الخميس، 5 نوفمبر 2015

المقدمة (أطياف من الماضي)


وقفت آمال أمام المرآة ترتدي حجابها لتذهب إلى العمل، اليوم هو يوم مميز لها إنه آخر يوم لها في العمل، سيحتفل زملائها بها وبوصولها سن المعاش. وجدت نفسها متلبسة بتأمل قسمات وجهها في المرآة، أنه آخر يوم لها في العقد الخامس من عمرها، لم تتزوج آمال وتعمل في الشئون القانونية بأحد الوزارات الحكومية، بعد أن حصلت على ليسانس الحقوق.
وجدت بعض التجاعيد تقاوم لتظهر على وجهها الأبيض رغم محاولاتها الدائمة وأد هذه التجاعيد حتى لا تظهر؛ ودون أن تشعر خلعت الحجاب ونظرت لخصلات شعرها الذهبي وقد تسللت إليه بعض الخصل البيضاء، لم تعد تلك الشابة الصغيرة. ارتدت حجابها مرة أخرى وأعادت هندام ملابسها وأخذت حقيبة يدها وخرجت لصالة المنزل استعدادا لبدء الصراع اليومي مع المواصلات حتى تذهب للعمل.
تعيش آمال في منطقة تدعى الأباجية، تسكن في العمائر التي تقابل المقابر وخط قطار البضائع، كلما نظرت من شباك حجرتها وجدت قلعة محمد علي بعيدة على مرمى بصرها، ووجدت أمامها المقابر والقطار الذي لم يتأخر يوما على موعده، رغم قدمه وحاله التي يرثى لها.
تسكن آمال في شقتها بالدور الثاني في المساكن التي شيدتها الحكومة عقب ثورة 1952، فوق مقابر الجيش الإنجليزي، لتكون سكن محدودي الدخل والبسطاء، وهي شقق كانت للتمليك في ذلك الوقت، تتكون الشقة من حجرتان وصالة ومطبخ وحمام. مساحتها ليست بالكبيرة أو الصغيرة. لم تهتم يوما أن تسأل نفسها ذلك السؤال، هل الشقة كبيرة أم صغيرة؟ حيث كانت وحيدة أبويها، وبعد وفاتهما أصبحت تحيا وحدها في هذه الشقة دون منازع، لم تتزوج أو تنجب.
لم تفكر يوما هي أو والدتها في الاختلاط بالجيران، ولكنها أعزت ذلك لحالة الحزن التي كانت ترى والدها عليها منذ –ما يطلقون عليه –نكسة 1967. كانت في الثامنة من عمرها عندما حدثت نكسة يونيو، لم تفهم معنى كلمة نكسة، كل ما كانت تعلمه أن الجيش المصري العملاق كان سيضرب إسرائيل السيئة بالعصا ولكن إسرائيل لم تمكنهم من ضربها، لذا سيحاول الجيش مرة أخرى ضربها ليؤدبها. كان ذلك تبسيط معلمتها للطلبة لمعنى كلمة نكسة، رغم أنها كانت تسمع والدها يعنف أمها ويقول لها أن تفهمها الحقيقة ولا تضحك عليها. لم تفهم وقتها ماذا كان يقصد والدها، كيف تضحك عليها والدتها وكيف تكذب عليها المعلمة؟ بعقلها وقتئذٍ لم تفهم، إلا أنها فهمت بعد ذلك.
بعد النكسة وكلام والدها أن ما حدث هو هزيمة، وأن الجيش المصري هزم بسبب القيادة العسكرية، واهتمامها بالصراع على السلطة وسرقة تركة الملك –الذي لم يفهم توفيق حتى الآن لماذا ثار الجيش عليه؟ وهل أدت هذه الثورة لرجوع فلسطين أو تهديد اليهود ليعودوا أدراجهم؟ - وكذا سرقة أموال وتركات الأغنياء في ذلك الوقت. كما كان يرى أن هذه لم تكن ثورة ولكنها انقلاب عسكري حدث ليؤمن للإنجليز الخروج الآمن وتضمن خنوع الشعب، وهو ما حدث. بعد أن صار والدها يقول ذلك الكلام باستمرار وتعنفه أمها عليه، وجدت أنها هي ووالدتها في عزلة، لا تدري إن كان بسبب كلام والدها أم بسبب اختفائه المفاجئ بعد أن صار يقول كلامه ذاك بصوت عال في كل مكان، في عمله وفي منزله، حتى إن فتح باب المنزل لبائع اللبن، ثم اختفى الأب، وبعد اختفائه وجدت آمال بعض الأشخاص يفتشون منزلها، قالت أمها أنهم من الشرطة.
بعد تلك الحادثة، قالت لها والدتها أن والدها توفى، وارتديتا ملابس الحداد، بعد تلك الحادثة لم يأت لهما معزين، لم يعزهما أحد في وفاة عائل الأسرة، حتى الجيران لم يتكلم أي منهم معها أو مع والدتها دون أن تعلم لماذا حدث ذلك. بعد وفاة الأب كانت آمال في الصف الثالث الابتدائي، واضطرت والدتها للبحث عن عمل؛ فمعاش زوجها لم يكف مصاريف المنزل، وبالكاد عملت الأم ممرضة في مستشفى، وهكذا اعتادت آمال على أن تعيش وحدها وتنام وحدها في معظم الأيام لسهر الأم بالخارج للعمل.
