عندما تركني إبراهيم ليذهب لذلك الشيخ المشعوذ في غرفة الضيوف، ظهر لي
عثمان على الفور وقال لي أن ليلى مع السيدات فلا أخاف عليهن، أن عليّ الآن وقف ما
يجري بسبب سوء تقدير إبراهيم للأمور؛ حيث نشبت النيران في كل مكان هنا وهناك، كما
شعر إبراهيم بمن يقيده في مكانه، وتعالى صوت صراخ النساء في الأعلى وكل ما في
القصر تمسك به النيران.
وجدت عثمان ينادي على شخص يدعى إدريس ويطلب منه حماية المكان وتطهيره
من الجان غير المسلم ولكن إدريس قال له أني لم أقرأ العهد بعد، وأني لم أبلغ الحلم
لأتلوه، فكان التفاوض مع إدريس أن أتلو العهد الآن وأحظى بحماية إدريس وقبيلته كما
حَظِيَ بها والدي وأجداده من قبلي على أن تكون الحماية من أذى الجان والأعمال
السفلية، وأنهم غير موكلين بغير ذلك. إلا أن إدريس رفض وقال لي "اقرأ ما
تيسر لك من القرآن يا إسماعيل وموعدنا عند بلوغك الحلم".
لم أعلم كيف وصل المصحف إلى يداي وفتح على صفحات وآيات بعينها
لأتلوها، وكيف سمع الجميع صوتي يرج الأجواء وكأني أتلوه من فوق السماوات السبع، لم
يستوعب عثمان ما يحدث ولكن ليلى كانت تشعر بالخوف الشديد عليّ وعلى شمس وإبراهيم.
ومثلما حدث معي حدث مع إبراهيم حيث وجد من يحرر قيد يده ويناوله المصحف دون أن يرى
من هو ذلك الشخص والمصحف يفتح على نفس الآيات التي أتلوها، وعندما انتهينا من
تلاوتها كانت النيران قد خمدت وعاد كل شيء في موضعه، تكلمت مع عثمان وطلبت منه أن
تنسى النساء ما حدث، فهن غير قادرات على فهمه. وطلب عثمان من إدريس أن يتحول ما
حدث لذكرى كابوس راودهن في أحلامهن، وبالفعل نامت النساء دون سابق إنذار ودون أن
يشعرن وكل واحدة تستيقظ تظن أن ما رأته كان كابوسا.
فهمت وأدركت أنا وإبراهيم الدرس، إن حفظ النفوس من الله وليس من إنس
ولا جان وتذكرنا حديث رسولنا الكريم {عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنت
خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً فقال: ((يا غلام إني
أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا
استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا
بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه
الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. } وعلمنا جيدا أن الضر والنفع من الله وليس من الأشخاص، ندم إبراهيم على
فضح أمري لذلك المشعوذ، ولكني طمأنته، بنفس الحديث.
أما المشعوذ فقد خرج عندما وجد المصاحف تتلى في ذلك البيت، وجد الجان والشياطين
التي يسخرها له تحترق من أولها لآخرها، لم يتوقع أن تكون الحماية من الله عز وجل،
ظن أن عثمان سيستعين بجان إدريس وهو تحضر لهم جيدا. وكان إدريس يعلم ذلك، ويعلم أن
الحفظ والحماية من الله عز وجل، فساعدني أنا وإبراهيم في قراءة آيات الاستعاذة من
الشياطين وطلب معونة الله وحفظه.
وعندما وصلت لسن البلوغ، وجدت عثمان يظهر لي مع إدريس، ووجدت عثمان
يتلو عليّ العهد الذي بينه وبين إدريس وقبيلته، وطلب مني تلاوته. قال لي إدريس وقتها
أنه موكل بالجان والأعمال السفلية ولكن البشر ليس له عليهم سلطان، لم أحتج بعد
الدرس الذي تعلمه لحماية جان، كنت على يقين أن الحامي هو الله، ولكني تلوت العهد واستعددت
لما أنا مقدم عليه.
