الاثنين، 30 نوفمبر 2015

عقيلة -الفصل الحادي عشر (أطياف من الماضي)

انتهى اللقاء بين إبليس ويوسف، ووجد نفسه يوسف في مكتبه مرة أخرى، لا يعرف ما إذا كان ما رآه حقيقة أم حلم، فقرر أن يجرب ليعرف ذلك، فطلب كما علمه سيده أن يظهر له أحد خدمه، فظهر له أحد الجان، اطمأن يوسف أن ما رآه حقيقة وأنه لم يكن يحلم، طلب من الجان الذي ظهر له تقصي أحوال الجواري والقصر كله، علم عنهم كل شيء، ثم طلب منه تقصي أحوال عروسه وأهلها، فكان له ذلك.
ظل يوسف عاكفا في غرفته يفكر كيف يصل لذلك الصبي الذي قال عنه الملك، فسمع من يقول له: "لا شأن لك به الآن، هو لم يولد بعد، اهتم أنت بما أنت موكل به، تكلم مع والدك ووالدتك واكشف لهم أسرارهم وتنبأ لهم بما سيحدث، لابد أن يصدق الجميع أنك صاحب كرامات". وانتهى الصوت وبدأ يوسف يفكر كيف يبدأ في ذلك؟ حتى وجد الفرصة سانحة أمامه والده سيسافر في بعثة لأوروبا لمرافقة أحد البعثات هناك، عندما اجتمع يوسف ووالده وأخيه على مائدة الطعام، قال لوالده:
يوسف: والدي سيأتي لك رسول من الأزهر يقول لك أنك ستسافر في مرافقة أحد البعثات لأوروبا فلا تذهب.
والده: ماذا تقول يا ولدي؟ من قال لك ذلك الكلام
لم يكد والد يوسف يكمل جملته حتى وجد أحد الخدم يقترب منه ويقول له أن هناك رسول قادم من الأزهر ويريده في أمر هام. عندما عاد الأب من مقابلة الرسول نظر لولده مستغربا
والد يوسف: كيف عرفت يا ولدي أن هناك رسول سيأتيني؟
يوسف: شعرت بذلك ولا أدري كيف؟ ولكن لماذا لم ترفض السفر كما طلبت منك؟
نظر الأب لولده مستغربا: كيف عرفت ردي يا ولدي، أراك لم تبرح مكانك، ولم تأت متقصيًا لخبر؟
يوسف: عرفت ردك كما عرفت أمر سفرك.
ونظر يوسف لأخيه إبراهيم: لا تسافر يا إبراهيم، في سفرك هلاكك، لا تسافر
استغرب إبراهيم ونظر له: أي سفر تتحدث عنه، وأي هلاك
يوسف: ستسافر في رحلة تجارة لبلاد الشام وستضل الطريق وتموت هناك فلا جثمان لك نشيعه ولا رفات ندفنها
كان علي وإبراهيم في حالة من الذهول من قدرة ولدهم المفاجئة على كشف الحجاب، ولكن لم ينفذ أي منهما ما طلبه يوسف، فلقى كل منهما حتفه سريعا، بعد زواج يوسف بفترة وجيزة. عندما قال لهم يوسف أنه سيترك الأزهر والعمل به أخبرهم أنه سيتفرغ لعلاج المسحورين والممسوسين من الجان، لأنه اكتشف للتو قدرته على ذلك، لم يعارضه أحد في قراره وبالفعل بدأ في تنفيذ ذلك في المبنى الخاص بالمضيفة ولم يعرف أحد ماذا يفعل يوسف حتى تزوج.
بعد زواج يوسف بخديجة، لقى والده وأخوه حتفهما، كما قال يوسف وكان ذلك خبرا لم يكتمه الخدم، وهو ما أراد له يوسف أن يحدث، ثم شرع يظهر قدراته أمام خدمه، وبدأت طلبات العلاج من المس والسحر تنهال على يوسف وأصبحت المضيفة ملاذه لأداء عمله.
بعد وفاة والد يوسف كان علي يوسف أن يعتق جواري والده، أو يتركهن دون أن يتحولن لجوار له، ولكنه اتخذ من كافة الجوار جوار له وهو ما أثار خديجة، كيف ينتهك ما حرمه الله، كما لاحظت أنه لا يغتسل من جنابة، وإن كان دائما ما يهتم بمظهره ورائحته، كما لاحظت عدم صلاته. استغربت خديجة ذلك الوضع الذي وجدته مستمرا ما يزيد عن الشهر، كانت شهرته ذاعت في مجال فك الأعمال ويأتيه الناس من كل حدب وصوب، وسمي بالشيخ يوسف، وأثناء مراقبة خديجة لزوجها وجدته يغلق عليه غرفة مكتبه وسمعت حواراته مع جانه هناك. كان ما سمعته إيذانا لها بالرحيل والذهاب لوالدها وطلب الطلاق من زوجها لقد تزوجت من ساحر.



السبت، 28 نوفمبر 2015

عقيلة -الفصل العاشر (أطياف من الماضي)

المحروسة 1790
يجتمع علية القوم في قصر خليل باشا خليل في المحروسة، الزينة مضاءة وصخب شديد والخدم يملئون جنبات القصر لخدمة المهنئين، اليوم زواج كريمته المصون خديجة من الشيخ يوسف علي، وهو أحد شيوخ الأزهر، حافظ للقرآن ويدرس علومه في الأزهر، ولكنه تركه قبل الزواج بأيام قليلة، ولا يعلم أحد لماذا ترك عمله الذي شهد الجميع له فيه بالكفاءة، كان الشيخ دائم الابتسام والكرم، من أسرة الشيخ علي عبد الرحيم شيخ عمود في الأزهر الشريف، عائلة تعمل جميعها في الأزهر وفي خدمة تعاليم الإسلام، ميسوري الحال.
كان المدعوون من الرجال في حديقة القصر، أما النساء فكانوا في الدور العلوي يحتفلون بالعروس ويغنون لها. كما تتهامس النساء من شدة حسنها وبهائها، حاسدات لها على زواجها من أسرة الشيخ علي عبد الرحيم، يا لها من محظوظة! ولكن طبعا لم يفت النساء التساؤل عن سبب ترك الشيخ للأزهر وما يخطط له وينوي عمله بعد الزواج. بالطبع لم يعلم أحد حتى العروس لماذا ترك الشيخ الأزهر وهي وظيفة ومقام رفيع يتشرف به أي شخص، ولكن كان الزفاف حدد موعده ولا سبيل للتأخير، خاصة أن الشيخ ميسور الحال ولن يعجز عن الانفاق على زوجته.
انتهى حفل الزفاف وذهبت خديجة مع زوجها يوسف في عربة الحنطور لتذهب إلى قصر زوجها وتعيش هناك مع أسرته. قصر يوسف مكون من حديقة واسعة غناء، وثلاث مبان كبيرة، الحديقة مساحتها شاسعة تزرع فيها الورود والفاكهة، أما المبنى الأول فهو مبني استقبال الضيوف وهو مكون من دورين الأول به عدة أماكن لجلوس الضيوف ومكان كبير لسفرة لتناول الطعام والدور الثاني كله غرف نوم للضيوف. أما المبنى الثاني وهو ثاني مبنى تراه وأنت في طريقك لداخل القصر بعد أن تكون مررت على المبنى الأول، هو مبنى مخصص لمعيشة الخدم والجواري وإقامتهم حيث غرف نومهم وأماكن طعامهم، وكذا غرف الغسيل الخاصة بالقصر والمقيمين به، وفرن لخبز الطعام وتسويته. أما المبنى الثالث وهو المبنى الأخير الذي تقابله وأنت تدخل القصر، هو أكبرهم على الإطلاق، مكون من ثلاث أدوار، الدور الأول مخصص لاستقبال الأقارب وتناول الطعام وكذا أكثر من غرفة مكتب للاستذكار والقراءة للمقيمين بالقصر، الدور الثاني منه مخصص لجلوس نساء القصر وممارستهم القراءة أو الحياكة أو الرسم، حيث عادة تعتبر القراءة والحياكة والرسم من أكثر من يشغل النساء في تلك الفترة، الدور الثالث مخصص لغرف النوم للزوجات والبنات، وغرفة نوم لسيد القصر وابناه يوسف وإبراهيم مع الجواري خاصتهم. كان لكل من علي ويوسف وإبراهيم جواري، وكل الجواري تعيش في مبنى الخدم ولا يأتين إلا إذا أرسل في طلبهن.
في ذلك القصر تزوجت خديجة من يوسف، كانت خمرية اللون، ذات ملامح مصرية أصيلة، شعرها أسود طويل وناعم، ممتلئة بعض الشيء ولكنها ليست بدينة إطلاقا، خفيفة الظل، لا يعرف ثغرها سوى الضحك. تحب ارتداء الألوان الفاتحة لا سيما الوردي والأصفر، تزوجت من يوسف، كانت تعلم أن الطبقة العليا من القوم لابد لهم من جواري، لذا تعايشت مع ذلك الوضع، ولكنها استغربت عدم إنجاب أي جارية من الجواري.
كان يوسف ذا ملامح مصرية، خمري البشرة، ذا شعر أسود أكرت، تعلم في الأزهر الشريف، وأصبح يٌدرس به، يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما، ويكبر خديجة بعشرة أعوام. استقال يوسف من الأزهر، بل وترك القرآن والعمل به.
كان يوسف في غرفة المكتب ينهي ترجمة المخطوطة الغريبة التي حصل عليها صدفة، أعطاها له طالب يدرس في الأزهر قدم من المغرب وطلب من الشيخ أن يقرأها ويقول له رأي الدين فيما يقرأ. كانت تلك الحادثة منذ ما يقارب العام، قرأها الشيخ وهو لا يعلم ما تحويه هذه المخطوطة، لقد كانت بلغة غير العربية وتحوي تعويذات لحضور الجان والشياطين السفلية، ولكن يوسف لم يفهم طبيعة تلك المخطوطة آنذاك لأنها لم تكن بالعربية؛ لذا احتاج للبحث عن ترجمة لتلك المخطوطة ومعاني الرموز، استغرق منه ذلك العمل أكثر من ستة أشهر، واستغرق وقتا أطول ليدرك أنها تعاويذ لتحضر الجان.
انتهى من تلك ترجمة وفهم تلك المخطوطة ليلا، وعندما قرأها بعد ترجمتها وجد أنه يقول مجموعة من التعاويذ لتحضير الجان والشياطين، وجد نور الشمعة يتراقص مرة واحدة دون أن يدري ثم انفتح شباك غرفة المكتب وانغلق وحده. كان ما حدث كفيلا أن يوقف قلبه، ولكنه تشجع لقد فهم الآن أنه أحضر هؤلاء ويجب أن يسمع من طلباتهم ويتلو عليهم العهد الذي يطالبوه به.
لقد فهم منذ بداية ترجمته لهذه المخطوطة أنها تعويذة لشيء ما، ولكنه استغرب أن ذلك الطالب اختفى تماما عقب أن أعطاه المخطوطة ولم يره مرة أخرى، وعندما سأل الطلبة عنه لم يتعرف عليه أحد.
فهم يوسف الرسالة، هذه المخطوطة مرسلة له لترجمتها وقراءتها إذا أراد، ولكن عليه إذا قرأها أن يتلو العهد ويلبي طلبات من يحضر جراء قراءة هذه التعويذة. لم يكن غبيا، لقد أدرك مسبقا قبل تلاوتها أنها إذا كانت صحيحة سيكفر بالله ويتحالف مع الجان، واختار هو الاختيار الأسهل له، سيطلب منهم تحقيق ما يريد مقابل أن يكفر إذا هم طلبوا ذلك.
قرأ التعويذة وتراقصت أنوار الشموع، فتحت الشبابيك وأغلقت، ثم شعر أنه ليس في غرفة مكتبه، إنه في مكان لا يعلم أين هو، أتى له الآن شخصان، وهو لا يدري من هما وإن كانا شخصين بالفعل أم شيئين! لقد كانا كائنان يرتديان عباءة سوداء لا يظهر منهما سوى مكان محجر العين ذو لون أحمر بلون النار، أما المكان الذي وجد نفسه به كأنه في صحراء تحيطه الجبال من كل جانب، عندما اقتربت منه الكائنات عرف أنهما ليسا من عالم البشر، اقتاداه في نفس مكانه نزولا لقاع الأرض ولا يدري كيف حدث ذلك حتى وجد نفسه في مكان جبلي النار مشتعلة في كل شيء، الجبال كأنها حمم بركانية المكان كله بلون الدم والسواد، ثم ما هذا؟
لقد رأى يوسف ملك له نفس سمات الغريبان، ولكن يعلو رأسه تاج ويجلس على عرش من جماجم البشر، دب الخوف في قلب يوسف وسمع هذا الملك
الملك: لماذا قرأت التعويذة أيها البشري؟
يوسف (مرتجف خوفا): لم أدر أنها تعويذة؟
الملك: لا فائدة فيكم معشر البشر نهيتم عن الكذب ولازلتم تكذبون، ولكن اعلم أنا لست رحيما، لذا اصدقني القول وإلا لن تعود لعالمك مرة أخرى. لماذا قرأت التعويذة؟
هنا دب الخوف في جميع أوصال يوسف، لقد استطاع هذا الملك أن يقرأ أفكاره، وهو يشعر بقوته وسطوته، إنه يستطيع بالفعل منعه من العودة لعالمه، ولم يكن أمامه بد من الصدق
يوسف (صوته يرتجف مع كل حرف يخرج من فاه): علمت بعد أن أخذت هذه المخطوطة أثناء ترجمتها، أن من يقرأها تكون له سطوة ولكن لابد أن يتلو العهد وينفذ ما يؤمر به
الملك (بحزم): وهل تعلم ما هو العهد، وما ستؤمر به، اصدقني القول وإلا لن تعرف ما سيحدث لك، كما قلت أنا لست رحيما
يوسف (الخوف يزداد منه تملكا ويظهر ذلك مع كل حرف ونفس): أعرف
الملك (يبتسم منتصرا): إذن افعل ما تعرفه
سجد يوسف أمام الملك وأعلن كفره بربه ونبيه، وأن إبليس هو ربه وهو ملكه، وهو من يأمر فيطاع، فقال له الملك
الملك (بنبرة المنتصر): أظنك تعرف من أنا أيها الإنسي؟
يوسف (مازال خائفا متوترا): نعم أعرف من أنت
الملك: ومن أنا؟
يوسف (بتوتر): أنت إبليس، ربي وسيدي
الملك: لقد صدقتني أيها البشري؛ لذا فستتلو الآن العهد، ولك مني كل جان وشياطين الممالك السفلية في خدمتك، ولكن إن تراجعت عن العهد أو نكست به، فاعلم أن الموت سيكون أفضل لك وأرحم عما سأفعله بك، ولكن لا يجب أن يعرف أحد أنك كفرت بدينك، بالعكس أريد منك أن تظهر كراماتك على أهلك وجيرانك، وأن تكون صاحب كرامات يتحاكى عنها الناس، وأنا سأسخر لك من الجان والشياطين من يساعدك على ذلك، حتى يظهر لك صبي من آل عثمان، كشف عنه الغيب، هو من أبغ الحصول عليه، وقت تجده هو لي، وإن لم تفعل فانتظر عذابي



الخميس، 26 نوفمبر 2015

توفيق -الفصل التاسع (أطياف من الماضي)

