الأربعاء، 30 ديسمبر 2015

الخاتمة -أطياف من الماضي

لقد وعدتكم أن أعود لكم بعد أن ينتهي أبطال الرواية من حكايتهم وتركتهم جميعا يحكون ما مر بهم، إنها حياتهم كما عاشوا أحداثها منذ أول يوم حتى آخر يوم. كيف عرفت أنهم عاشوا تلك الحياة وتلك الأحداث، وكيف أصدق كل حرف قاله هؤلاء، أقول لك ذلك لأني أنا شمس زوجة عثمان وجدة هؤلاء، ظهرت لعقيلة بضعة مرات وعدد زهيد من المرات لإسماعيل وتوفيق ولكني لم أترك آمال أبدا.
لقد كانت أرق واحدة في تلك العائلة، وكانت تملك من القدرات ما تحتاج معه الحماية والإرشاد ولم يكن ذلك ممكنا ما لم نكن معها أنا وليلى منذ البداية، أن تعتاد على وجودنا في حياتها، أعرف أن عقيلة وتوفيق غير قادرين على حمايتها مما تراه وتسمعه، غير قادرين على استيعاب قدراتها الخارقة.
أذكر كيف بكى توفيق عندما علم أنها ترى الجان والأشباح والشياطين، كيف خاف عليها عندما اختطفها ذلك اللعين الملعون، لم يكن ملك الجان، تركتها تعتقد ذلك حفاظا عليها مما يمكن أن يصيبها لو علمت الحقيقة، لقد كان إبليس هو من طلبها للزواج انتقاما منا ومنها، ولكنها أحرقته بقراءتها القرآن وعدم خوفها منه، علم إدريس ذلك وطلبت منه كتمان الأمر ومحاولة حمايتها والتأكد من تحصين البيت.
كان مدخل إبليس لها حبها ليوسف عندما تشكل لها في هيئة يوسف، ذلك الشاب الجميل الوسيم الغني الذي تحلم به أي فتاة، يسكن في قصر كبير في منطقة راقية ولكنها نائية بعض الشيء، وكان اسمه يوسف كي يذكرها بجدها يوسف الذي نقض عهده معه وتاب عن كفره واستغفر وآمن بالله رب العالمين.
طلبت من إدريس أن يرسل لها من ينبهها لضرورة تحصين نفسها، وتشكل لها في هيئة الأستاذ عبد الرحمن، كان لابد لها أن تفهم أن هيئة الإنسان ليست للإنسان وحده وكان عليها أن تحذر، وأن تحافظ على نقاء قلبها وطهارته.
يوم قتلها كان موعدها لا يمكن لأحد الوقوف أمام القدر، إنها ساعتها وموعدها. انتقم منها ابليس ولكن هناك ألف آمال، المؤمنون دائما وأبدا هنا وهناك. ونصيحتي لك، لا تأمن لأي شخص ولا لأي طيف، واعتمد على ربك ولكن لا تتواكل، السحر موجود والجان موجود وكذلك أطياف الماضي.

تمت

الاثنين، 28 ديسمبر 2015

آمال -الفصل الثالث والعشرون (أطياف من الماضي)

بعد ما حدث لي أدركت حقيقة واحدة، لن أستطيع الزواج والإنجاب كما البشر، كنت أعلم أني لن أنجب من ليلى وشمس لأني آخر نسل عائلتي، ولكني لم أكن أعرف أني سآخذ قرار عدم الزواج بنفسي. كانت مواهبي نقمة عليّ، كنت أتألم وأنا أرى وأسمع ما يقال عني من أفظع الكلام ومن الحقد الذي تشعر به النساء لجمالي وخوفهم من انعزالي عنهم.
كنت استاء مما أسمعه من كلام زملائي من الرجال عني ووصفهم لجسدي، كانوا ينتهكونني لفظيا، كنت أرى نظرات الاشتهاء، وأكظم غيظي كي لا أخالف وصية والدي ويحل عليهم عقابي، من الصعب على أي فتاة أن تتحمل أن تعريها نظرات الرجال ولعابهم الذي يسيل فور رؤيتها.
اكتفيت بأطياف الماضي لعائلتي وأحببتها وعشنا سويا، رأيت العديد من التغيرات التي تحدث، ولكني كما عهدتني وعهدت عائلتي نمقت كل ما هو عسكري، لذا لن أذكر لهم أية محاسن، كفى انتشار الجهل والأمية وانتشار المشعوذين والدجالين وانتشار كتب السحر الأسود. لم يعد العلم الديني متاح، وانتهت الأخلاق والرجولة والنخوة وسادت العادات الغربية والغريبة، أصبح التدين تطرف، والعادات والتقاليد رجعية وتخلف، لم يعد هناك ضابط للتصرفات، وانتشر السحر والسحرة وساد الفساد، ولم يعد لأمثالي مكان في عالمكم حتى أطياف الماضي استاءت مما رأت وعاشت وقررت أن تظل في الماضي ولا تذهب للمستقبل.
مع اختلاف الحياة كبرت ومرت أيامي مع أطيافي من الماضي ومع إدريس، وظهرت الخصل البيضاء وظهرت التجاعيد في وجهي، حاولت أن أداريها بشتى الطرق ولكن هيهات، يأبى العمر إلا أن يظهر نفسه، سأذهب لعملي الآن لآخر مرة، اليوم حفل تكريمي لوصولي سن المعاش، كنت محبوبة من زملائي وزميلاتي ومكروهة من البعض الآخر، كنت أعرف ما يقال وأسمعه ولكني مع الوقت تعلمت الصفح والنسيان والغفران.
كم أتمنى أن أصبح أنا الأخرى طيفا من الماضي، أشعر أنني سأصبح ذلك الطيف اليوم، ولكن متى وكيف لا أعرف، سأذهب لعملي اليوم في المواصلات كما اعتدت أن أذهب.
وصلت لعملي وحضرت حفلة تكريمي، وفرحت كثيرا بمحبة زملائي لي، كم أحببتهم كإخوة لي، وكم كنت أمقت تكبر بعضهم وغروره، ولكن يغلب الحب في النهاية. حضر والدي ووالدتي وشمس وليلى وإدريس وإسماعيل وعثمان حفل تكريمي ولكن مهلا من هذا؟ إنه يوسف يجلس مثل آخر مرة رأيته فيها في العمل بجانب فتاة جميلة صغيرة، يا ويلتي لقد ابتسم لي وفتح مجال أفكاره ليقول لي: "قبلت بي لأتزوجها لا تملك كل مهاراتك وإمكاناتك ولكني منحتها كل شيء مقابل أن تكفر بالله وتقتلك وهي قد فعلت"، في تلك اللحظة وجدت خنجرا ينغرس في قلبي والجميع يجري ليبعد تلك المجنونة عني، زائغة النظرات كانت تبحث عن يوسف الذي اختفى فور غرسها الخنجر في قلبي، قلت الشهادة ووجدتني طيفا أحلق عاليا مع أطياف الماضي وتحررت من جسدي ومعاناتي.

تسأل عن مصير تلك الفتاة، أمرت النيابة بحبسها على ذمة التحقيق لفترة وأثبت محاميها أنها مجنونة حتى اختفت من سراي النيابة ولا يعرف أحد أين ذهبت ولا كيف اختفت ولكني كنت أعرف، لقد تزوجت من ذلك اللعين وتوجت ملكة لمملكته، وكنت أنا أول قربان لها، ومازالت هي تبحث عن قرابين لترضي الملك ولتظل الملكة المتوجة ولكن إلى متى ستظل الملكة، لابد أن يأتي أجلها وهنا كيف ستقابل ربها بعد أن أشركت به، هي لا تعرف و لا تشغل بالها بتلك الأسئلة، أما أنا فهنا أسعد بقرب أحبابي وأهلي جمعتنا طاعة الله قبل الموت وجمعتنا طاعته بعد الموت ولم نفترق فلك الحمد كل الحمد يا الله حتى ترضى.

انتظروا الخاتمة بعد غد إن شاء الله تعالى

السبت، 26 ديسمبر 2015

آمال -الفصل الثاني والعشرون (أطياف من الماضي)

بعد وفاة والدي ومعرفتنا مكانه، دفناه وأخذنا العزاء –الذي لم يحضره غير والدتي وجدتي وجدي –لم يحضر أي من الجيران العزاء، خاف الجميع ووجدنا أنفسنا وحيدين. كنت أسمع ما يقوله الجيران عنا، البعض يشفق علينا والبعض يحقد على أبي، وأكثر ما كان يزيد حنقي من كان يطمع في والدتي ويرى أنها أصبحت صيد سهل.
ومر عام وفاة والدي بصعوبة، خففها ظهور والدي المستمر لنا، لم يكن والدي يعلم العذاب الذي أعانيه جراء رؤيتي وسماعي لما يحدث خلف الأبواب المغلقة، وما يحدث مع أي شخص أرغب أن أعرف ماذا يفعل الآن. في البداية كنت أتابع أصدقائي وأعرف ماذا يقولون عني، ومنها سمعت ما قالته المعلمة عني وعن والدي، ومنذ ذلك الحين أصبحت أسمع الكبار وأتابع ما يقولوه عني وعن أبي وعن أمي. كنت أنتظر يوم بلوغي لكي أتلو العهد، كنت أريد أن أسأل إدريس عما أمر به، ولكني قررت أن أبوح بذلك لليلى. في تلك الفترة كانت والدتي تبحث عن عمل، وذهبت لأكون مع جدتي وأظل معها حتى عودة والدتي من المستشفى.
كانت والدتي قد قدمت لوظيفة ممرضة في أحد المستشفيات، وظلت فترة تحت الاختبار والتمرين للتأكد من صلاحيتها للعمل، وبعد مكوثها هناك لمدة أسبوع قبلت للعمل بالمستشفى، وكان من المقرر أن تتسلم عملها في أول الشهر الجديد. ولكن حدث ما لم يكن على بالها، عندما كانت هناك أول يوم بالمستشفى لتدريبها على العمل بالمستشفى دخل شاب ظن الجميع أنه يعاني الصرع ولكن الحقيقة اكتشفتها والدتي إنه يعاني من المس وكان لابد من الاختلاء به لكي في غرفة الكشف لكي تخرج ما به لبس، ولكن أمي المسكينة لم تكن تعرف ما يقوم به لوالدي لفك ذلك، لم تتلو العهد على الجن ولكنها حرقته، وكان لابد لقبيلته من الانتقام.
رأيتهم وهم يتكلمون ويقررون بعد أن أخذوا جثة ولدهم من المستشفى قرروا الانتقام من والدتي وأن يبدأ الانتقام بقتل كل أقاربها وكانت البداية جدي وجدتي، ثم أنا، ثم تعذيبها حتى تموت. قرأت القرآن وكانت معي ليلى وشمس، كنت في الغرفة وكان لابد لي من سرعة التصرف كي أنقذ جدي وجدتي ولكني لم أكن بالسرعة الكافية، لقد كانوا أسرع مني، قتلوا جدي وجدتي قبل مرور أربعين والدي.
كنت أشعر أني السبب فيما حدث لهما، ولكن والدتي قالت لي أن هذا قدرهما وقدرها أن تعيش وحدها ترعاني، وظهر لها والدي كي تخرج لي صحيح الكتب ونادر المخطوطات الدينية لكي أقرأ بها. ساعدتني أمي كي أقرأ كثيرا وأصادق الكتب، ولكن كانت عندي مشكلة، قاربت على البلوغ ولا أريد أن يراني في غرفتي أية كائنات أو أشباح أو حتى أطياف لا تحل لي، ولكن ما العمل؟ تحدثت مع ليلى وشمس وكان الحل هو تحصين غرفتي كما حصن والدي غرفته، وبالفعل ساعدتني ليلى على قراءة القرآن وتحصين غرفتي بالأدعية، ولم يدخلها منذ ذلك الحين شبح أو طيف أو أية كائنات أخرى.
مرت بي السنون وانتصر الجيش في حرب 1973، وتغيرت الأحوال ودخلنا في عهد الانفتاح، وأصبح الجشع ميزة تلك المرحلة. اكتشفت وقتها أن المشكلة ليست في الحاكم ولكنها في المحكومين، إنهم هم من رضى بالظلم وهم من أرتضى جشع غيرهم وتحكمهم في مصائرهم، ومنذ ذلك التحول على المستوى السياسي والمجتمعي، حاول بعض الجيران التقرب من والدتي، كنت أسمع من بعضهم الخوض في شرفها والبعض الآخر يكذب ويقول على والدتي ما لم يحدث.
كنت في ذلك الوقت قد بلغت وتلوت العهد، بعدها قال لي إدريس أن لدي من القدرات ما يصعب على بشر تحمله، وعليّ أن أحذر في استخدامها. لم أفهم كلام إدريس في ذلك الوقت، ولكني فهمته عندما سمعت ذلك الوغد يذكر أمي بالسوء، ويتهمها أنها عاشرته شعرت بغليان في دمي وازداد حنقي عليه، وتمنيت لو مات مختنقا باللحم الميت الذي يخوض فيه، ورأيته بالفعل وهو مع أصدقائه يشعر بأعراض الاختناق الشديد وبدأ يستغيث بهم لإنقاذه، ولكن لم يستطع أحد إنقاذه واستغرب الجميع عندما ذهبوا به للمستشفى وأخرجت كمية كبيرة من اللحم النيء المتعفن من حلقه. لقد مات الوغد كما تمنيت بالفعل أن يموت، شعرت بالفرحة الغامرة لانتقامي لأمي، هنا ظهر والدي وعليه علامات الأسى، شعرت بحزنه، ولكني لم أعرف سبب ذلك.
تكلمت مع والدي كي أفهم سبب الأسى الذي يشعر به، وهنا علمت لأول مرة قدرتي على الانتقام عن بعد من أي شخص، أنني أستطيع أن أحقق ما أتمناه لأي شخص خيرا كان أم شرا. فرحت بعض الشيء بتلك الموهبة –لقد اعتبرتها كذلك –التي اكتشفتها للتو، أن أنتقم ممن أكره، يا لها من هبة لمراهقة مثلي، ولكن ليلى وشمس ووالدي لم يتركوني أبدا وحدي. لقد ساعدوني على اجتياز تلك المحنة وتدربت على كظم غيظي، كي لا أتسبب في إصابة أحد بالضرر حتى إذا استحق العقاب، طلب مني والدي أن أعده ألا أفعل ذلك مجددا والتزمت بوعدي قدر استطاعتي؛ فإذا وجدت عدم قدرتي على التحكم في نفسي طلبت المساعدة من ليلى ووالدي، وكان القرآن في تلك الحالة أنيسي وجليسي، كنت أجلس في خلوة والدي –التي أصبحت خلوتي فيما بعد –أقرأ القرآن كي أهدأ.
مرت المرحلة الإعدادية ودخلت المرحلة الثانوية في عام 1974 وكانت التغيرات قد بدأت في المجتمع، لقد أطلق السادات العنان للجماعات الدينية في ممارسة حياتها الطبيعية في المجتمع، ولكن الجميع نسى أن الكبت الذي حدث أيام عبد الناصر خلق موجة من التطرف الحاد في كلا الجبهتين التدين والإلحاد، تطرف الجميع وعانى المجتمع من التطرف.
كنت أراقب ما يحدث مع أمي من غرفة خلوتي، أصعب ما كنت أراه محاولة البعض التحرش بها ومحاولة البعض الآخر التقرب منها للزواج بها، ولكني كنت أسعد بردها على كلا منهما، ترد على من يتحرش بضربة قلم يفيق بها من شروده، وترد على خاطب الود بحبها لوالدي رحمه الله. إن والدتي رمز للحب والعطاء، لا أعرف كيف صمدت أمام ما واجهته وكيف لم تضعف، كان حبها لوالدي صادقا لم يفتر يوما. كنت أسمع بكائها مما تعانيه وأسمع شكواها ليلى، ولكني أكظم غيظي ممن يضايقها حتى أفي بوعدي لوالدي.
مرت الثانوية ودخلت الجامعة، التحقت بكلية الحقوق جامعة القاهرة، كنت متفوقة في دراستي ومرت السنوات وانتهت الجامعة، كنت منطوية أبتعد عن الجميع، أسمع ما يقال عني وأتغاضى عنه، أكبر عن الصغائر، أعلم أن الفتيات تقول أني مغرورة ومتطرفة لارتدائي الحجاب والبعض الآخر ينعتني بالكفر لسماعي الموسيقى، انسحبت من الحياة الجامعية واكتفيت بالكتب والمكتبة، كم وجدت صحبتها رائعة وتنأى بي عن الهموم، وتخرجت من الجامعة وكنت من العشر الأوائل؛ لذا التزمت الحكومة بتعيني فور التخرج في أحد الوزارات في الشئون القانونية، وكأن القدر كان ينتظر تخرجي وعملي حتى تفارق أمي الحبيبة جسدها وتصبح هي الأخرى طيف من الماضي أعيش معه.
عند استلامي العمل كنت ارتدي الملابس السوداء، حزنا على والدتي التي فارقت هذه الحياة وعلمتني أن أكون قوية كالجبال، ولا أقبل التنازل عن كرامتي في وجه العواصف.
كنت فتاة في مقتبل العمر عندما دخلت ذلك المكتب، كنا خمسة في المكتب أنا وعصمت وعفاف وعبد الرحمن ويوسف. عصمت وعفاف متزوجتان حديثا ولدى كل منها ابنا وابنة وهما في بداية العقد الثالث من العمر، أما عبد الرحمن فهو جد لسبعة من الأحفاد وينتظر بلوغه سن المعاش ليهنأ له الحال معهم ويستطيع أن يهنأ بالقرب منهم، أما يوسف فكان يكبرني بثلاث سنوات، لم استرح له منذ الوهلة الأولى، رغم نظرات الحب التي يرمقني بها من آن لآخر، وأزعم أني لا أرى حبه ولا نظراته، التي داعبت قلبي رغم شعوري بأن شيء ما ليس على ما يرام.
لقد توسطت عفاف لدي لكي أقبل طلب يوسف في الخروج سويا وتناول الغداء في أحد المطاعم لأنه يريد التعرف عليّ للزواج بي وأبلغتها رفضي لطلبه. وعندما عدت لمنزلي لا أعلم كيف وجدتني أرى منزل يوسف، لقد كان يعيش في فيلا كبيرة وحده، ولكن هناك جو لا يريح داخل هذه الفيلا ولا أستطيع أن أرى ما يحدث داخلها أرى الفيلا فارغة بلا أشخاص ولا أثاث، حاولت مرارا ولكن كافة محاولاتي باءت بالفشل، حتى سمعته يقول لي "لا تحاولي العبث معي، لن تستطيعي دخول عالمي متلصصة، أعلم من أنتِ وما هي إمكاناتك، لست غبيا". أعلم ذلك الصوت إنه صوت يوسف، إذن هو يعلم حقيقتي ويعلم ما أمتلكه من مواهب لذا قررت أن أتحدث معه صراحة
آمال: يا يوسف مادامت تعرفني وتعرف امكاناتي فهل كشفت لي عما تملك وماذا تريد؟
يوسف: أريد أن أتزوج بك، لكي تتحد قوانا سويا، أنا وأنت ولنحكم العالم
آمال: وإن رفضت عرضك؟
يوسف بثقة: لن تستطيعي، لن تستطيعي