لم يعلم أحد أني كنت أرى منذ وعيت على هذه الدنيا عثمان وليلى وإدريس
والجان وأطياف أخرى كثيرة، لقد كنت أشعر كثيرا وأنا نائم بيد حانية تربت على كتفي،
شعرت معها بالحب والأمان رغم أنها لم تكن يد بشر ولكنها يد أنثوية كانت تسهر
بجانبي أثناء النوم وتربت على كتفي كلما راودني كابوس ما، وكلما مرضت كنت أعلم
أنها ليلى.
وعندما وصلت لسن البلوغ –وبعد أن تلوت العهد –طلبت من خالي أن أذهب
لأعيش في الاستراحة التي بناها من قبل لمباشرة أعمال جدتي –رحمها الله. لقد توفت
والدتي وجدتي منذ عام واحد كان عمري وقتها أربعة عشرة سنة، توفيتا معا في نفس
الشهر تقريبا توفت والدتي وقبل الأربعين تبعتها جدتي، أصيبت والدتي بحمى شديدة
أودت بحياتها، إلا أن جدتي نامت ولم تستيقظ.
لم يظهر طيف أي منهما منذ وفاتهما ولا أعلم لماذا، ولكن استمر عثمان
وليلى في الظهور، ووجدت أن من الأفضل أن أعيش بمفردي لكي أترك حرية الحركة في
القصر لخديجة ولا أكتم حريتها بوجودي هناك. وأيضا لكي أكون حرا في حركتي أنا الآخر
وفي التحدث مع نفسي ومع عثمان وليلى وإدريس وقبيلته.
لم تنشغل عمتي نيغار كثيرا بتركي القصر وتفضيلي الحياة في الاستراحة،
حيث انشغلت بأمور أخرى؛ منها شراء إبراهيم للجواري كل حين، وأيضا ما يحدث كلما
حملت جارية من إبراهيم حيث يجهض حملها بلا سبب، كان هناك أمر آخر هي الأخرى لم
تنجب منذ أنجبت خديجة.
تحدثت مع إبراهيم في ذلك الموضوع، كان يظن أن نيغار وراء إجهاض
الجواري، ولكني سمعت من يهمس في أذني ويطلب مني أن أخبره أنه لن يكون له من
الأولاد غير خديجة، وليحمد الله عليها. وبالفعل وبعد أن تحدثت معه وقلت له ما
سمعته لم يهتم بالإنجاب ولكنه لم يتخل أيضا عن الجواري حتى مرضت نيغار.
لقد اعتقدت عمتي أن إبراهيم يحبها لدرجة أن يستغنى عن الجواري كما فعل
عثمان لأجل ليلى وشمس، إلا أن إبراهيم لم يتخل يوما عن الجواري، لكنها اعتقدت أنه
يحبها وسيتخلى عنهن إلا أن ذلك لم يحدث. ظلت تغار منهن وتحاول أن تبعدهن عنه، وهو
يعاند ويتمسك بوجودهن معه.
لم تعلم عمتي سبب عدم إنجابها بعد خديجة رغم محاولاتها المستميتة
لتحمل مرة أخرى، لقد حاولت مرارا وكانت تحمل ويجهض حملها، وما إن تعلم أن جارية من
جواري إبراهيم تحمل في أحشائها جنينا منه، حتى تكتوي بنار الغيرة وتشعر بالراحة
إذا ما أجهضت الجارية ولكنها لم تعرف سببا لذلك.
وكان خروجي من القصر سببا لراحتها حيث لم تعد قادرة على متابعة ابنتها
ومتابعتي لقد أنهكها الإجهاض والغيرة على إبراهيم وأعياها مرض لم نعرف له سبب،
كانت خديجة وصلت لسن الخامسة عشرة من عمرها وكنت أنا في الثامنة عشرة من عمري، وظل
المرض يأكل من جسد عمتي وينهكه، هنا قررت أن أتقدم لخديجة لأتزوجها؛ لكي أستطيع
رعاية عمتي وأحاول أن أشفيها من ذلك المس الملعون الذي تملك منها بسبب ذهابها
للشيخ المشعوذ ليعمل لها حجابا لتنجب.
لم يخف هذا الشيخ منها أو مني عندما علم أنها عمتي؛ لذا قدم لها سحرا
أسود ومسها مس من الشيطان ولم تدرك هي ذلك. أدركت أنا ذلك بعد ذهابها مباشرة ولم
تلبس أن مرضت وأنهكها المرض؛ لذا كان لابد لي من التواجد معها ومحاولة فك هذا
العمل وعلاج المس الذي أصابها.
كان إبراهيم يشعر أن خطبا ما في عمتي ولكنه لم يدر ما هو، ولم يتوقع
أبدا أن تخرج حافظة القرآن من منزله دون علمه لتذهب لمشعوذ طلبا للحمل، كيف نست
نيغار أن الأطفال رزق من المولى عز وجل وأنها إرادته ومشيئته ونست قوله ﴿لِلَّهِ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء
إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا
وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾، كيف نست حافظة القرآن أن المشعوذين والسحرة غير ذي جدوى وأن الله هو
الرزاق العليم، كيف نست النهي عن الذهاب لساحر أو مشعوذ. لم يعرف إبراهيم أنها
فعلت كل ذلك دون علمه، ولكنه علم ذلك فيما بعد، ولكنه قدر حبها له وغيرتها عليه ومرضها الشديد.
وافق إبراهيم على زواجي من خديجة حتى لا يضر تواجدي في القصر أحدا،
وأعتق جميع جواريه؛ حتى لا تغار عليه نيغار مرة أخرى وتفعل ما فعلت، خاصة أن وجود
الجواري كان سببا في ذهاب نيغار لذلك المشعوذ.
تزوجت من خديجة وعشت في القصر، لم أشتري جواري، وعكفت في بداية زواجي
على علاج عمتي وطرد تلك الشياطين التي مستها، طلبت منها التوبة عما فعلت والرجوع
إلى الله عز وجل، وسامحها إبراهيم وكان طرد تلك الشياطين من أبشع ما مر بي في
حياتي.
بعد أن عالجت عمتي من المس الذي أصابها، حملت خديجة بابني الذي أطلقت
عليه عثمان، وذاعت شهرتي في مجال طرد الأرواح الشريرة والشياطين ومعالجة الناس ولا
أعرف كيف حدث ذلك. كنت أقوم بذلك في مبنى الضيافة بالقصر، لم أرد يوما من أصيب
بسحر ولكني لم أقم بسحر لأي شخص.
ولد ابني عثمان في عام 1840 وكنت أنا أبلغ من العمر ثلاث وثلاثين سنة،
وكان عمر خديجة احدى وثلاثين سنة. لم يتركني ذلك الشيخ المشعوذ في حال سبيلي، بل
أطلق ورائي شياطين الإنس والجن، تحصنت بالله؛ فكان حسبي ووكيلي وكنت أعلم علم
اليقين أن النافع هو الله وكنت دائم اللجوء له. عانيت كثيرا بسبب ذلك الشيخ وما
يفعله لإجباري على العمل لصالحه، ولكني لم أكن لأغضب ربي يوما؛ ولا أعرف كيف مات
ذلك الشيخ في تلك الأثناء، ولكني ووجدت كل الجان الذين سخرهم تحت إمرتي وسيطرتي،
أمرتهم آنذاك بفك كل السحر الذي قام به ذلك الشيخ، ومعالجة المس الذي تسبب به
بأعماله في ضرر البشر، وبعدها أعتقتهم جميعا بعد أن هداهم الله وأصبحوا مسلمين.
