أعرفكم بنفسي أنا توفيق والد آمال، اسمي توفيق إبراهيم عثمان إسماعيل
عثمان. أراك تتساءل عن أشياء كثيرة، منها ماذا حل بأملاكنا وكيف انتقلنا للعيش في
الأباجية، تلك قصة طويلة سأرويها لك الآن.
ولدت في القاهرة في حي شبرا عام 1930 في قصر أجدادي، كان والدي وجدي
على قيد الحياة عندما وعيت على هذه الحياة الدنيا، كنت كما كل أجدادي أرى الجان
والأطياف، أعرف ما يقال عني ومن خلف ظهري. تعلمت في الأزهر الشريف وحفظت القرآن
الكريم، كنت أحب الكلام مع جدي عثمان الكبير وكذا جدتي ليلى.
كانت أملاكنا لا حصر لها، حتى بعد أن أعتق جدي جواريه وعبيده بعد
توقيع مصر عام 1926 معاهدة منع الرق والعبودية، في عهد الخديوي إسماعيل، وبعد
عتقهم استمروا في العمل معنا مقابل أجر معلوم. كان الوضع المالي لنا متيسر، وكنا
كما اعتاد أجدادي بعيدين كل البعد عن السياسة والحياة السياسية في مصر.
هناك بعض التغيرات التي شهدتها عندما كنت في العاشرة من عمري، لقد
أصبحت المرأة تخرج لتتعلم في المدارس ولا تتعلم في المنزل كما كان الوضع في حياة
أجدادي وأيضا ما عادت ترتدي "اليلك" كما كانت –كما حكت لي جدتي ليلى عن
الملابس والحياة أثناء حياتها وحكى لي والدي وجدي عن تلك الفترة –لقد أصبحت المرأة
تخرج بدون "اليشمك" الذي يغطي الوجه، ليست جميع النساء ولكن بعضهن أصبح
يخرج بلا غطاء الوجه. منذ حركات التحرر التي دعت لها هدى شعراوي وسيزا نبراوي
وغيرهما من دعاة سفور المرأة حتى درية شفيق التي أتت لتحارب كل ما أمر به الإسلام
من حجاب وتعدد زوجات وعدم اختلاط.
في تلك الفترة كثر الهرج في مصر حتى حدث الانقلاب العسكري على الملك
فاروق وكنت في ذلك الوقت عمري اثنتا وعشرين عاما، كان ما حدث انقلابا عسكريا اعترف
به قادة الجيش أنفسهم.
عندما حدث ذلك الانقلاب كنا نعلم أنا وأبي وجدي ما سيحدث لأملاكنا لذا
وجدنا أنه من الأفضل توزيع تلك الثروة على من يستحقها ولكننا لم نلبث أن بدأنا في
توزيعها حتى قبض علينا جميعا وصادر الضباط أملاكنا وتركوا لنا القليل، حتى القصر
تمت مصادرته واتهمنا –بسبب نسبنا الذي يمتد لآل عثمان –بالتآمر على الثورة ومات
أبي وجدي في المعتقل وخرجت أنا.
كنت أكره ما أسموه ثورة، كنت قد أكملت تعليمي في الأزهر الشريف الذي
لم يسلم من أذى هؤلاء، الذين لم يفعلوا في تلك الفترة غير القضاء على كل ما هو
إسلامي ولا أعلم لماذا. لقد أصبحت مشيخة الأزهر بالتعيين وليس بالانتخاب كما كانت،
واقتصرت على المصريين دون غيرهم من المسلمين. أصبح خروج المرأة بملابس تبرز
مفاتنها وتبرز كل ما أمر الله بستره معتادا، كان من النادر أن تجد من تحافظ على
الزي الإسلامي والحجاب. كما انتشرت الشيوعية والإلحاد في تلك الفترة وشجع النظام
عليها، واعتقل كل من يحارب ذلك بزعم أنه من الاخوان المسلمين وأنه متطرف.