أكملت آمال دراستها الابتدائية بتفوق، وتعلمت من والدتها عدم الحديث في أي من أمور الحرب أو السلم حتى لو كان ذلك لنفسها، تعلمت أنها إذا سألها أحدهم عن والدها أن تقول إنه توفى كما يتوفى الله عباده، نام في فراشه ولم يستيقظ. كانت تشعر آمال كثيرا –حتى وهي وحيدة –أنها مراقبة، وذلك الشعور كان يولد لديها خوف شديد، تشعر به وهي وحيدة تنتظر والدتها، وهي في طريقها للمدرسة، وحتى وهي في الفصل؛ لذا كانت تجتهد في حفظ القرآن الكريم، وأنهت حفظها وهي في السنة السادسة الابتدائية.
حدث نصر 1973 وهي في الصف الثاني الإعدادي، تذكرت والدها وكلامه، وكانت تحاول أن تفهمه فلم تستطع، لم تحاول أن تحدث أحد فيما تريد أن تفهمه، تعلم خوف والدتها من أي حديث يخص والدها –رحمه الله –رغم أن الجيران منذ تولي السادات رئاسة الجمهورية بعد وفاة عبد الناصر أصبحوا يلقوا إليهم التحية عند التلاقي أثناء الصعود والنزول، ولكن والدتها آثرت عدم التحدث مع أي شخص، خاصة ووالدتها تعلم جيدا ما يقال عنها من نساء الحي.
منذ وفاة زوجها وهجر الجميع لها، لم يعلم أحد أنها تعمل ممرضة، ولم يهتم أحدهم بسؤالها عن أحوالها وأحوال ابنتها، وهل يحتاجون لشيء أم لا، وعندما كانت تبيت في المستشفى –عندما يأتي عليها الدور –الجميع يتغامز ويتلامز؛ فهي فرصة ذهبية للغيبة والنميمة؛ أرملة وأم لبنت لم تتجاوز العاشرة من عمرها، وبالتالي هي فريسة سهلة بالنسبة للرجال، ورامية ماهرة لشباكها على الرجال بالنسبة للنساء. يتهيأ الرجال فرصة للانقضاض عليها، وتخاف النساء أن تسرق منهن أزواجهن.
لم تفهم آمال كل ذلك في وقتها، لم تعلم سبب الخوف الذي تبديه والدتها تجاه أي حدث أو كلمة، لم تفهم سبب بكائها الدائم الذي كانت تسمعه من غرفتها. ولكن رغم كل تلك الصعاب لم تكل عقيلة –والدة آمال –عن العمل الدؤوب حتى تتم ابنتها دراستها وتجد العمل المناسب، الجميع يعلم أن الشهادة يأتي بعدها تعيين الحكومة والوظيفة الثابتة، ثم الزواج بابن الحلال.
أصرت عقيلة لما تلاقيه من عملها من احتكاك بالواقع أن تعلم ابنتها دينها جيدا، لابد أن تحفظ ابنتها القرآن وتتعلم أحكام دينها كي تكون لها حصنا من الدنيا وغدرها. وبالفعل أتمت آمال حفظ القرآن الكريم وكرمت لأنها من حفظة القرآن الكريم ومن المتفوقين دراسيا.
وأكملت تعليمها ودخلت المرحلة الثانوية، وهناك لم تترك كتابا في مكتبة المدرسة إلا وقد قرأته، وأتمت تعليمها الثانوي ودخلت الجامعة، دخلت كلية الحقوق وتخرجت وحصلت على الليسانس، وعينت في الشئون القانونية بأحد الوزارات الحكومية، ثم توفت والدتها في نفس يوم تعيينها، وأكملت هي حياتها.
تذهب للعمل صباحا، بعد صراع دائم مع المواصلات، وتنهيه الساعة الثانية وتعود لذات الصراع مرة أخرى لتعود للمنزل. تذكرت صراعها اليومي مع المواصلات في الثمانينات الذي اختلف تماما عن صراعها اليومي معه الآن. محبوبة هي آمال في عملها، الكل يحبها ويحترمها، ترقت حتى وصلت لدرجة المدير العام بكدها وتعبها دون نفاق أو رياء، واليوم الاحتفال بوصولها سن المعاش.
أعود بك الآن لآمال بعد أن أنهت ارتداء ملابسها، ووجدت التجاعيد على وجهها، خرجت للصالة ألقت التحية على والدها ووالدتها وعلى إسماعيل.
أراك وقد بدأت تشك فيما قرأته منذ البداية، أنت قرأت أن والدها توفى وكذلك والدتها وأنها وحيدة والديها ولم تتزوج أو تنجب. كلا لم أجن كما تعتقد ولكن لا تستعجل الأحداث، التي لن أرويها أنا لك، بل سيروي لك الأحداث أبطال الرواية أنفسهم؛ آمال ووالدها توفيق ووالدتها عقيلة، وأيضا إسماعيل أعلم أنك تتساءل مرة أخرى من هو إسماعيل صدقني ستعرف عندما تقرأ الأحداث التالية، لن تنهي القصة حتى تعرف من هو إسماعيل وأية تساؤلات أخرى تطرأ عليك، ثم ستجدني في النهاية أجاوب عن الأسئلة التي لم يرد عليها أي منهم في روايته عن الأحداث كما عرفها وعاصرها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...