عندما بلغت ابنتي السادسة أدخلتها التعليم الابتدائي العام، حيث لم يعد التعليم الأزهري كما كان في عهدي وعهد أجدادي، سيطر عليه المنهج الصوفي ومذاهب أخرى لم ينزل الله بها من سلطان؛ لذا كان من الأفضل أن تدخل التعليم العام. قطعا طلبت منها ألا يعلم أحد من تملكه من مواهب، وأن تتجنب الناس كلما استطاعت حتى لا يعلم أحد تميزها وموهبتها.
دخلت الصف الأول الابتدائي عام 1965، وكانت لاتزال في مرحلة حفظ القرآن الكريم، آذاني كثيرا ما كانت المناهج تروج له من ظلم الحكم العثماني وتجبره ووصف السلاطين بالهرطقة والفساد، الذي لم أجده إلا على هؤلاء الذين اغتصبوا الأموال والقصور وحتى النساء. طاردوا الأميرات والوصيفات، لم يتركوا فاحشة إلا قاموا بها، ثم يقولون في مناهجهم أن العثمانيين اغتصبوا حكم مصر واحتلوها وأنهم ضعاف وهراطقة، أي تاريخ هذا الذي زيفوه؟!!!!
بالطبع كنت أحكي لابنتي أنا وجدتي ليلى وأجدادي عثمان وإسماعيل عن العائلة الحاكمة والحكم العثماني، كل منهم يشهد على ما عاصره ورآه. كما علمتها القرآن الكريم وساعدتها على فهمه وبدء حفظه، ووعدتني عقيلة أنها لن تتركها حتى تحفظ القرآن كاملا. كنت أدخر بعض كتب التفاسير والشروح من أمهات الكتب والمخطوطات النادرة خبأتها حتى لا تصل لها أيدي العابثين، هذه الكتب كنز من المعرفة وصحيح الدين ولابد أن تتعلمه آمال.
وفي عام 1967 كانت آمال في طريقها للصف الثالث الابتدائي، حدثت هزيمة الجيش –التي أطلقوا عليها نكسة، كما أطلقوا على الانقلاب فيما بعد ثورة –وكانت المعلمة تقول للطلبة كلام مغلوط عن الجيش وقوته وامكاناته المهولة، والتي كنت أعلم قطعا أنها محض خيال.
لقد تولى قادة الانقلاب قيادة الجيش وأصبحت الرتب العليا تمنح لأهل الثقة لا الكفاءة، لم يكن هناك سلاح كاف ولا تمويل بسبب سوء تقدير الحاكم. لقد امتنعت بريطانيا عن سداد ديونها لمصر والتي كانت تقدر بملايين، بسبب التمرد الظاهري لعبد الناصر عليها ثم حدث العدوان الثلاثي وظهرت نية إسرائيل في احتلال مصر؛ إلا أن قادة الجيش والبلاد انشغلوا في مطاردة الغانيات والانفاق عليهن من الأموال المغتصبة. كانت الهزيمة محققة سلفا، ولكن هل كان مخطط حدوثها أم كانت بسبب الانشغال بالصراع على السلطة وتقسيم الغنائم؟؟؟
قلت ذلك الكلام لآمال وكانت زوجتي تنهاني عنه، ولكني لم أتمالك أعصابي عقب رجوع عبد الناصر عن التنحي بدعوى المظاهرات التي نزلت ترفض تنحيه في الشوارع والميادين، لقد كانت الخطبة معدة سلفا لتنزل الجماهير لمطالبته بالبقاء وأخذ الثأر ورد الكرامة. وصرت أردد أنها هزيمة وليست نكسة وأنها بسبب القيادة السياسية والعسكرية والنزاع على السلطة وتقسيم التركة ومطاردة النساء، ابتعد الجيران عني بعدها ولم يجرؤ أحد على طلب العون على مس أو طرد روح شريرة وكأن المكان قد خلى من الأرواح والشياطين بين ليلة وضحاها. وهو ما لم يحدث وكنت أعرف السبب؛ إنه الخوف من السجن والاعتقال. اعتقلت ذات يوم من مقر عملي، وعذبت في المعتقل حتى الموت وبعدها ظهرت لآمال وعقيلة.
في فترة طفولتي لم يكن أمر السحر والشعوذة بالأمر الشائع كما هو الحال في الستينات، لقد انتشر المشعوذون والدجالون بكثرة، وكثر اللجوء إليهم في تلك الفترة، والفترات التي تلتها. ولا أعرف كيف يثق الناس بشخص يستغلهم ليحصل على أموالهم وأحيانا شرفهم وكرامتهم ولا يثقون برب هذا الكون وخالقه. في أيام طفولتي كنت أعلم أن هبة رؤية الأطياف والجان تتثنى لمن له من بياض القلب والاعتماد على الله، ولكني عرفت أيضا أن البعض يحصل عليها بسواد قلبه والكفر بالله.
في ذلك اليوم، ذهبت إلى عملي ودخلت مكتبي، كنت أعلم من ليلى وإدريس وآمال بأمر اعتقالي، طلب مني الجميع الهروب، وعندما وصلت للمكتب فوجئت بإدريس يطلب مني الهرب فورا من خلال قدرته على إخفائي عن البشر وتغيير هيئتي؛ حيث أن رجال الشرطة في طريقهم لاعتقالي الآن، رفضت ذلك وقلت له أنني لابد أن أواجه مصيري أيا كان ذلك المصير، لم تمض دقائق حتى وجدتهم أمامي يفتشون مكتبي وينعتونني بأقدح الألفاظ، لم تكن الشرطة تعامل المواطنين بهذه الطريقة ولا هذه الألفاظ من قبل ولكنها الثورة، التي كانت ثورة على الدين وثورة على العادات والتقاليد، وثورة على الأخلاق.
اقتادني هؤلاء للمعتقل، بالطبع لم تكن هناك قضية أو أوراق أو ما يثبت اعتقالي، لذا لم يعرف أحد أين أنا ولم تستطع عقيلة الحصول على راتبي أو معاشي، لم يعرف أحد طريقي ولا أن يثبت وفاتي أو اعتقالي، رفضت الوزارة أن تدفع أية مستحقات وبعد فترة فصلت عن العمل، بزعم غيابي دون إذن.
عذبت في المعتقل عذابا ليس له نظير، لم نكن نأكل ولا نستطيع دخول الخلاء، لم تكن هناك أية حياة آدمية، كنا نضرب في كل الأوقات وننزف وتتعفن جراحنا حتى الموت، وبعد الموت ندفن في الصحراء بلا شاهد ولا دليل على مكان وجودنا. كنت أتألم حتى وجدتني مرة واحدة أرى أمي وأبي وعائلتي كلها وأرى ذلك الضوء وأذهب إليه وإليهم جميعا، شاهدتهم يفكون قيدي وأرمى مع القمامة من عربة المخلفات التي قذفتني في الصحراء ودفنت وسط النفايات، وهكذا انتقلت من هذه الحياة الدنيا لحياة البرزخ.
لم أكن أعرف أن طيفي سيكون كما أجدادي إسماعيل وعثمان، ظهرت لعقيلة بعد اختفاء دام ما يزيد عن العام، ظهرت لها ليلا في غرفتها وهي تبكي وليلى تواسيها، لقد أخبرتها ليلى بوفاتي وحضرت أنا إليها، كم اشتقت لحضنها الدافئ، كم اشتقت لمسة يدها الحانية، كم اشتقت أن أبكي في حضنها كلما أهمني أمر ما لم أقوَ على مواجهته، فيكون حضنها هو الدافع لي على المواجهة، يمدني بقوة لا أعلم كيف أشعر بها ولا كيف امتلكتها من البداية.
لن أستطيع الآن أن ارتمي في حضن عقيلة، ولكن جدتي ليلى موجودة معي، ارتميت في حضنها الدافئ كم واستني فيما أصابني، لك الله يا عقيلة، كم أنت قوية وصبورة وكم تحملت من أعباء، لازلت أحبك يا مكنون قلبي وحب عمري.
أما ما حدث بعد وفاتي سأتركه لعقيلة وآمال لتحكيه كل منهما كما عاشته وشعرت به، فهما من عاشا هذه الحياة وهذه التجربة وشعرا بقساوتها ومرارتها، أما أنا كنت أتابعهم وأحاول التخفيف عنهم.