لا يعنيني كل ما سبق، فبعد أن أكملت تعليمي الأزهري عملت في ديوان
الأوقاف (وزارة الأوقاف) كما كان يطلق عليها، وكنت كما والدي وجدي نساعد الناس في
الشفاء من المس والسحر وفك الأعمال، ولم نكن نتقاضى أجرا على ذلك. وعندما حدث
الانقلاب العسكري، بدأنا في توزيع أملاكنا على المحتاجين والمساكين وعلى الخدم
الذين يعملون لدينا ولكننا لم نكمل ما بدأناه؛ لقد قبض علينا وتمت محاكمتنا أمام
محاكم الثورة على أننا من العائلة الملكية وتمت مصادرة جميع ممتلكاتنا، حتى القصر
الذي كنا نعيش به والاستراحة والأراضي الزراعية، لم يتبق لنا منها شيء، لقد اعتبر
هؤلاء العسكر أن أملاك الأغنياء والأسرة المالكة هي حق لهم وملكية خالصة لهم لأنها
جميعا جاءت من تعب الشعب وكدِّه!!
كان ذلك محض هراء، ففي تلك الفترة لم يكن هناك شخص لا يعمل، هناك
الأفندي الذي يعمل في ديوان الحكومة –وكنت أنا واحد من هؤلاء –وهناك الحرفي
والفلاح، لم يكن هناك شخص عاطل عن العمل، الكل يعمل ويعيش ويتعلم، كل حسب مقدرته.
كانت مصروفات التعليم مرتفعة قليلا، ولكن من كان يثبت جدارته وتفوقه يتعلم
بالمجان، ودليل على ذلك أن أنور السادات وجمال عبد الناصر وقادة المجلس العسكري
كانوا أولاد لفلاحين وأسر من الطبقة الوسطى، وليسوا أغنياء ولا أصحاب أملاك –ذلك
بالطبع قبل أن يستولوا على أملاك غيرهم لأنفسهم باسم الثورة المزعومة.
أثناء توزيعنا لأملاكنا على من نعرفه من الفقراء والمحتاجين والمساكين
وجدنا أن تهمنا هي القرابة والانتماء للأسرة الحاكمة، أي جهلة هؤلاء، بالطبع هم
مجموعة من الجهلة، نحن تمتد قرابتنا للسلطان عثمان مؤسس الدولة العثمانية والخليفة
المسلم، هذه الخلافة انتهت وقضي عليها منذ تولي مصطفى كمال أتاتورك، لم يكن
عثمانيا كان تركيا، ومنذ ذلك الوقت انتهت الخلافة العثمانية واختفت كلمة إسلامية
من الباب العالي، ولم تكن الأسرة الحاكمة من نسلنا. وبالتالي لم نكن نملك أي صلة
نسب أو قرابة للباب العالي أو للأسرة العلوية، وعلمت وقتها سوء الفترة القادمة؛
مجموعة من الجهلة بالتاريخ، لديهم من الهوس بجمع الأموال ما يكفي عند توزيعه قارة
بكاملها، وجشعون بما يكفي أن يمتصوا أموال أغنياء العالم، ولا يعرفون التكلم بلغة
سوى الرصاص.
بعد أن خرجت من المعتقل لم
يكن معي ما يكفي من المال بعد أن اشتريت شقة للإقامة بها بعد سرقة الضباط لقصرنا
وجميع أملاكنا بذلك الزعم السخيف، أننا من الأسرة الحاكمة، وبحثت حتى وجدت شقة في
منطقة تدعى الأباجية وانتقلت للعيش بها. كانت تلك العمائر مشيدة فوق مقابر الجيش
الإنجليزي، وبالطبع كانت معمورة بأشباح وأرواح كل من دفن بها.
كان لابد لي من الزواج فقد تخطيت الثلاثين من عمري الآن، وفي زواجي
انفقت كل ما تبقى لدي من أموال، ولم يبق لي سوى راتبي. تزوجت من عقيلة، كانت جارتي
في الإباجية رأيتها وهي تنشر الغسيل في الشرفة المقابلة لي.
جذبني لها إصرارها على ارتداء حجابها حتى وهي في الشرفة، لم تكن تخرج
من بيتها إلا نادرا، حصلت على التعليم الإلزامي ولم تخرج بعده من بيتها إلا في
صحبة والدتها لشراء بعض المستلزمات. كانت جميلة خُلقا وخلقا.
تقدمت لوالدها لأتزوجها، ووافق بالفعل على الزواج وأنفقت كل ما لدي
على الزواج. كانت عقيلة خمرية اللون، ذات شعر أسود ناعم وعيون بنية تسحرك إذا نظرت
لها، أحببتها كثيرا، ولكن لم أكن لأطلعها على سري. لم تكن عقيلة لتفهمه، هكذا كنت
أعتقد.
كنت أنفرد بنفسي في أوقات كثيرة من اليوم بعد رجوعي من العمل لقراءة
القرآن والكلام مع أجدادي. خاصة بعد أن سئمت وجود تلك الأشباح البغيضة وحاولت
طردها بشتى السبل، وقد ساعدني جدي إسماعيل في ذلك. ولم أكن أعرف أني آخر ذكر
في نسل عائلتي حتى ذلك اليوم الذي ولدت فيه عقيلة ابنتي آمال.
كنت أجلس في خلوتي أقرأ القرآن وأراجع ما حفظته منه، وأحاول طرد هذه
الأشباح وأتكلم مع أجدادي حتى قالت لي جدتي ليلى أن زوجتي تحمل ابنتي في أحشائها،
لذا كان عليّ أن أكتب العهد حتى تتلوه هي الأخرى عند وصولها سن البلوغ، وهنا عرفت
أن ابنتي هي آخر نسل عائلتي.
كنت أساعد الجيران في العلاج من المس والسحر كلما طلبوا مني ذلك، كيف
حدث ذلك؟ كنت في ذلك اليوم في زيارة لوالد عقيلة وكان معه ضيف وكان هذا الضيف
يعاني خطب ما، لقد كان من سكان تلك المنطقة ومسه مس من الجان، وبالطبع عرفت ذلك
منذ أن وطئت قدمي شقة حماي ومعي عقيلة.
طلبت منها أن تدخل غرفة والدتها هي وأمها وأن تقرأ ما تيسر لها من القرآن،
قلت لها ألا تخاف مهما سوف يحدث وما سوف تسمع. لم تستوعب عقيلة ما قلته، وما كنت
لأظن أنها تفعل حتى ترى سبب ذلك، وتكلمت مع ليلى أمام عقيلة وطلبت منها مساعدة
عقيلة في تلاوة القرآن قدر استطاعتها، ولم ألاحظ وقتها أن عقيلة لم تستغرب كلامي
لليلى، وبل ولم ألاحظ أيضا أنها كانت تنظر في اتجاه ليلى. دخلت أنا لغرفة الضيوف
وألقيت السلام على الموجودين، وما إن دخلت حتى أصيب ذلك الضيف بأشياء غريبة وتكلم
بصوت أغرب.
استغرب حماي ما يحدث، ولأنه حافظ للقرآن طلبت منه الهدوء وقراءة ما
تيسر من القرآن وألا يخاف مما سيحدث لأن ذلك الضيف يعاني من المس. كان هاني من
الذين دخلوا في الشيوعية والإلحاد وترك فروض ربه، مما سهل على الجن مسه. انقلب حال
البيت في طرفة عين، الأنوار تضاء وتنطفئ والنار تمسك في كل شيء، الأواني والأثاث
يطير في الهواء، الغريب أن زوجتي ووالدتها لم تصرخا، ولكني مطمئن عليهما فليلى لن
تتركهما.
بعد أن قرأت عليه القرآن وطلبت من خدم الجان تقييد الجن الذي مسه،
جعلت ذلك الجن الذي مس هاني أن يظهر لجميع الموجودين بالغرفة وهو مقيد وتلا قسمه
حتى يترك ذلك الشاب ولا يؤذيه وإلا أحرقته ولا دية له. وبالفعل تركه الجن وعاد كل
شيء لوضعه العادي، استغرب حماي ما حدث فجلست معه وحكيت له أن أسرتي تستطيع فك
الأعمال والسحر وعلاج المس وأنها هبة من الله، ولكن بالطبع لم أذكر له أن أجدادي
يظهرون ويتكلمون ويحكون لي كل شيء وأني أعلم ما يقال عني ويحاك ضدي من مكائد
ويعينني الله عليها.
بعد ذلك علمت من ليلى أن زوجتي كانت من الإيمان بالله لدرجة أنها لم
تخف مما حدث وظلت تتلو ما تحفظه من القرآن ولم تخف من ليلى عندما ظهرت لتصد الجان
الذي أراد أن يمسها بالسوء، بل تحصنت بالله، وذكرت لي ليلى أن عقيلة كانت تراها
حتى قبل أن تظهر لتصد الجان والأذى عنها وعن والدتها، كانت ترى بعض الخوف في عيون
الأم ولكن عقيلة كانت قوية ثابتة لم يطرف لها جفن لم تترك قراءة القرآن والتحصن به
والاستعاذة به من شياطين الإنس والجان حتى هدأت الأوضاع وعادت كما كانت، أعجبت أنا
وليلى كثيرا بقوة عقيلة وصلابتها وإيمانها بالله ولكن لم ألاحظ أيضا قول ليلى أن
عقيلة كانت تراها قبل أن تظهر.
أما هاني فكان غير مصدق لما حدث، لقد مسه ذلك الجان من عشيقته، أرادت
له أن يجن، ولا يرى أنثى غيرها، والأغرب أن هذه العاشقة لم تكن بشرية، لقد عشقته
واحدة من أفراد الجان، وأرادت له أن يكون لها وحدها، ولكن والدته كانت تصر على أن
تزوجه من أخرى؛ لذا كان لابد لها أن تجعله يجن ولا يرى ويشتهي غيرها. لم يصدق هاني
أنه بسبب إلحاده كاد يتسبب في فقد عقله والزواج من قبيلة الجان، أحبته هذه العاشقة
وظهرت له أثناء شربه الخمر وضاجعته ومن وقتها لا يستطيع مضاجعة أنثى أخرى، كلما
حاول ذلك فشل، وقال عنه البعض أنه مريض ولا يستطيع الزواج، ولكن والدته كانت تسمع
صوته كل ليلة يضاجع أحدا ولا ترى معه أحد، لذا أصرت أن تزوجه، وكانت تدعي له أثناء
صلاتها أن يهديه الله ويعود للإسلام مرة أخرى.
خافت هذه العاشقة على عشيقها أن يتركها فأصابته بالمس؛ فأصبح لا
يستطيع أن يوجد في مكان يتلى فيه القرآن أو تتواجد به الملائكة، لذا عندما دخلت
قال لي إدريس على الفور ما يعانيه هذا الشاب وأن الجان الذي مسه يكره تواجدي في
المكان وعلينا أن نحسن التصرف حتى لا نؤذيه، وبالفعل هدانا الله أن نشفيه من هذا
المس.
لم يصدق هاني ما حدث له، ولكنه سأل كيف يتوب وطلب مني مساعدته على ذلك
وطلبت منه الاغتسال وتلاوة الشهادة مرة أخرى، والتزم هاني منذ تلك الواقعة بكتاب
ربه وتعاليمه وترك الإلحاد وحمدت الله كثيرا على ذلك، وذاعت شهرتي في فك الأعمال
والسحر في المنطقة، لم أتقاض أجرا على ذلك كنت أقوم به لوجه الله تعالى كما كان
أجدادي يفعلون، ولكن ذلك تسبب في اجتناب الناس لنا وبعدهم عنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق