلمت ليلى
ليلى: لا تخافي، لست هنا لآذيتك
شمس (وهي خائفة) لا تفعل شيء سوى الابتعاد عن ليلى: أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
ليلى (وهي تضحك): اعتادي على ظهوري لك ولذريتك من بعدك حتى آخر فتاة
من نسلك أنت وعثمان
شمس (وقد بدا الاستغراب على وجهها): لماذا؟
ليلى (بجدية): بدون أسئلة، اعتادي على وجودي، لقد جئت اليوم لأخبرك
بأنك تحملين في أحشائك ولدك من عثمان، حافظي عليه لأنك لن تلدي غيره، مبارك عليكِ
ولدك إسماعيل يا شمس
لم تصدق شمس ما سمعته للتو وما شاهدته، خرجت من غرفتها وذهبت لخوشيار
ونيغار ليتحدثا لتخرج من حالة الذهول والخوف التي سيطرت عليها؛ إلا أنها وجدت
خوشيار تسألها عن أخبار حملها وأجابتها شمس أنها لا تعلم، وكانت خوشيار قد طلبت
القابلة تأتي لتكشف على زوجة ابنها لتعلم إن كانت حملت أم لا، وكانت صدمة شمس لقد
قالت لهم القابلة أن شمس تحمل في أحشائها جنينا وأنها في شهرها الثالث.
فرحت خوشيار كثيرا بهذا الخبر، ولكن ذلك الخبر ألقى الرعب في قلب شمس،
معنى ذلك أن كلام ليلى كان حقيقي وأنها لم تكن تهذي، وأنها ستنجب ولدا وسيكون اسمه
إسماعيل لماذا إسماعيل؟ لم تعرف، ولكنها تذكرت أيضا أن ليلى أخبرتها أن تتعود على ظهورها
لها ولوليدها حتى آخر فتاة من نسلها، كل ذلك ألقى في قلبها الرعب والخوف الشديد.
مرت الشهور وجاء موعد ولادة شمس، وبالفعل كان المولود ذكرا، كان من
المفترض أن يسميه والده ولكن والده لم يعد بعد من المهمة المكلف بها، ولا يعرف
أحدا شيء عنه منذ أكثر من شهرين حيث كان من المقرر أن يصل، ولا يعرف أحد متى
سيعود.
كانت التسمية من نصيب خوشيار، التي أسمته إسماعيل قالت لهم بعد ذلك
أنها سمعت من يردد الاسم في رأسها فلم تعِ شيء حتى أطلقت على الصبي اسم إسماعيل.
اعتادت شمس ظهور ليلى لها –وذلك بعد أن ظهرت لها أول مرة –ولكنها لم
تكن تعرف سبب ظهور ليلى لها. لقد توفى عثمان في مهمته التي أرسل إليها من قبل
الباب العالي، ولم يصل خبر الوفاة لأهله. بعد وفاته كان طيفه يهيم في الأفق حيث
وجدته ليلى كأنها كانت تبحث عنه، وجد حبيبة عمره ورفيقة دربه معه، تأخذ بيده في
ظلام البرزخ، كان قلقا على زوجته وأمه وأخته. طمأنته ليلى أنهن بخير ولا شيء سيء
بهن، وأنها تطمئن عليهن جميعا كل يوم ولا تتركهن. بشرته بحمل زوجته، ولكنه بعد
وفاته لم يكن يهتم كثيرا بأي شيء، كانت روحه مع ليلى، مع حب حياته وهو ما يهمه،
ولكنه أراد أن يطمئن عليهن جميعا، كانت فرحته شديدة عندما وجد ليلى إلى جانبه، لم
يقدر على أن يصدمهن بخبر وفاته، لذا طلب من ليلى الظهور لشمس وإعلامها بخبر الحمل
واسم المولود الذي اختاره له، وبالفعل نفذت ليلى المطلوب دون جدال. كان عثمان لها
وحدها، كان حبها لها وحدها دون منازع لذا فلتنفذ ما يقوله دون منازع.
استغربت هي في بادئ الأمر أنها تتجول في حياة الأحياء، وتتجول عبر
الأزمنة، أزمنة قادمة وأخرى سحيقة، رأت أشياء كثيرة، وتعلمت أكثر، لم تعرف سبب ما
يحدث لها، كل ما تعرفه أنها طيف له حرية الحركة والذهاب والإياب. عندما شاهدت غرق
السفينة التي تحمل عثمان حاولت إنقاذه ولكنها لم تستطع أن تنقذه؛ فانتظرت لترى هل
سيظهر طيفه، أم سيختفي كما اختفت بعض الأطياف الأخرى، عندما غرقت السفينة كانت
هناك أطياف كثيرة تطوف بالمكان وتتجول عبر الأزمنة وأخرى اختفت تماما، ولكن عثمان
ظهر طيفه فور وفاته، وأرادت ليلى أن تكون هي أول ما يجده عثمان لتكون هي مرشده.
جاء خبر وفاة عثمان بعد ولادة شمس بحوالي الشهر، ودفن الجثمان في
المحروسة، وأصبح ظهور ليلى معتاد لشمس، ثم بعد ذلك لإسماعيل ولدها وأولاده جميعا
من بعده حتى جاء دور آمال آخر نسل آل عثمان، كما ظهر لهم عثمان وظهرت أنا لهم بعد
وفاتي، إلا أن شمس ظهرت للبعض وباقي العائلة لم يظهروا أبدا.
منذ وفاة عثمان أصرت خوشيار ألا يلتحق إسماعيل بالجيش وأن يتعلم في
الأزهر الشريف وعندما ينهي تعليمه يقوم على التجارة التي بدأتها هي الآن، ويشرف
عليها إبراهيم أخو شمس وزوج نيغار. لقد تزوج إبراهيم من نيغار بعد وفاة عثمان؛ حيث
وجد أن دوره هو رعاية هذه الأسرة التي فقدت رجلها الوحيد.
كان إبراهيم خمري البشرة، شعره أسود فاحم وعيناه كأنها الليل البهيم،
مفتول العضلات شهم وشجاع، كان يشعر بمسئوليته تجاه هذه الأسرة، أحب نيغار من كلام
شمس عنها فطلب أن يتزوجها، ولأخلاقه التي يعلمها عنه الجميع وافقت عليه خوشيار،
كانت تعلم حاجتها لوجود من هو بمثل أخلاقه في حياتهم، ولكنها طلبت من إبراهيم ترك
الجيش والإشراف على تجارة العائلة، والمساعدة في تربية إسماعيل.
عندما وصلت لسن الثالثة التحقت بالكتاب، ثم بالأزهر الشريف في سن
السادسة، وفي بداية التحاقي بالأزهر طلبت ليلى من شمس تمهيد ظهورها هي وعثمان لي
بأسباب مقنعة، أما أنا فكنت أراهم قبل ذلك وأسمعهما يتحدثان مع والدتي؛ إلا أن
والدتي لم تكن تعلم أني أستطيع أن أراهم وأن أستمع لما يقولون، حتى لو لم أكن معهم
في نفس المكان وذلك منذ أن كنت في الثالثة من عمري. وطلبت ليلى من والدتي أن
تخبرني ألا يعلم أي شخص عن ظهورهما لي، ولكن من العاقل الذي يطلب من طفل أن يحتفظ
بسر ولا يفشيه؟! ولكني لم أفشِ السر، كما لم أخبر أحدا بما أستطيع أن أراه أو
أسمعه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق