الخميس، 26 نوفمبر 2015

توفيق -الفصل التاسع (أطياف من الماضي)

عندما بلغت ابنتي السادسة أدخلتها التعليم الابتدائي العام، حيث لم يعد التعليم الأزهري كما كان في عهدي وعهد أجدادي، سيطر عليه المنهج الصوفي ومذاهب أخرى لم ينزل الله بها من سلطان؛ لذا كان من الأفضل أن تدخل التعليم العام. قطعا طلبت منها ألا يعلم أحد من تملكه من مواهب، وأن تتجنب الناس كلما استطاعت حتى لا يعلم أحد تميزها وموهبتها.
دخلت الصف الأول الابتدائي عام 1965، وكانت لاتزال في مرحلة حفظ القرآن الكريم، آذاني كثيرا ما كانت المناهج تروج له من ظلم الحكم العثماني وتجبره ووصف السلاطين بالهرطقة والفساد، الذي لم أجده إلا على هؤلاء الذين اغتصبوا الأموال والقصور وحتى النساء. طاردوا الأميرات والوصيفات، لم يتركوا فاحشة إلا قاموا بها، ثم يقولون في مناهجهم أن العثمانيين اغتصبوا حكم مصر واحتلوها وأنهم ضعاف وهراطقة، أي تاريخ هذا الذي زيفوه؟!!!!
بالطبع كنت أحكي لابنتي أنا وجدتي ليلى وأجدادي عثمان وإسماعيل عن العائلة الحاكمة والحكم العثماني، كل منهم يشهد على ما عاصره ورآه. كما علمتها القرآن الكريم وساعدتها على فهمه وبدء حفظه، ووعدتني عقيلة أنها لن تتركها حتى تحفظ القرآن كاملا. كنت أدخر بعض كتب التفاسير والشروح من أمهات الكتب والمخطوطات النادرة خبأتها حتى لا تصل لها أيدي العابثين، هذه الكتب كنز من المعرفة وصحيح الدين ولابد أن تتعلمه آمال.
وفي عام 1967 كانت آمال في طريقها للصف الثالث الابتدائي، حدثت هزيمة الجيش –التي أطلقوا عليها نكسة، كما أطلقوا على الانقلاب فيما بعد ثورة –وكانت المعلمة تقول للطلبة كلام مغلوط عن الجيش وقوته وامكاناته المهولة، والتي كنت أعلم قطعا أنها محض خيال.
لقد تولى قادة الانقلاب قيادة الجيش وأصبحت الرتب العليا تمنح لأهل الثقة لا الكفاءة، لم يكن هناك سلاح كاف ولا تمويل بسبب سوء تقدير الحاكم. لقد امتنعت بريطانيا عن سداد ديونها لمصر والتي كانت تقدر بملايين، بسبب التمرد الظاهري لعبد الناصر عليها ثم حدث العدوان الثلاثي وظهرت نية إسرائيل في احتلال مصر؛ إلا أن قادة الجيش والبلاد انشغلوا في مطاردة الغانيات والانفاق عليهن من الأموال المغتصبة. كانت الهزيمة محققة سلفا، ولكن هل كان مخطط حدوثها أم كانت بسبب الانشغال بالصراع على السلطة وتقسيم الغنائم؟؟؟
قلت ذلك الكلام لآمال وكانت زوجتي تنهاني عنه، ولكني لم أتمالك أعصابي عقب رجوع عبد الناصر عن التنحي بدعوى المظاهرات التي نزلت ترفض تنحيه في الشوارع والميادين، لقد كانت الخطبة معدة سلفا لتنزل الجماهير لمطالبته بالبقاء وأخذ الثأر ورد الكرامة. وصرت أردد أنها هزيمة وليست نكسة وأنها بسبب القيادة السياسية والعسكرية والنزاع على السلطة وتقسيم التركة ومطاردة النساء، ابتعد الجيران عني بعدها ولم يجرؤ أحد على طلب العون على مس أو طرد روح شريرة وكأن المكان قد خلى من الأرواح والشياطين بين ليلة وضحاها. وهو ما لم يحدث وكنت أعرف السبب؛ إنه الخوف من السجن والاعتقال. اعتقلت ذات يوم من مقر عملي، وعذبت في المعتقل حتى الموت وبعدها ظهرت لآمال وعقيلة.
في فترة طفولتي لم يكن أمر السحر والشعوذة بالأمر الشائع كما هو الحال في الستينات، لقد انتشر المشعوذون والدجالون بكثرة، وكثر اللجوء إليهم في تلك الفترة، والفترات التي تلتها. ولا أعرف كيف يثق الناس بشخص يستغلهم ليحصل على أموالهم وأحيانا شرفهم وكرامتهم ولا يثقون برب هذا الكون وخالقه. في أيام طفولتي كنت أعلم أن هبة رؤية الأطياف والجان تتثنى لمن له من بياض القلب والاعتماد على الله، ولكني عرفت أيضا أن البعض يحصل عليها بسواد قلبه والكفر بالله.
في ذلك اليوم، ذهبت إلى عملي ودخلت مكتبي، كنت أعلم من ليلى وإدريس وآمال بأمر اعتقالي، طلب مني الجميع الهروب، وعندما وصلت للمكتب فوجئت بإدريس يطلب مني الهرب فورا من خلال قدرته على إخفائي عن البشر وتغيير هيئتي؛ حيث أن رجال الشرطة في طريقهم لاعتقالي الآن، رفضت ذلك وقلت له أنني لابد أن أواجه مصيري أيا كان ذلك المصير، لم تمض دقائق حتى وجدتهم أمامي يفتشون مكتبي وينعتونني بأقدح الألفاظ، لم تكن الشرطة تعامل المواطنين بهذه الطريقة ولا هذه الألفاظ من قبل ولكنها الثورة، التي كانت ثورة على الدين وثورة على العادات والتقاليد، وثورة على الأخلاق.
اقتادني هؤلاء للمعتقل، بالطبع لم تكن هناك قضية أو أوراق أو ما يثبت اعتقالي، لذا لم يعرف أحد أين أنا ولم تستطع عقيلة الحصول على راتبي أو معاشي، لم يعرف أحد طريقي ولا أن يثبت وفاتي أو اعتقالي، رفضت الوزارة أن تدفع أية مستحقات وبعد فترة فصلت عن العمل، بزعم غيابي دون إذن.
عذبت في المعتقل عذابا ليس له نظير، لم نكن نأكل ولا نستطيع دخول الخلاء، لم تكن هناك أية حياة آدمية، كنا نضرب في كل الأوقات وننزف وتتعفن جراحنا حتى الموت، وبعد الموت ندفن في الصحراء بلا شاهد ولا دليل على مكان وجودنا. كنت أتألم حتى وجدتني مرة واحدة أرى أمي وأبي وعائلتي كلها وأرى ذلك الضوء وأذهب إليه وإليهم جميعا، شاهدتهم يفكون قيدي وأرمى مع القمامة من عربة المخلفات التي قذفتني في الصحراء ودفنت وسط النفايات، وهكذا انتقلت من هذه الحياة الدنيا لحياة البرزخ.
لم أكن أعرف أن طيفي سيكون كما أجدادي إسماعيل وعثمان، ظهرت لعقيلة بعد اختفاء دام ما يزيد عن العام، ظهرت لها ليلا في غرفتها وهي تبكي وليلى تواسيها، لقد أخبرتها ليلى بوفاتي وحضرت أنا إليها، كم اشتقت لحضنها الدافئ، كم اشتقت لمسة يدها الحانية، كم اشتقت أن أبكي في حضنها كلما أهمني أمر ما لم أقوَ على مواجهته، فيكون حضنها هو الدافع لي على المواجهة، يمدني بقوة لا أعلم كيف أشعر بها ولا كيف امتلكتها من البداية.
لن أستطيع الآن أن ارتمي في حضن عقيلة، ولكن جدتي ليلى موجودة معي، ارتميت في حضنها الدافئ كم واستني فيما أصابني، لك الله يا عقيلة، كم أنت قوية وصبورة وكم تحملت من أعباء، لازلت أحبك يا مكنون قلبي وحب عمري.
أما ما حدث بعد وفاتي سأتركه لعقيلة وآمال لتحكيه كل منهما كما عاشته وشعرت به، فهما من عاشا هذه الحياة وهذه التجربة وشعرا بقساوتها ومرارتها، أما أنا كنت أتابعهم وأحاول التخفيف عنهم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...