ولكني كنت أود في الحقيقة معرفة لماذا تحولوا بعد وفاته لخدمتي وتنفيذ
أوامري، وهو ما ألح عليّ كثيرا في تلك الفترة؛ فسألت إدريس أن يتقصى ويعرف سبب
خدمتهم لي وفاة ذلك الشيخ، وكانت المفاجأة؛ لقد كان آخر أمر لذلك المشعوذ لهم أن
يكونوا طوع أمري وينفذوا كل ما آمرهم به. ولكن السؤال الذي لم يستطع أحد خدامه
الإجابة عنه، هل كان يعرف حقا أني سآمرهم بفك كل سحر وعمل قام هو به؟ وإن كان يعلم
ذلك، هل كان بالفعل يود ذلك ويريده؟ كلها كانت أسئلة تجول بخاطري وللأسف لم أعرف
يوما الإجابة عنها.
شفيت نيغار بعد معاناة طالت لسنوات واستغرب إبراهيم ما حدث، ولكنه كان
يعلم إني أمتلك من الملكات الكثير، وأنها ملكات لم تتاح لأحد يعرفه، وليست بالتي
يسهل على صاحبها أن يخبر الجميع أنه يمتلكها. ولكن خديجة لم تستطع تقبل ذلك؛ وكانت
تشعر بحزن شديد وتوفت فور ولادتها لولدي عثمان ولم تظهر لي، تبعها إبراهيم ثم نيغار.
وجدت نفسي أرعى وحدي عثمان وأملاك ما عدت أحصي أولها وآخرها، وخدم من
الجان يزيدون كل يوم حتى أصبح القصر لا يكفيهم. كانوا جميعا من الجان المسلم، طلبت
منهم الذهاب للحج وفعلوا، طلبت منهم أن يكونوا من خدام الحرم المكي ففعلوا، ولكنهم
كانوا يصرون على زيارتي كل حين.
ربيت ولدي عثمان وعلمته في الأزهر الشريف، وكنت أصر على أن يحفظ
القرآن الكريم، وعلمت من خدام الجان أنه مثلي يرى ويسمع الجان والأرواح؛ لذا آثرت
أن نتكلم صراحة في ذلك الموضوع، وطلبت منه ألا يخبر أحدا –خاصة عندما عرف كلانا أن
خدام الجان سيكونون ضمن ما يتوارثه نسلنا، ولا أعرف حتى الآن إن كانت نعمة أم نقمة
–لأن ذلك قد يجلب له متاعب هو في غنى عنها.
لم يعرف أحدا سرنا الصغير، وكنا نستمتع أحيانا عندما نرى كذب الأفراد
علينا ونحن نعرف ماذا قالوا وماذا فعلوا. أن تعرف وتسمع قولهم الذي يقولوه من خلفك
وتتظاهر بأنك لا تعرف يعطيك قوة تحبها، تشعر أن لوجودك مهابة في نفوسهم؛ لذا
يكذبون في حضرتك من هيبتك، ولكنك تتعلم ألا تثق أبدا بهم.
كبر ولدي عثمان ووصل لسن البلوغ وتلا هو الآخر العهد، كنا نعمل معا في
إدارة أملاكنا. وكما هي سنة الحياة تزوج ولدي عثمان في سن التاسعة عشر من زوجة
مصرية كان اسمها هدى وأنجب ولدا واحدا هو إبراهيم، وأيضا توفت هدى فور ولادة
إبراهيم، وتزوج أبراهيم هو الآخر وأنجب توفيق وتوفت زوجته عقب ولادتها لتوفيق، أما
توفيق فأنجب ابنته آمال ولكنه هو من توفى جراء
تعذيبه في المعتقل عندما كانت ابنته في الثامنة من عمرها. كيف عرفت ذلك، يبدو أنك
تنسى أني أطوف وأجوب الأزمنة كلها وأظهر أنا وعثمان والدي وزوجه ليلى.