الثلاثاء، 24 نوفمبر 2015

توفيق -الفصل الثامن (أطياف من الماضي)

بعد أن ذاعت شهرتي في مجال فك الأعمال، قصدني الكثيرين لعمل الأعمال والأحجبة لضرر آخرين وهو ما كنت أرفضه بشدة، وتسبب ذلك لنا في مشاكل عدة قدرني الله على التصدي لها. ثم ولدت عقيلة ابنتي آمال، أسميتها آمال لتكون آمالنا جميعا في حياة في قرب الله، في حياة نزينها بالقرب منه وقراءة آياته، لتكون أمل في هداية جيل ربَّى أجيال كثيرة على الشيوعية والإلحاد.
لا أعلم إن كانت آمال ترى الجان والأطياف كما حال أسرتي، حتى وجدتها تقول لي وهي ابنة الثلاثة أعوام أنها تحب جدتها ليلى كثيرا، وأنها تريد من إدريس أن يظهر بشكل طفل ليلعب معها. كانت صدمتي كبيرة من الموهبة التي وجدت ابنتي عليها، خفت عليها كثيرا وكان لابد أن تعلم أن هذه الملكات هي هبة من الله لنا ولا يجب أن نتحدث عنها لأي شخص أيا كان.
ولدت ابنتي آمال بعد زواجي من أمها بحوالي العام حيث تزوجت عام 1958 وولدت آمال عام 1959، حزنت عليها لأني علمت أنها لن تنجب ولكني في حياتي لم أكن أعرف أنها أيضا لن تتزوج، لقد اعتقد أنها ستكون عاقرا كما كانت ليلى، ولكن لم يخطر لي على بال أن هذا الملاك لن يتزوج.
كنت أخاف أن تتوفى عقيلة بعد ولادة آمال كما يحدث دائما في عائلتي، تلك العائلة الغريبة، ولكن لم تتوف عقيلة وحمدت الله كثيرا على ذلك. لقد أحببت عقيلة وارتبط قلبي بها بشدة، ولم أكن لأحتمل ألم فقدها، كنت أخاف أن أفقدها وأتعذب لفقدها كما حدث مع جدي عثمان.
لاحظت بعد ولادة آمال بفترة أن عقيلة تتكلم أحيانا مع أحد وهي في غرفتنا أو وهي في المطبخ، في الأثناء التي لا أتواجد بجانبها، وكان ذلك يشعرني بالقلق؛ لذا قررت أن أخرج من خلوتي على حين غرة وهي تتكلم، فوجئت حيث وجدتها تتكلم مع ليلى وتتحاور معها، في أمور تخص حياتنا معا وأمور أخرى تخص آمال. أتذكر جيدا حين جاء عقيلة ألم المخاض، لقد باغتني النوم في غرفة خلوتي وكنت أغلقها من الداخل، ولم أسمع عقيلة وهي تنادي عليّ ولكني وجدت ليلى توقظني من النوم وتقول لي أن عقيلة تلد الآن، أفقت من النوم وجدتها تطلب مني أن أذهب لأحضر الطبيبة لعقيلة، لقد أتتها آلام المخاض. بالفعل لم أكن لأعرف ما أفعله، لذا عندما حددت لي ليلى مهمتي بأن أذهب لأحضر الطبيبة ففعلت، نزلت من المنزل وذهبت لوالدتها أخبرها بخبر مخاض ابنتها وأعطيتها مفتاح المنزل، وذهبت لأحضر الطبيبة.
تركت الجميع أثناء ولادة عقيلة ودخلت غرفة الخلوة أصلي وأدعو الله أن يحفظ عقيلة لي ولابنتها الوليدة، وتكلمت مع ليلى أن تطمئن على عقيلة وتخبرني، كانت ليلى تطمئنني على عقيلتي ومنية قلبي، وسألت ليلى عن علاقتها مع عقيلة
توفيق: وجدتك أكثر من مرة تتحدثين مع عقيلة، والآن وجدتك توقظيني لأنها تلد، منذ متى تراكِ عقيلة؟
ليلى: عقيلة تراني منذ دخولها هذا المنزل، بل وترى عثمان وإسماعيل أيضا
توفيق (وهو مصدوم): ماذا؟
ليلى: لقد نسيت أني قلت لك أن عقيلة كانت تراني أثناء حادثة هاني، لقد قلت لك أنها تراني حتى قبل أن أظهر لها.
توفيق: فعلا، لقد نسيت تلك الواقعة ونسيت كلامك عنها، بل انتظري أنا لم ألحظ بالفعل أنها كانت تنظر ناحيتك أثناء حديثي معك، ولم تندهش أو تسألني مع من أتكلم. كيف عرفتي أنها تراكِ؟ ومنذ متى تراكِ؟
ليلى: توفيق، من فضلك لا تقلق، عقيلة ترانا جميعا، ولا تخاف منا. عرفت ذلك منها، لقد تحدثت معها بعد حادثة هاني وكانت تحب الكلام معي، وأنا أيضا أحببتها. عرفت منها أنها ترانا منذ وطئت قدمها هذا المنزل. بل الأغرب أنها ترى شمس أيضا.
توفيق: من هي شمس؟
ليلى: شمس جدتك ووالدة جدك إسماعيل
توفيق: وكيف تعرفها؟!!! إن شمسا لم تظهر لأي شخص منذ وفاتها كما فعلتي أنتِ وأجدادي عثمان وإسماعيل، فكيف ذلك؟
ليلى: شمس ظهرت لها منذ تزوجتك وأنا رأيتها وتكلمنا سويا، وعلمت منها أن لها صلة قرابة لجدتك شمس، وذلك المشعوذ الذي تغلب عليه جدك إسماعيل.
توفيق: جدتي مهلا، ما عدت أفهم شيء
ليلى: لا وقت لذلك الآن، لقد تم مخاض زوجتك، ووضعت آمال ابنتك الآن، أخرج واطمئن عليها وتكلم مع عقيلة وهي تحكي لك كل شيء
وبالفعل خرجت ووجدت عقيلة وضعت لي آمال، ابنتي وحيدتي، وآخر نسل عائلتي. وبعد أن وضعت عقيلة وأتمت الأربعين بعد ولادتها لابنتي وحبيبة قلبي ونور حياتي، تكلمت معها عما قالته لي ليلى؛ فلم أكن أعلم أنها تقرب لجدتي شمس، معنى ذلك أن لها صلة قرابة لعائلتي وكيف هي أيضا لها صلة قرابة مع ذلك المشعوذ. عرفت أن خالة جدتي شمس رحمها الله هي زوجته وأن لها منه ولد، طلقها بعد أن عرفت عنه اشتغاله بالسحر والكفر بالله. وبالطبع لم يكن إبراهيم يعرفه لأن الطلاق تم وإبراهيم في سن صغير لا يتذكره وكانت شمس حديثة الولادة، كان يعرف أن خالته تزوجت وطلقت من زوجها ولكنه لم يكن يعرف من هو ذلك الزوج، ولم يكن ذلك المشعوذ يعرف أن زوجته تحمل في أحشائها ابنا له، لأنه لم يهتم يوما أن يسأل عنها، كما تزوجت هي بعد ولادتها لابنها من رجل آخر عرف عنه التقوى والصلاح وسعة الرزق.
علم ذلك المشعوذ قبل وفاته أن له ابنا وأن ابنه هو ابن خالة شمس والدة إسماعيل، لذا قرر قبل وفاته أن يبر بابنه ويرسل كل خدامه لإسماعيل ثم تاب وعاد إلى الله قبل وفاته بأيام قليلة، وبالطبع لم يعلم إسماعيل سبب إرسال ذلك المشعوذ لخدامه من الجان لخدمته.
كما علمت من عقيلة أيضا أنها مثلي ترى الجان والأطياف والأرواح، ولكنها لا تملك القوة التي أملكها في طرد الأرواح الشريرة وعلاج المس والأذى. كما أخبرتني أنها لم تخبر أحدا بهذه الهبة، ولكنها عرفت منذ رؤيتها لي أول مرة أني أملك هذه الهبة، ولم ترد أن تفسد عليّ خلوتي التي أردتها لنفسي.
منذ لك الوقت وبعد أن علمت بموهبة زوجتي، أصبحنا نجلس سويا مع أطياف الأجداد، وكانت شمس تظهر لنا من وقت لآخر وتسر برؤية أحفادها، ولكن لأن شمس لم تكن بقوة ليلى في الدفاع عمن تحب، آثرت أن تكون ليلى معنا دائما؛ فهي قوية دائما في حياتها وموتها.
كنت أصر أن تتعلم ابنتي كتاب الله، كنت أعلمها أن الحافظ هو الله؛ فهي ترى هؤلاء الذين يقصدون بيتنا لطلب العون أو الحماية، ولصغرها كان عليا أن أجعلها تفهم أن الحماية من الله كنت أجعلها تقرأ ما تيسر من آيات لفك سحر أو طرد روح.
طبعا كان منزلنا يحوي من الأشباح الكثير، منهم من تركه ومنهم من أصبح من التابعين ومنهم من حاول أن يؤذيني ويؤذي عائلتي بشتى الطرق، كانت بعض هذه الأشباح من سكان البيت والبعض الآخر يتركه أحد الذين يأتون لطلب العون أو المساعدة، والبعض الآخر يأتي مسلطا علينا من بعض الأفراد.
كان الله يحفظنا دائما؛ فهو حسبي ووكيلي، وهو أقرب لنا من حبل الوريد. لقد أمرنا الله بالاستعاذة به من الشيطان الرجيم فقال تعالى في سورة الأعراف (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ 201). لم أنس يوما هذه الآيات ولم أترك يوما الاستعاذة وكذلك علَّمت آمال.



الأحد، 22 نوفمبر 2015

توفيق- الفصل السابع (أطياف من الماضي)

أعرفكم بنفسي أنا توفيق والد آمال، اسمي توفيق إبراهيم عثمان إسماعيل عثمان. أراك تتساءل عن أشياء كثيرة، منها ماذا حل بأملاكنا وكيف انتقلنا للعيش في الأباجية، تلك قصة طويلة سأرويها لك الآن.
ولدت في القاهرة في حي شبرا عام 1930 في قصر أجدادي، كان والدي وجدي على قيد الحياة عندما وعيت على هذه الحياة الدنيا، كنت كما كل أجدادي أرى الجان والأطياف، أعرف ما يقال عني ومن خلف ظهري. تعلمت في الأزهر الشريف وحفظت القرآن الكريم، كنت أحب الكلام مع جدي عثمان الكبير وكذا جدتي ليلى.
كانت أملاكنا لا حصر لها، حتى بعد أن أعتق جدي جواريه وعبيده بعد توقيع مصر عام 1926 معاهدة منع الرق والعبودية، في عهد الخديوي إسماعيل، وبعد عتقهم استمروا في العمل معنا مقابل أجر معلوم. كان الوضع المالي لنا متيسر، وكنا كما اعتاد أجدادي بعيدين كل البعد عن السياسة والحياة السياسية في مصر.
هناك بعض التغيرات التي شهدتها عندما كنت في العاشرة من عمري، لقد أصبحت المرأة تخرج لتتعلم في المدارس ولا تتعلم في المنزل كما كان الوضع في حياة أجدادي وأيضا ما عادت ترتدي "اليلك" كما كانت –كما حكت لي جدتي ليلى عن الملابس والحياة أثناء حياتها وحكى لي والدي وجدي عن تلك الفترة –لقد أصبحت المرأة تخرج بدون "اليشمك" الذي يغطي الوجه، ليست جميع النساء ولكن بعضهن أصبح يخرج بلا غطاء الوجه. منذ حركات التحرر التي دعت لها هدى شعراوي وسيزا نبراوي وغيرهما من دعاة سفور المرأة حتى درية شفيق التي أتت لتحارب كل ما أمر به الإسلام من حجاب وتعدد زوجات وعدم اختلاط.
في تلك الفترة كثر الهرج في مصر حتى حدث الانقلاب العسكري على الملك فاروق وكنت في ذلك الوقت عمري اثنتا وعشرين عاما، كان ما حدث انقلابا عسكريا اعترف به قادة الجيش أنفسهم.
عندما حدث ذلك الانقلاب كنا نعلم أنا وأبي وجدي ما سيحدث لأملاكنا لذا وجدنا أنه من الأفضل توزيع تلك الثروة على من يستحقها ولكننا لم نلبث أن بدأنا في توزيعها حتى قبض علينا جميعا وصادر الضباط أملاكنا وتركوا لنا القليل، حتى القصر تمت مصادرته واتهمنا –بسبب نسبنا الذي يمتد لآل عثمان –بالتآمر على الثورة ومات أبي وجدي في المعتقل وخرجت أنا.
كنت أكره ما أسموه ثورة، كنت قد أكملت تعليمي في الأزهر الشريف الذي لم يسلم من أذى هؤلاء، الذين لم يفعلوا في تلك الفترة غير القضاء على كل ما هو إسلامي ولا أعلم لماذا. لقد أصبحت مشيخة الأزهر بالتعيين وليس بالانتخاب كما كانت، واقتصرت على المصريين دون غيرهم من المسلمين. أصبح خروج المرأة بملابس تبرز مفاتنها وتبرز كل ما أمر الله بستره معتادا، كان من النادر أن تجد من تحافظ على الزي الإسلامي والحجاب. كما انتشرت الشيوعية والإلحاد في تلك الفترة وشجع النظام عليها، واعتقل كل من يحارب ذلك بزعم أنه من الاخوان المسلمين وأنه متطرف.
لا يعنيني كل ما سبق، فبعد أن أكملت تعليمي الأزهري عملت في ديوان الأوقاف (وزارة الأوقاف) كما كان يطلق عليها، وكنت كما والدي وجدي نساعد الناس في الشفاء من المس والسحر وفك الأعمال، ولم نكن نتقاضى أجرا على ذلك. وعندما حدث الانقلاب العسكري، بدأنا في توزيع أملاكنا على المحتاجين والمساكين وعلى الخدم الذين يعملون لدينا ولكننا لم نكمل ما بدأناه؛ لقد قبض علينا وتمت محاكمتنا أمام محاكم الثورة على أننا من العائلة الملكية وتمت مصادرة جميع ممتلكاتنا، حتى القصر الذي كنا نعيش به والاستراحة والأراضي الزراعية، لم يتبق لنا منها شيء، لقد اعتبر هؤلاء العسكر أن أملاك الأغنياء والأسرة المالكة هي حق لهم وملكية خالصة لهم لأنها جميعا جاءت من تعب الشعب وكدِّه!!
كان ذلك محض هراء، ففي تلك الفترة لم يكن هناك شخص لا يعمل، هناك الأفندي الذي يعمل في ديوان الحكومة –وكنت أنا واحد من هؤلاء –وهناك الحرفي والفلاح، لم يكن هناك شخص عاطل عن العمل، الكل يعمل ويعيش ويتعلم، كل حسب مقدرته. كانت مصروفات التعليم مرتفعة قليلا، ولكن من كان يثبت جدارته وتفوقه يتعلم بالمجان، ودليل على ذلك أن أنور السادات وجمال عبد الناصر وقادة المجلس العسكري كانوا أولاد لفلاحين وأسر من الطبقة الوسطى، وليسوا أغنياء ولا أصحاب أملاك –ذلك بالطبع قبل أن يستولوا على أملاك غيرهم لأنفسهم باسم الثورة المزعومة.
أثناء توزيعنا لأملاكنا على من نعرفه من الفقراء والمحتاجين والمساكين وجدنا أن تهمنا هي القرابة والانتماء للأسرة الحاكمة، أي جهلة هؤلاء، بالطبع هم مجموعة من الجهلة، نحن تمتد قرابتنا للسلطان عثمان مؤسس الدولة العثمانية والخليفة المسلم، هذه الخلافة انتهت وقضي عليها منذ تولي مصطفى كمال أتاتورك، لم يكن عثمانيا كان تركيا، ومنذ ذلك الوقت انتهت الخلافة العثمانية واختفت كلمة إسلامية من الباب العالي، ولم تكن الأسرة الحاكمة من نسلنا. وبالتالي لم نكن نملك أي صلة نسب أو قرابة للباب العالي أو للأسرة العلوية، وعلمت وقتها سوء الفترة القادمة؛ مجموعة من الجهلة بالتاريخ، لديهم من الهوس بجمع الأموال ما يكفي عند توزيعه قارة بكاملها، وجشعون بما يكفي أن يمتصوا أموال أغنياء العالم، ولا يعرفون التكلم بلغة سوى الرصاص.
 بعد أن خرجت من المعتقل لم يكن معي ما يكفي من المال بعد أن اشتريت شقة للإقامة بها بعد سرقة الضباط لقصرنا وجميع أملاكنا بذلك الزعم السخيف، أننا من الأسرة الحاكمة، وبحثت حتى وجدت شقة في منطقة تدعى الأباجية وانتقلت للعيش بها. كانت تلك العمائر مشيدة فوق مقابر الجيش الإنجليزي، وبالطبع كانت معمورة بأشباح وأرواح كل من دفن بها.
كان لابد لي من الزواج فقد تخطيت الثلاثين من عمري الآن، وفي زواجي انفقت كل ما تبقى لدي من أموال، ولم يبق لي سوى راتبي. تزوجت من عقيلة، كانت جارتي في الإباجية رأيتها وهي تنشر الغسيل في الشرفة المقابلة لي.
جذبني لها إصرارها على ارتداء حجابها حتى وهي في الشرفة، لم تكن تخرج من بيتها إلا نادرا، حصلت على التعليم الإلزامي ولم تخرج بعده من بيتها إلا في صحبة والدتها لشراء بعض المستلزمات. كانت جميلة خُلقا وخلقا.
تقدمت لوالدها لأتزوجها، ووافق بالفعل على الزواج وأنفقت كل ما لدي على الزواج. كانت عقيلة خمرية اللون، ذات شعر أسود ناعم وعيون بنية تسحرك إذا نظرت لها، أحببتها كثيرا، ولكن لم أكن لأطلعها على سري. لم تكن عقيلة لتفهمه، هكذا كنت أعتقد.
كنت أنفرد بنفسي في أوقات كثيرة من اليوم بعد رجوعي من العمل لقراءة القرآن والكلام مع أجدادي. خاصة بعد أن سئمت وجود تلك الأشباح البغيضة وحاولت طردها بشتى السبل، وقد ساعدني جدي إسماعيل في ذلك.  ولم أكن أعرف أني آخر ذكر في نسل عائلتي حتى ذلك اليوم الذي ولدت فيه عقيلة ابنتي آمال.
كنت أجلس في خلوتي أقرأ القرآن وأراجع ما حفظته منه، وأحاول طرد هذه الأشباح وأتكلم مع أجدادي حتى قالت لي جدتي ليلى أن زوجتي تحمل ابنتي في أحشائها، لذا كان عليّ أن أكتب العهد حتى تتلوه هي الأخرى عند وصولها سن البلوغ، وهنا عرفت أن ابنتي هي آخر نسل عائلتي.
كنت أساعد الجيران في العلاج من المس والسحر كلما طلبوا مني ذلك، كيف حدث ذلك؟ كنت في ذلك اليوم في زيارة لوالد عقيلة وكان معه ضيف وكان هذا الضيف يعاني خطب ما، لقد كان من سكان تلك المنطقة ومسه مس من الجان، وبالطبع عرفت ذلك منذ أن وطئت قدمي شقة حماي ومعي عقيلة.
طلبت منها أن تدخل غرفة والدتها هي وأمها وأن تقرأ ما تيسر لها من القرآن، قلت لها ألا تخاف مهما سوف يحدث وما سوف تسمع. لم تستوعب عقيلة ما قلته، وما كنت لأظن أنها تفعل حتى ترى سبب ذلك، وتكلمت مع ليلى أمام عقيلة وطلبت منها مساعدة عقيلة في تلاوة القرآن قدر استطاعتها، ولم ألاحظ وقتها أن عقيلة لم تستغرب كلامي لليلى، وبل ولم ألاحظ أيضا أنها كانت تنظر في اتجاه ليلى. دخلت أنا لغرفة الضيوف وألقيت السلام على الموجودين، وما إن دخلت حتى أصيب ذلك الضيف بأشياء غريبة وتكلم بصوت أغرب.
استغرب حماي ما يحدث، ولأنه حافظ للقرآن طلبت منه الهدوء وقراءة ما تيسر من القرآن وألا يخاف مما سيحدث لأن ذلك الضيف يعاني من المس. كان هاني من الذين دخلوا في الشيوعية والإلحاد وترك فروض ربه، مما سهل على الجن مسه. انقلب حال البيت في طرفة عين، الأنوار تضاء وتنطفئ والنار تمسك في كل شيء، الأواني والأثاث يطير في الهواء، الغريب أن زوجتي ووالدتها لم تصرخا، ولكني مطمئن عليهما فليلى لن تتركهما.
بعد أن قرأت عليه القرآن وطلبت من خدم الجان تقييد الجن الذي مسه، جعلت ذلك الجن الذي مس هاني أن يظهر لجميع الموجودين بالغرفة وهو مقيد وتلا قسمه حتى يترك ذلك الشاب ولا يؤذيه وإلا أحرقته ولا دية له. وبالفعل تركه الجن وعاد كل شيء لوضعه العادي، استغرب حماي ما حدث فجلست معه وحكيت له أن أسرتي تستطيع فك الأعمال والسحر وعلاج المس وأنها هبة من الله، ولكن بالطبع لم أذكر له أن أجدادي يظهرون ويتكلمون ويحكون لي كل شيء وأني أعلم ما يقال عني ويحاك ضدي من مكائد ويعينني الله عليها.
بعد ذلك علمت من ليلى أن زوجتي كانت من الإيمان بالله لدرجة أنها لم تخف مما حدث وظلت تتلو ما تحفظه من القرآن ولم تخف من ليلى عندما ظهرت لتصد الجان الذي أراد أن يمسها بالسوء، بل تحصنت بالله، وذكرت لي ليلى أن عقيلة كانت تراها حتى قبل أن تظهر لتصد الجان والأذى عنها وعن والدتها، كانت ترى بعض الخوف في عيون الأم ولكن عقيلة كانت قوية ثابتة لم يطرف لها جفن لم تترك قراءة القرآن والتحصن به والاستعاذة به من شياطين الإنس والجان حتى هدأت الأوضاع وعادت كما كانت، أعجبت أنا وليلى كثيرا بقوة عقيلة وصلابتها وإيمانها بالله ولكن لم ألاحظ أيضا قول ليلى أن عقيلة كانت تراها قبل أن تظهر.
أما هاني فكان غير مصدق لما حدث، لقد مسه ذلك الجان من عشيقته، أرادت له أن يجن، ولا يرى أنثى غيرها، والأغرب أن هذه العاشقة لم تكن بشرية، لقد عشقته واحدة من أفراد الجان، وأرادت له أن يكون لها وحدها، ولكن والدته كانت تصر على أن تزوجه من أخرى؛ لذا كان لابد لها أن تجعله يجن ولا يرى ويشتهي غيرها. لم يصدق هاني أنه بسبب إلحاده كاد يتسبب في فقد عقله والزواج من قبيلة الجان، أحبته هذه العاشقة وظهرت له أثناء شربه الخمر وضاجعته ومن وقتها لا يستطيع مضاجعة أنثى أخرى، كلما حاول ذلك فشل، وقال عنه البعض أنه مريض ولا يستطيع الزواج، ولكن والدته كانت تسمع صوته كل ليلة يضاجع أحدا ولا ترى معه أحد، لذا أصرت أن تزوجه، وكانت تدعي له أثناء صلاتها أن يهديه الله ويعود للإسلام مرة أخرى.
خافت هذه العاشقة على عشيقها أن يتركها فأصابته بالمس؛ فأصبح لا يستطيع أن يوجد في مكان يتلى فيه القرآن أو تتواجد به الملائكة، لذا عندما دخلت قال لي إدريس على الفور ما يعانيه هذا الشاب وأن الجان الذي مسه يكره تواجدي في المكان وعلينا أن نحسن التصرف حتى لا نؤذيه، وبالفعل هدانا الله أن نشفيه من هذا المس.
لم يصدق هاني ما حدث له، ولكنه سأل كيف يتوب وطلب مني مساعدته على ذلك وطلبت منه الاغتسال وتلاوة الشهادة مرة أخرى، والتزم هاني منذ تلك الواقعة بكتاب ربه وتعاليمه وترك الإلحاد وحمدت الله كثيرا على ذلك، وذاعت شهرتي في فك الأعمال والسحر في المنطقة، لم أتقاض أجرا على ذلك كنت أقوم به لوجه الله تعالى كما كان أجدادي يفعلون، ولكن ذلك تسبب في اجتناب الناس لنا وبعدهم عنا.



الجمعة، 20 نوفمبر 2015

إسماعيل -الفصل السادس (أطياف من الماضي)

عندما تركني إبراهيم ليذهب لذلك الشيخ المشعوذ في غرفة الضيوف، ظهر لي عثمان على الفور وقال لي أن ليلى مع السيدات فلا أخاف عليهن، أن عليّ الآن وقف ما يجري بسبب سوء تقدير إبراهيم للأمور؛ حيث نشبت النيران في كل مكان هنا وهناك، كما شعر إبراهيم بمن يقيده في مكانه، وتعالى صوت صراخ النساء في الأعلى وكل ما في القصر تمسك به النيران.
وجدت عثمان ينادي على شخص يدعى إدريس ويطلب منه حماية المكان وتطهيره من الجان غير المسلم ولكن إدريس قال له أني لم أقرأ العهد بعد، وأني لم أبلغ الحلم لأتلوه، فكان التفاوض مع إدريس أن أتلو العهد الآن وأحظى بحماية إدريس وقبيلته كما حَظِيَ بها والدي وأجداده من قبلي على أن تكون الحماية من أذى الجان والأعمال السفلية، وأنهم غير موكلين بغير ذلك. إلا أن إدريس رفض وقال لي "اقرأ ما تيسر لك من القرآن يا إسماعيل وموعدنا عند بلوغك الحلم".
لم أعلم كيف وصل المصحف إلى يداي وفتح على صفحات وآيات بعينها لأتلوها، وكيف سمع الجميع صوتي يرج الأجواء وكأني أتلوه من فوق السماوات السبع، لم يستوعب عثمان ما يحدث ولكن ليلى كانت تشعر بالخوف الشديد عليّ وعلى شمس وإبراهيم. ومثلما حدث معي حدث مع إبراهيم حيث وجد من يحرر قيد يده ويناوله المصحف دون أن يرى من هو ذلك الشخص والمصحف يفتح على نفس الآيات التي أتلوها، وعندما انتهينا من تلاوتها كانت النيران قد خمدت وعاد كل شيء في موضعه، تكلمت مع عثمان وطلبت منه أن تنسى النساء ما حدث، فهن غير قادرات على فهمه. وطلب عثمان من إدريس أن يتحول ما حدث لذكرى كابوس راودهن في أحلامهن، وبالفعل نامت النساء دون سابق إنذار ودون أن يشعرن وكل واحدة تستيقظ تظن أن ما رأته كان كابوسا.
فهمت وأدركت أنا وإبراهيم الدرس، إن حفظ النفوس من الله وليس من إنس ولا جان وتذكرنا حديث رسولنا الكريم {عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً فقال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. } وعلمنا جيدا أن الضر والنفع من الله وليس من الأشخاص، ندم إبراهيم على فضح أمري لذلك المشعوذ، ولكني طمأنته، بنفس الحديث.
أما المشعوذ فقد خرج عندما وجد المصاحف تتلى في ذلك البيت، وجد الجان والشياطين التي يسخرها له تحترق من أولها لآخرها، لم يتوقع أن تكون الحماية من الله عز وجل، ظن أن عثمان سيستعين بجان إدريس وهو تحضر لهم جيدا. وكان إدريس يعلم ذلك، ويعلم أن الحفظ والحماية من الله عز وجل، فساعدني أنا وإبراهيم في قراءة آيات الاستعاذة من الشياطين وطلب معونة الله وحفظه.
وعندما وصلت لسن البلوغ، وجدت عثمان يظهر لي مع إدريس، ووجدت عثمان يتلو عليّ العهد الذي بينه وبين إدريس وقبيلته، وطلب مني تلاوته. قال لي إدريس وقتها أنه موكل بالجان والأعمال السفلية ولكن البشر ليس له عليهم سلطان، لم أحتج بعد الدرس الذي تعلمه لحماية جان، كنت على يقين أن الحامي هو الله، ولكني تلوت العهد واستعددت لما أنا مقدم عليه.
لم يعلم أحد أني كنت أرى منذ وعيت على هذه الدنيا عثمان وليلى وإدريس والجان وأطياف أخرى كثيرة، لقد كنت أشعر كثيرا وأنا نائم بيد حانية تربت على كتفي، شعرت معها بالحب والأمان رغم أنها لم تكن يد بشر ولكنها يد أنثوية كانت تسهر بجانبي أثناء النوم وتربت على كتفي كلما راودني كابوس ما، وكلما مرضت كنت أعلم أنها ليلى.
وعندما وصلت لسن البلوغ –وبعد أن تلوت العهد –طلبت من خالي أن أذهب لأعيش في الاستراحة التي بناها من قبل لمباشرة أعمال جدتي –رحمها الله. لقد توفت والدتي وجدتي منذ عام واحد كان عمري وقتها أربعة عشرة سنة، توفيتا معا في نفس الشهر تقريبا توفت والدتي وقبل الأربعين تبعتها جدتي، أصيبت والدتي بحمى شديدة أودت بحياتها، إلا أن جدتي نامت ولم تستيقظ.
لم يظهر طيف أي منهما منذ وفاتهما ولا أعلم لماذا، ولكن استمر عثمان وليلى في الظهور، ووجدت أن من الأفضل أن أعيش بمفردي لكي أترك حرية الحركة في القصر لخديجة ولا أكتم حريتها بوجودي هناك. وأيضا لكي أكون حرا في حركتي أنا الآخر وفي التحدث مع نفسي ومع عثمان وليلى وإدريس وقبيلته.
لم تنشغل عمتي نيغار كثيرا بتركي القصر وتفضيلي الحياة في الاستراحة، حيث انشغلت بأمور أخرى؛ منها شراء إبراهيم للجواري كل حين، وأيضا ما يحدث كلما حملت جارية من إبراهيم حيث يجهض حملها بلا سبب، كان هناك أمر آخر هي الأخرى لم تنجب منذ أنجبت خديجة.
تحدثت مع إبراهيم في ذلك الموضوع، كان يظن أن نيغار وراء إجهاض الجواري، ولكني سمعت من يهمس في أذني ويطلب مني أن أخبره أنه لن يكون له من الأولاد غير خديجة، وليحمد الله عليها. وبالفعل وبعد أن تحدثت معه وقلت له ما سمعته لم يهتم بالإنجاب ولكنه لم يتخل أيضا عن الجواري حتى مرضت نيغار.
لقد اعتقدت عمتي أن إبراهيم يحبها لدرجة أن يستغنى عن الجواري كما فعل عثمان لأجل ليلى وشمس، إلا أن إبراهيم لم يتخل يوما عن الجواري، لكنها اعتقدت أنه يحبها وسيتخلى عنهن إلا أن ذلك لم يحدث. ظلت تغار منهن وتحاول أن تبعدهن عنه، وهو يعاند ويتمسك بوجودهن معه.
لم تعلم عمتي سبب عدم إنجابها بعد خديجة رغم محاولاتها المستميتة لتحمل مرة أخرى، لقد حاولت مرارا وكانت تحمل ويجهض حملها، وما إن تعلم أن جارية من جواري إبراهيم تحمل في أحشائها جنينا منه، حتى تكتوي بنار الغيرة وتشعر بالراحة إذا ما أجهضت الجارية ولكنها لم تعرف سببا لذلك.
وكان خروجي من القصر سببا لراحتها حيث لم تعد قادرة على متابعة ابنتها ومتابعتي لقد أنهكها الإجهاض والغيرة على إبراهيم وأعياها مرض لم نعرف له سبب، كانت خديجة وصلت لسن الخامسة عشرة من عمرها وكنت أنا في الثامنة عشرة من عمري، وظل المرض يأكل من جسد عمتي وينهكه، هنا قررت أن أتقدم لخديجة لأتزوجها؛ لكي أستطيع رعاية عمتي وأحاول أن أشفيها من ذلك المس الملعون الذي تملك منها بسبب ذهابها للشيخ المشعوذ ليعمل لها حجابا لتنجب.
لم يخف هذا الشيخ منها أو مني عندما علم أنها عمتي؛ لذا قدم لها سحرا أسود ومسها مس من الشيطان ولم تدرك هي ذلك. أدركت أنا ذلك بعد ذهابها مباشرة ولم تلبس أن مرضت وأنهكها المرض؛ لذا كان لابد لي من التواجد معها ومحاولة فك هذا العمل وعلاج المس الذي أصابها.
كان إبراهيم يشعر أن خطبا ما في عمتي ولكنه لم يدر ما هو، ولم يتوقع أبدا أن تخرج حافظة القرآن من منزله دون علمه لتذهب لمشعوذ طلبا للحمل، كيف نست نيغار أن الأطفال رزق من المولى عز وجل وأنها إرادته ومشيئته ونست قوله ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾، كيف نست حافظة القرآن أن المشعوذين والسحرة غير ذي جدوى وأن الله هو الرزاق العليم، كيف نست النهي عن الذهاب لساحر أو مشعوذ. لم يعرف إبراهيم أنها فعلت كل ذلك دون علمه، ولكنه علم ذلك فيما بعد، ولكنه قدر حبها له وغيرتها عليه ومرضها الشديد.
وافق إبراهيم على زواجي من خديجة حتى لا يضر تواجدي في القصر أحدا، وأعتق جميع جواريه؛ حتى لا تغار عليه نيغار مرة أخرى وتفعل ما فعلت، خاصة أن وجود الجواري كان سببا في ذهاب نيغار لذلك المشعوذ.
تزوجت من خديجة وعشت في القصر، لم أشتري جواري، وعكفت في بداية زواجي على علاج عمتي وطرد تلك الشياطين التي مستها، طلبت منها التوبة عما فعلت والرجوع إلى الله عز وجل، وسامحها إبراهيم وكان طرد تلك الشياطين من أبشع ما مر بي في حياتي.
بعد أن عالجت عمتي من المس الذي أصابها، حملت خديجة بابني الذي أطلقت عليه عثمان، وذاعت شهرتي في مجال طرد الأرواح الشريرة والشياطين ومعالجة الناس ولا أعرف كيف حدث ذلك. كنت أقوم بذلك في مبنى الضيافة بالقصر، لم أرد يوما من أصيب بسحر ولكني لم أقم بسحر لأي شخص.
ولد ابني عثمان في عام 1840 وكنت أنا أبلغ من العمر ثلاث وثلاثين سنة، وكان عمر خديجة احدى وثلاثين سنة. لم يتركني ذلك الشيخ المشعوذ في حال سبيلي، بل أطلق ورائي شياطين الإنس والجن، تحصنت بالله؛ فكان حسبي ووكيلي وكنت أعلم علم اليقين أن النافع هو الله وكنت دائم اللجوء له. عانيت كثيرا بسبب ذلك الشيخ وما يفعله لإجباري على العمل لصالحه، ولكني لم أكن لأغضب ربي يوما؛ ولا أعرف كيف مات ذلك الشيخ في تلك الأثناء، ولكني ووجدت كل الجان الذين سخرهم تحت إمرتي وسيطرتي، أمرتهم آنذاك بفك كل السحر الذي قام به ذلك الشيخ، ومعالجة المس الذي تسبب به بأعماله في ضرر البشر، وبعدها أعتقتهم جميعا بعد أن هداهم الله وأصبحوا مسلمين.
ولكني كنت أود في الحقيقة معرفة لماذا تحولوا بعد وفاته لخدمتي وتنفيذ أوامري، وهو ما ألح عليّ كثيرا في تلك الفترة؛ فسألت إدريس أن يتقصى ويعرف سبب خدمتهم لي وفاة ذلك الشيخ، وكانت المفاجأة؛ لقد كان آخر أمر لذلك المشعوذ لهم أن يكونوا طوع أمري وينفذوا كل ما آمرهم به. ولكن السؤال الذي لم يستطع أحد خدامه الإجابة عنه، هل كان يعرف حقا أني سآمرهم بفك كل سحر وعمل قام هو به؟ وإن كان يعلم ذلك، هل كان بالفعل يود ذلك ويريده؟ كلها كانت أسئلة تجول بخاطري وللأسف لم أعرف يوما الإجابة عنها.
شفيت نيغار بعد معاناة طالت لسنوات واستغرب إبراهيم ما حدث، ولكنه كان يعلم إني أمتلك من الملكات الكثير، وأنها ملكات لم تتاح لأحد يعرفه، وليست بالتي يسهل على صاحبها أن يخبر الجميع أنه يمتلكها. ولكن خديجة لم تستطع تقبل ذلك؛ وكانت تشعر بحزن شديد وتوفت فور ولادتها لولدي عثمان ولم تظهر لي، تبعها إبراهيم ثم نيغار.
وجدت نفسي أرعى وحدي عثمان وأملاك ما عدت أحصي أولها وآخرها، وخدم من الجان يزيدون كل يوم حتى أصبح القصر لا يكفيهم. كانوا جميعا من الجان المسلم، طلبت منهم الذهاب للحج وفعلوا، طلبت منهم أن يكونوا من خدام الحرم المكي ففعلوا، ولكنهم كانوا يصرون على زيارتي كل حين.
ربيت ولدي عثمان وعلمته في الأزهر الشريف، وكنت أصر على أن يحفظ القرآن الكريم، وعلمت من خدام الجان أنه مثلي يرى ويسمع الجان والأرواح؛ لذا آثرت أن نتكلم صراحة في ذلك الموضوع، وطلبت منه ألا يخبر أحدا –خاصة عندما عرف كلانا أن خدام الجان سيكونون ضمن ما يتوارثه نسلنا، ولا أعرف حتى الآن إن كانت نعمة أم نقمة –لأن ذلك قد يجلب له متاعب هو في غنى عنها.
لم يعرف أحدا سرنا الصغير، وكنا نستمتع أحيانا عندما نرى كذب الأفراد علينا ونحن نعرف ماذا قالوا وماذا فعلوا. أن تعرف وتسمع قولهم الذي يقولوه من خلفك وتتظاهر بأنك لا تعرف يعطيك قوة تحبها، تشعر أن لوجودك مهابة في نفوسهم؛ لذا يكذبون في حضرتك من هيبتك، ولكنك تتعلم ألا تثق أبدا بهم.
كبر ولدي عثمان ووصل لسن البلوغ وتلا هو الآخر العهد، كنا نعمل معا في إدارة أملاكنا. وكما هي سنة الحياة تزوج ولدي عثمان في سن التاسعة عشر من زوجة مصرية كان اسمها هدى وأنجب ولدا واحدا هو إبراهيم، وأيضا توفت هدى فور ولادة إبراهيم، وتزوج أبراهيم هو الآخر وأنجب توفيق وتوفت زوجته عقب ولادتها لتوفيق، أما توفيق فأنجب ابنته آمال ولكنه هو من  توفى جراء تعذيبه في المعتقل عندما كانت ابنته في الثامنة من عمرها. كيف عرفت ذلك، يبدو أنك تنسى أني أطوف وأجوب الأزمنة كلها وأظهر أنا وعثمان والدي وزوجه ليلى.



الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...