واختفى صوت يوسف تماما، وانشغل بالي بكلمته "لن تستطيعي" وتأكده من ذلك، ولكني طلبت من إدريس تحري أمر يوسف والتأكد من تحصين المنزل، وكان كل شيء على ما يرام. الغريب أني اكتشفت أني أقرأ الأفكار أيضا، إذن أنا يمكنني أن أرى كافة الكائنات والأطياف والأشباح وأن أسمع وأرى خلف الأبواب المغلقة وأن أعرف كل ما أريده دون الاستعانة بإدريس أو غيره، أستطيع أن أتسبب في موت أو ضرر لمن يغضبني، أستطيع أن أكافئ من أحب، أضف لذلك إدريس والعهد.
في فترة مراهقتي كنت أحب ذلك، أحب أن أعرف ماذا يقال وماذا يحدث، كنت أحب متابعة أمي لكي أنقذها إذا ما استدعى الأمر، وفرحت بمعاقبة ذلك الوغد، ولكن لضيق والدي مما حدث كنت أكظم غيظي من البشر وأحاول قدر استطاعتي الوفاء بعهدي.
ولكن الآن إذا تزوجت كيف سأعيش مع زوجي وأنا أعرف كل أسراره دون ان يبوح بها وهو لا يعرف عني شيئا؟ كيف أستطيع أن أكون في خلوتي وأتحدث مع من أحب دون أن يثير ذلك شكوكه؟ كيف يتقبل فكرة أن أقرأ أفكاره وأجعله يقرأ أفكاري لنتحدث بلا كلمات؟ دارت في خلدي كل تلك الأسئلة التي عرفت إجابتها لقد كان يوسف محقا، لن أستطيع أن أتزوج بغيره، ولكن السؤال الأهم من هو يوسف؟ وكيف عرف عني ذلك؟ لقد سألت على يوسف عفاف وعصمت وكلتاهما لا تعرف عنه شيئا غير أنه نقل لإدارتنا قبل تعيني بعشرة أيام فقط وأرجعوا ذلك للصدفة!
أما أنا بحثت بطريقتي في أروقة الوزارة عندنا وفي الوزارات الأخرى، لا ورق ليوسف في أي مكان، لا وجود له قبل عشرة أيام، وكانت الإجابة واضحة لقد ظهر يوسف لي لكي نتزوج، من هو لا أحد يعرفه، حتى منزله في مكان خالي من الناس، ولا يذكر أحد أي من الموجودين بالقصر. تعبت من التفكير في يوسف وحكايته وإصراره على الزواج مني، خفت منه كثيرا ولكني استعنت بالله وتوضأت ودخلت خلوتي لأصلي من النفل ما استطعت حتى وجدتني عقب تسليمي من الركعة الأخيرة أدخل في سبات عميق ورأيت ذلك الحلم
"دخلت في قصر عظيم ولكنه تحت الأرض، في أسفل سافلين، سمعت صوت يوسف يناديني ويقول لي أنتِ الآن ملكي وفي مملكتي، وفجأة رأيت أني في قصر جدرانه من نار مستعرة، تخرج النار من كل جزء فيه، وهناك عرش كبير من جماجم البشر جوانبه على شكل جدي يجلس عليه من أعرف أنه يوسف ولكنه على هيئة أخرى، إنه كما قال لي ملك الجان. لقد أحبني ملك الجان، وتحدثنا سويا، لم أركع له كما طلب، وهو لم يغضب
ملك الجان: الآن وقد عرفتي من أنا، يجب أن تعرفي يا آمال أني أحببتك منذ كنت طفلة صغيرة، وأنا من حجبت عنك عذاب ذلك تلك القبيلة التي قتلت جدك وجدتك، كل ما أصابك منه كشف الحجاب وكشف المستور وقدرتك على الثواب والعقاب بمجرد التفكير، وأنا أريد الزواج بك
آمال: لا يمكنني الآن وخاصة بعد أن عرفت من أنت أن أقبل بالزواج منك، لقد نهى الله عز وجل عن الزواج بين الإنس والجن، وأنت غير مسلم
ملك الجان وقد تحول صوته من صوت يوسف الرقيق لصوت غاضب هادر: لن تجرئي على رفضي، سأسحقك وأقتلك في مكانك هذا، أنتِ لست سوى بشرية ضعيفة
لم أخف من تهديده، لم أشعر بأي خوف منذ بدء رحلتي، كان يقيني بالله أنه منقذي وسندي، لذا تركته يهذي ويهدر كما شاء وقرأت ما تيسر لي من القرآن".
أفقت ووجدتني في غرفة نومي على سريري وبجواري ليلى وشمس وتوفيق وعقيلة وإسماعيل وعثمان. التفوا جميعا حولي وشعرت بالقلق في عيونهم، لذا سألتهم عما بهم وكان ردهم جميعا أن الجن غير المسلم استطاع النفاد من حمام المنزل واختفى في ملابسي وأنا أتوضأ حتى استطاع دخول الخلوة وأنا أصلي ونزل بي تحت الأرض.
قصصت عليهم ما حدث وما رأيت، ولكن أبي لم يطمئن خاف من الثغرة التي حدثت، ولكني لم أخف لقد حماني الله من كل شر ومن كل مكروه، دلفت ليلى للخلوة ووجدت موقع الثغرة وطلبت من إدريس سد تلك الثغرة وسد الثغرة التي حدثت في الحمام، فلا يمكننا تلاوة القرآن به.
وبالفعل سدت الثغرات وعاد المنزل آمنا كما كان، وذهبت للعمل واختفى يوسف تماما. الأغرب من اختفائه عدم السؤال عنه، كأنه لم يكن موجودا منذ البداية، وكأن أحدا لم يوجد بهذا الاسم من قبل. وجدت الأستاذ عبد الرحمن يحدثني عقب اختفاء يوسف ويقول لي "احمدي الله أن نجاك من شر عظيم، حصني نفسك يا بنيتي ولا تكوني مجالا متاحا للاختراق من أي شخص". لقد قال كلماته وخرج من الغرفة، وعاد وكأنه لم يقل أي شيء، بل قال أنه يشعر بالتعب لأنه قضى أكثر من ساعة في غرفة المدير العام يطلب أشياء كثيرة ومذكرات!
شعرت في تلك اللحظة كأني في عالم آخر وبعقلي طلبت إدريس وليلى لمساعدتي في حالة الوهن التي أمر بها، لقد كان من حذرني أحد الجان المسلم الذي كان يحرسني بتكليف من إدريس ولم أفهم كيف أحصن نفسي، انتظرت صراعي المعتاد مع المواصلات وركوب حافلات النقل العام لكي أعود من عملي في السيدة زينب لمنزلي في الأباجية.

كانت الإجابة من إدريس أني لم أتعلم بعد كيف أغلق عقلي على من يحاول العبث به، لقد عبث ملك الجان –الذي عرفت فيما بعد أنه إبليس لعنه الله –بعقلي، وأصبحت كالكتاب المفتوح بالنسبة له. كان يمكنه التنكر في هيئة ليلى أو شمس أو أي طيف أثق به، ولكن ما حدث هو حفظ من الله لي، علمني إدريس وعثمان وإسماعيل كيف أغلق عقلي وأحكمه على الجميع كي لا أكون كتابا مفتوحا وتعلمت ذلك والحمد لله لم يتكرر ما حدث مع يوسف.

الأربعاء، 23 ديسمبر 2015

آمال -الفصل الحادي والعشرون (أطياف من الماضي)

اعتدت أن أرى وأسمع ما يحدث خلف الأبواب المغلقة، سمعت تعليمات يقولها شخص ذو صفة عسكرية ورتبة عالية، الجميع يخاف منه، يأمر الجميع بعدم استخدام لفظة هزيمة واستبدالها بكلمة نكسة. والجميع يلبي وذلك الكائن يحضر الاجتماع ومعه العديد من الكائنات التي تشبهه في الشكل والهيئة، يضحكون على البشر وخوفهم ومعاصيهم التي لا تعد ولا تحصى.
كنت أرى ما يحدث في خلوة أبي قبل النكسة، عندما كان يخلص أحدهم من مس أو يفك عنه عمل سيء، كنت أرى إدريس ومساعديه، وأرى غيرهم الكثير، الغريب أن تلك الكائنات الغريبة لم تقدر يوما على اختراق خلوة أبي ولا الاقتراب منها، كان آخر حد لهم هو غرفتي، ثم تحدثت ليلى بشأن ذلك مع أبي فحصن الشقة بالكامل منهم ولم يجرؤ أحدهم على أن تطأ قدماه –إن جاز أن أقول قدماه –شقتنا الصغيرة.
كنت أحفظ القرآن على يد والدي ووالدتي، وأتلقى على يديهما تعاليم ديني الحنيف، كان كلا منهما يعتمد على شرح الأسباب للمنع والنهي والأمر، لم يكتف أحدهما بمجرد أن يقول لي يجب أن نفعل ويصمت كما يفعل البعض مع أولادهم وكما يحدث معنا في المدرسة، لم يكن مسموح لنا السؤال عن الأسباب، لم يكن مسموح لنا أن نفهم، مسموح لنا فقط أن نحفظ. لا أنسى أبدا ذلك اليوم الذي سألت فيه المعلمة
آمال: هل كان جمال عبد الناصر ضابطا في الجيش؟
المعلمة: آمال لابد أن تقولي سيادة الرئيس قبل ذكر الاسم، نعم كان ضابطا في الجيش
آمال: إذن هو دخل المدرسة وتلقى التعليم، هل هذا صحيح؟
المعلمة وقد بدأت تشعر بالضيق من الأسئلة: نعم بالتأكيد، ماذا تريدين؟
آمال: كل ما أريد قوله أن الكتب تقول أن الرئيس كان ابن لأسرة فقيرة، وحضرتك ذكرتي أنك من أسرة متوسطة، وأنتِ تعلمتِ وهو أكمل تعليمه لكي يصبح ضابطا، والأكثر من ذلك أن الكتب تقول أن الجيش منع عن المصريين قبل الثورة، والرئيس وغيره من ضباط الثورة كانوا ضباطا في الجيش، الكتب تكذب
لم تتمالك المعلمة نفسها من الغضب الناتج عن حرجها من السؤال، لم يتوقع أحد أن تفكر طالبة في الصف الثالث الابتدائي وتسأل عن ذلك. كانت الهزيمة قد حدثت قبل بدء العام الدراسي، وبعد سؤالي قامت المعلمة بنهري وعنفتني بشدة وطلبت مني الجلوس ولم تسمح لي بعدها ذلك اليوم بأي سؤال.
ما حدث بعد خروجها هو ما سبب لي الحزن الشديد، لا أعرف كيف رأيتها تخرج وتذهب لأحد الضباط وتحكي له ما حدث، وكان أقرب تخمين وقتها أن هذا الكلام لقنه لي والدي لكي أنشر الشائعات وأتسبب أنا ووالدي في زعزعة أمن الدولة، ونست أن تضيف المحتلة. ورأيت ما كان يحاك لوالدي، لقد أمر الضابط بإحكام المراقبة على والدي ومتابعة كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، وبالطبع وصل له ملف والدي الذي أعد له عقب الانقلاب العسكري –والذي سلب منه كل ما يملكه بناءً عليه، وعلى جهل من أعده –وكان كلام والدي الذي كان يقوله في كل مكان ولكل شخص عن الانقلاب وسبب الهزيمة سببا وجيها لاعتقاله وقتله من وجهة نظر هؤلاء القتلة.
لقد كنت أرى الشياطين تحلق فوق رؤوسهم في كل اجتماع لهم يخص اعتقال أو قتل شخص ما، كان القتل والاعتقال وسلب الأموال والأعراض يتم بدم بارد، لا تطلب مني أن أحبهم، فلا رصيد لهم يشفع عندي. لقد نهبوا أموال والدي عقب انقلابهم، واعتقلوه وقتلوه، بعدها اضطرت أمي للبحث عن عمل لسد احتياجات المنزل والانفاق على تعليمي وعلى حياتنا.
كيف أحبهم وحياتي تحولت لسلسلة طويلة من الطوابير التي لا تنتهي، طوابير للحصول على الكساء الشتوي، وأخرى للصيفي، وثالثة للخبز، ورابعة للحوم، وخامسة وسادسة وسابعة. لقد تحولت حياتي لطوابير لا تنتهي. أضف على ذلك الكذب والافتراء الذي تحمله الكتب والمقررات الدراسية، كيف كانت مصر محتلة من العثمانيين، ومصر كانت تابعة للخلافة الإسلامية التي كان مقرها الآستانة، وانتهت الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية عام 1922، عندما طرد مصطفى كمال أتاتورك آخر السلاطين العثمانيين، لم يكن قط احتلالا، كان الاحتلال الحقيقي هو الاحتلال البريطاني والفرنسي الذي تعرضت له مصر تلاهما الاحتلال الصهيوني لها. لم يفكر هؤلاء الضباط قط في صالح البلاد والعباد، كان تفكيرهم في السلطة والصراع عليها، كم من الفظائع ارتكبت في تلك الفترة، كم من جرائم قتل وهتك أعراض، ومنكرات لا يرضى عنها رب العالمين ارتكبت باسم الثورة في تلك الفترة.
كيف أحب من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، بدعوى الحرب على الإخوان المسلمين، منذ حادث المنشية الذي وجدتني أرى كيفية التحضير له وكيف رتب له عبد الناصر ليلصق التهم بأشخاص أبرياء، كانت تلك أستطيع أن أرى فيها الماضي وما حدث به، بعد موت عبد الناصر ظهر العديد من الضباط ليكتب كل منهم مذكراته ويحكي ما حدث كما رأيته، كما حكى هؤلاء العديد من المساخر كانت حدثت في تلك الفترة بين الضباط، لقد كانوا يقتلون بعضهم البعض، ولا يراعون الله في أفعالهم مع العباد، لقد أصر هؤلاء على نشر الإلحاد والشيوعية.
صاحب موجة الإلحاد والكفر ودعوات العري، جهل وفقر انتشر في البلاد، كما زادت الأسعار فكانت الحكومة والجيش هو الأب والأم وهو من يوفر الغذاء والكساء وترك مهمته في حماية حدود البلاد، لم يحدث أيام الملك أن نام أحد بلا طعام، كان صاحب كل أرض مسئول عن غذاء وكساء العاملين لديه. كان الجميع يعمل، كان هناك الحرفي والفلاح والأفندي، بعد الثورة لم يستطع الفلاحين رعاية الأراضي وبدأ الاتجاه لبيعها أو تجريفها. لم يملك أي من هؤلاء حق الأسمدة اللازمة للأرض، كان كل ما يملكونه هو جهدهم في زرعها وحرثها ولا شيء أكثر من ذلك.
تم القبض على أبي رغم تحذيرنا جميعا له، ونصحنا له بالهرب، ولكنه لم يهرب وقرر أن يواجه مصيره. في ذلك اليوم لم أذهب للمدرسة وأخبرني والدي أن أتجلد وأكون خير معين لوالدتي ولا أتركها ولا أتسبب في حزنها أبدا. وخرج والدي لعمله ورأيت ما حدث له، كيف اعتقلوه واقتادوه للمعتقل وعذبّوه حتى توفى، لم أقو على تحمل ما رأيته وأصبت بحمى شديدة، كانت والدتي وليلى معي لا يتركاني، وعندما توفى أبي رأيت كيف رميت جثته في القمامة، بكيت ووجدت ليلى بجانبي تقول لي أنها عرفت مكان والدي، احتضنتها وجاءت والدتي على صوت بكائي وجلست في مكان آخر واحتضنتني هي الأخرى. كنت أعلم أنها ترى ليلى وغيرها من الأطياف والأشباح والجان ولكنها لا ترى باقي الكائنات التي أراها، ولا ترى الرعب الذي أراه.


الاثنين، 21 ديسمبر 2015

آمال -الفصل العشرون (أطياف من الماضي)

الأباجية عام 1959
تصرخ عقيلة جراء المخاض، تصارع كي أخرج للعالم وأخرج للنور، وأخيرا خرجت لأرى العالم في الأول من يونيو عام 1959. لقد ولدتني أمي في ذلك اليوم، وأعلنت للعالم قدومي أنا آمال توفيق آخر أحفاد ونسل آل عثمان.
أراك تسأل عن شكلي وهيئتي، أعتقد أن أمي وأبي قد وصفا كل شيء، كما قيل لك آنفا، أنا بيضاء البشرة، شعري ذا لون ذهبي طويل وناعم، أنا متوسطة الطول، أما عن وزني فلست بالبدينة ولا النحيفة، تقول والدتي أنني ممشوقة القوام.
يقول والدي أنني ورثت جمال آل عثمان، وتقول لي ليلى أني أشبه خوشيار كثيرا؛ وكذلك قالت لي شمس. أرى علامات التعجب على وجهك، لا تتعجب فأنا أرى كل شيء منذ وعيت على هذه الحياة، أرى الأطياف والجان والأشباح وأسمع كل شيء، أستطيع أن أسمعهم أينما كانوا وأسمع حواراتهم. لا تتعجب ويضيق صدرك بي سأحكي لك كل شيء بالتفصيل فهل أنت مستعد؟
عندما بدأت أعي ما حولي –وقبل أن أعرف الكلام –وجدتني أرى أشياء كثيرة، أرى أطفال في مثل سني وأرى أشخاص كبار وأشياء لم أكن أدري ماهيتها بعد –فيما بعد أدركت أنهم أشباح وجان وأطياف مختلفة –كنت أحب اللهو مع الأطفال في سني، ولأني لم أكن أعرف الكلام وكانوا هم مثلي كنا نجري ونحبو. كانت هناك نساء في المكان، كل واحدة مع ولدها أو أولادها تراعي الجميع، وكانت معي سيدة رقيقة جميلة تراعيني قالت لي اسمها شمس وظهرت أخرى معها تبدو والدتها قالت لي أنها جدتي اسمها ليلى وقالت لي أنها والدة شمس.
كانت ليلى وشمس معي دائما وتحاولان معي تعلم الكلمات، كانت شمس تتحدث العربية وليلى تتحدث مع العربية التركية العثمانية والروسية القديمة، تعلمت منهما الكلمات واللغة.
استغرب والداي بعض الكلمات التي كنت أنطق بها، ولكن لا بأس ببعض الكلمات الغريبة من طفلة لم تتعلم الكلام بعد، لن يشغل أحد نفسه ويتكلف عناء البحث عن معنى كلمات بالتركية العثمانية والروسية.
وعندما أتحدث عن التركية يجب أن تعلم أن هناك تركية عثمانية وهي التي كانت سائدة في العهد العثماني وهناك التركية المعاصرة. الفرق بين العثمانية والمعاصرة أن الأولى كانت تكتب بحروف عربية، والثانية ظهرت على يد مصطفى كمال أتاتورك الذي استبدل الحروف العربية بالحروف اللاتينية وأجرى بعض التغييرات على اللغة التركية.
كنت أحيانا أرى كائنات قميئة المظهر مخيفة، كانت كيانات ضخمة تتشح بالسواد، ذات عيون حمراء كأنها جمرات نيران مستعرة. لم يكن لهذه الكيانات فم لتعرف إن كانت تضحك أم لا ولكن كنت أشعر دائما أنها كائنات غاضبة ولا تعرف الرحمة، حتى أطفالهم الصغار لهوهم كان بمحاولة إخافة وقتل البشر، لقد سمعت هذه الكلمات في تتردد في عقلي ولم أكن أعرف معناها بعد.
ولكن كلما شعرت بالخوف وجدت ليلى وشمس بجانبي يطردا تلك الكائنات وتستعيذان بالله منها، والغريب أن هذه الكائنات تحترق كلما ذكر لفظ الجلالة "الله".  وكانت ليلى تقول لي دائما "احفظي الله يا ابنتي يحفظك، احفظي بحفظ قرآنه الكريم، لا تعصي له أمرا، ولا تخافي أبدا من مخلوق، فكل ما ترينه أمامك هي مخلوقات الله عز وعلا، ولا يستطيع أيهم أن يمسسك بسوء ما دام الله معك". لم أكن لأفهم وقتها معنى كلمات ليلى، كنت في الثالثة من عمري تقريبا، لا أدري معنى ما تقوله ولا أفقه منه شيئا فلم أكن أتكلم جملة واحدة بعد، ولكني فطنت له فيما بعد.
عندما كان يدخل أبي خلوته، كنت أراه يتحدث مع ليلى وعثمان وإسماعيل ولكني لم أرى شمس أبدا معهم في تلك الخلوة، كانت تجلس معي وتلعب معي حتى لا أشعر بالضيق وكي لا أسمع ما يقال في خلوة أبي –التي لم تخل يوما من جان يتلو القسم، وآخر يحترق.
أما أمي فكانت تتركني مع الدمى التي تخيطها لي لألعب بها وتدخل هي للمطبخ لتحضر الطعام أو تذهب لترتيب الشقة التي لم تزد يوما عن كونها غرفتان وصالة ومطبخ وحمام. وأصبحت غرفتي مقسمة قسمان، قسم منها أخذه أبي لكتبه وخلوته، وقسم آخر لي ألهو به وألعب وأنام.
عندما ولدت اضطر والدي أن يبني جدار آخر في غرفة الخلوة لتكون لي غرفتي الخاصة، وكانت غرفة خلوته تحتل نصف مساحة الغرفة وغرفتي النصف الآخر، وبالتالي أصبحت الشقة ذات ثلاث غرف. كانت غرفتي تتسع لسرير لي ودولاب صغير أضع به ملابسي ومرآة كي أرى هندامي بها، لقد اشترى أبي غرفة لا نحتاج لتغييرها عندما أكبر ولكن سريرها لا يكفي غير شخص واحد، وكأنه كان على يقين أني لن يكون اخوة آخرين.
أما غرفة خلوته –والتي لم تجرؤ أمي يوما على دخولها، إلا بعد وفاته لتخرج لي بعض الكتب والمخطوطات النادرة من داخلها –كانت تحتوي على ثلاث مقاعد صغيرة، ومنضدة مساحتها لا تزيد على الربع متر وبضعة أرفف معلقة على الحائط بها العديد من الكتب، هناك أيضا كوة صغيرة داخل الحائط يخبئ بها أبي بعض الأشياء، ولا أدري ما هي، لم يكن يسمح لي أبدا برؤية ما يخبئه داخلها. كانت غرفته مطلية باللون الرمادي الفاتح.
عندما بدأت قول الكلمات ورأيت ليلى أمامي وهي تحدث والدي وكنا وحدنا هتفت باسمها وقلت له أني أحبها، استغرب والدي جدا من ذلك، سألني هل أرى أحدا وبالطبع أجبته بالإيجاب، هنا طلب مني عدم التحدث في ذلك مجددا، وعدم إخبار أي شخص بتلك الموهبة حتى لو كانت والدتي. لذا لم أقل له أني أستطيع أن أرى ما يحدث بعيدا عني، أن أرى ما يحدث خلف الجدران.
كبرت ووصلت لسن المدرسة وبالطبع لم أقو يوما على البوح بما أرى وبما أملك من ملكات أو نقمات، لقد أحالت تلك الهبات أو النقمات أيا كانت حياتي جحيما، أن ترى خلف الأبواب شيء صعب، قد يكون جميلا في بدايته، ولكن عندما تتكشف لك الحقائق كلها وتصدم في أشخاص كنت تحبهم تكره نفسك وتكره الحياة بمن فيها.
ستعرف كل شيء في أوانه لا تتعجل، دعنا نعود لدخولي المدرسة، لقد دخلت المدرسة في العام 1965 وحدثت الهزيمة ولاحتلال الإسرائيلي لمصر وبلاد الشام في العام 1967. لقد احتلت إسرائيل سيناء وكانت تقوم بالغارات الكثيفة على القاهرة والمحافظات الأخرى، وكانت المعلمة تقول لنا أن ما حدث هو نكسة، وأن الجيش قادر على ضرب إسرائيل السيئة بالعصا ورميها في البحر.
ما قالته المعلمة كان يقال في كافة المدارس من جميع المدرسين، الغريب هو ما رأيته عندما كذبت المعلمة وقالت ذلك الكلام، رأيت كائنا طويل له قرنان وعيون مشقوقة بالطول تخرج من عيونه ألسنة اللهب، ويرتدي السواد. يبدو أنني لن أكف عن رؤية تلك الكائنات المرعبة، نظر لي وكان يضحك بطريقة أفزعتني، وسمعت من يقول لي في عقلي، اعتادي على ظهوري وعلى رؤيتي فالبشر أصبحوا ملاعين ملعونين، يكذبون ويعصون ويرتكبون الموبقات؛ لذا لن أكف عن الظهور لك مع كل كاذب، وفي كل مكان يعصى فيه خالقك. وجدتني أفعل ما قالته لي ليلى وشمس مرارا أستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وكما تعود وجدته احترق واختفى.



السبت، 19 ديسمبر 2015

عقيلة- الفصل التاسع عشر (أطياف من الماضي)

بلغت آمال وهي في الرابعة عشرة من عمرها، كانت في الصف الثالث الاعدادي، كان ذلك عام 1973، بلغت وكان لابد لها من تلاوة العهد. ترددت مرارا قبل أن أخرجه من مكانه وأحضرها لتلاوته، كانت قد أتمت حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية، قرأت الكثير من الصحاح، ولكني لم استوعب فكرة أن يكون لها عهدا مع الجان.
كم ظلت ليلى تقنعني بأهمية ذلك، كم حاولت أن أفهم أن هذا العهد مع جان مسلم وأنه لا يوجب الشرك بالله، وفي النهاية امتثلت لوصية توفيق وكلامه. طلبت من آمال الاغتسال والصلاة، وكلمتها مرارا أن النافع هو الله وأعدت عليها تلك الآيات، التي تحرم السحر والاستعانة بغير الله، ثم أعطيتها العهد، وبمجرد أن لمسته ظهر لها توفيق ووقف أمامنا وهي تتلوه، احتضنها في حضنه الدافئ كي لا تخاف من ظهور إدريس، تلك الوردة الرقيقة، لم تخف وتلت العهد وظهر إدريس.
الحقيقة أنني لم أتحمل تلك اللحظة، وفضلت تركها مع والدها ومع ليلى حتى انتهى كل شيء، ولكني قررت أن أفهم منها، كيف تراهم ومنذ متى حدث ذلك. وعرفت منها أنها تراهم من سن صغيرة جدا، بل وتتحدث معهم ولكن توفيق طلب منها أن يظل ذلك سرا بينهما ولا يعرف به مخلوق، ولكنه بعد وفاته وظهوره لها، طلب منها أن تشاركني هذا السر. لذلك قالت لي أنها رأت الشبح القاتل، كنت قد نسيت في خضم صراعي مع الحياة تلك المسألة، لذا قررت أن تكون تلك الليلة هي ليلة الأسئلة، أريد أن أعرف وأن أفهم
عقيلة: ماذا حدث في ذلك اليوم يا ابنتي، لقد قلت لي أن ذلك الشبح قتلهم
آمال: انه ليس شبح يا أمي، انه نفر من الجان
عقيلة (باستعحاب): ماذا!!!!
آمال: أتذكرين ذلك المريض الذي أتى لك المستشفى والجميع يظن أنه يعاني الصرع؟
هنا تملكتني الدهشة، لم احك يوما لآمال عن حالات المرضى، وخاصة تلك الحالة، كنت في فترة التمرين على التمريض وقتها؛ آثرت ادعاء النسيان، رغم أنه يوما لا ينسى
عقيلة: لا أذكر
آمال: ذلك الشاب الذي أتى به أهله المستشفى وهو في نوبة من التشنج الحاد وعالجه الأطباء على أنه مصاب بالصرع، ولكنك فطنتي للجان المصاحب له، وانتظرتِ حتى كنتِ وحدك معه في الغرفة وقرأت عليه القرآن حتى مات ذلك الجان، أتذكريه
عقيلة (هنا لم أقو على عدم السؤال وأنا في اندهاش مما أسمع): ماذا حدث؟ وكيف عرفتيه؟
آمال: ما حدث هو أنه في ذلك اليوم وعقب قتلك له، لم تقومِ بتلاوة العهد عليه لكي يترك الشاب ولكنك قتلته؛ فكان لابد لأهله من الانتقام منك وكان والداك هما البداية، ثم أنا وتعذيبك حتى الموت. في ذلك اليوم ظهر والدي وحفظت منه العهد الذي أتلوه ليتركنا الجان ولكني لم أكن بالسرعة لكي أنقذهما ولكن استطعت انقاذك والحمد لله. أما كيف عرفت بالأمر، رأيته في نومي كأنه حلم استيقظت منه سريعا لأجد قبيلته بالفعل تبدأ في الانتقام
بعد حديث آمال، لم أستطع منع دهشتي مما أسمع، وخوفي من ملكات ابنتي لقد فاقتني وفاقت والدها، كانت تستيقظ من نومها وتأتي لغرفتي تربت على كتفي وتحتضني لتقول لا تخافي الله معنا، اتركيهم يتحدثون كما يريدون واشكي إلى الله فإليه المشتكى.
كبرت آمال ودخلت الثانوية العامة وبعدها كلية الحقوق، وتركت أنا العمل لعدم قدرتي على التحمل، لقد مرض جسدي الهزيل، وعملت وحيدتي في احدى الوزارات الحكومية، في الشئون القانونية، وكأنني كنت انتظرها تبدأ العمل حتى وافتني المنية في ذات يوم تسلمها عملها، لأكمل حياتي معها وأنا طيف يزورها ويربت على كتفها ليهون عليها الأيام والبشر وقسوتهم عليها.

الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

عقيلة -الفصل الثامن عشر (أطياف من الماضي)

بعد وفاة توفيق كان لابد لي من البحث عن عمل أنفق منه على البيت وعلى تعليم آمال، لم تكن لي شهادة أعمل بها غير الابتدائية، بحثت كثيرا حتى وجدت وظيفة ممرضة في مستشفى، تعلمت التمريض وأصبحت أعمل في فترات مختلفة، لم يكن معاش أبي يكفيه وكبر لينفق على أمي وعلينا، وابتعد عنا الجيران خوفا على أنفسهم، منذ تكلم توفيق في حقيقة الهزيمة والجيش أصبحنا منبوذين غير مرغوب بنا، لذا لم يهتم أحدا لأمرنا، لم يهتم أحد لأمر سيدة وابنتها التي لم تكمل عامها التاسع بعد، ذهبت الأخلاق والشهامة والمروءة وحل محلها الخوف والجبن، كنت أبكي ليلا وأنا أحكي لتوفيق ظن الناس بي، وسيرتي التي يلوكها الجميع، لا يخاف أحدهم أن يرد له ذلك في أولاده وبيته.
كنت أبكي في حضن ليلى ليلا أبثها حزني وخوفي على وحيدتي، كانت تفهمني وتصبرني وكلما زاد عليّ همي قمت فتوضأت ونظرت في وجه آمال واحتضنتها، كنت أعلم أنها تسمع بكائي ولا تعرف له سببا، لم أقو على أن أصارحها بوفاة والدها على ذلك النحو، كانت صغيرة جدا وبريئة جدا لتتحمل ذلك.
كنت أعلم خوفها من البقاء وحدها في المنزل ولكن كنت أترك معها ليلى، وأعلم مكان العهد الذي لابد لها من تلاوته عند البلوغ، وحيدتي تتلو عهدا مع الجان، كم كان هذا غريبا ولكنها وصية والدها التي لابد أن تنفذ.
كان أكثر ما يهمني في تلك الفترة هو تعليمها تعاليم دينها جيدا وإدراكها لأسباب النهي والأمر، وكانت تلك معضلة كبرى، لا يوجد علم متاح في المساجد ولا في الأزهر ذاته لتتعلم منه ذلك، لقد تبدل حال الأزهر ولم تعد الكتاتيب موجودة، لقد أغلقت ولا يسمح للمساجد بدروس العلم، حتى وجدت توفيق يرشدني على مكان مجموعة نادرة من الكتب والمخطوطات الإسلامية، كان قد خبأها ليوم مثل هذا، وبالفعل أخرجتها وعودت آمال على القراءة ومصادقة الكتب، كنت أعرف أن القراءة هي السبيل للفهم والمعرفة، وكانت هي تقرأ في نهم أحببته منها، حتى أنها حفظت الأربعين النووية في أقل من شهر وحفظت صحيح مسلم والبخاري، كانت لديها مهارات وملكات تجمع بيني وبين أبيها رحمه الله.
أنهت آمال حفظ القرآن وهي في المرحلة الإعدادية مع حفظ الأحاديث وإخراجها، كان ذلك صعبا وليس بالأمر السهل، ولكن آمال كما توفيق تعشق كل تحدي، لا تستسلم أبدا؛ وكان لابد أن أكون مثلها.
لم استسلم لنظرات الخوف والكراهية من النساء؛ خوفهن مني على أزواجهن وحقدهن عليّ لفقدي زوجي وخروجي من المنزل في مواعيد متأخرة وعودتي متأخرة رغم التزامي بحجابي. كان لابد لي من البحث عن عمل فلا معاش لتوفيق ومعاش والدي لا يكفي، فوالدي معاشه بالكاد كان يكفيه ووالدتي، لذا بحثت عمل. عندما وجدت عملي في احدى المستشفيات، كنت أعرف أنني سأترك وحيدتي مع والدايّ حتى أعود، ولكن القدر أبى أن أهنأ؛ توفى والدايّ في نفس يوم حصولي على الوظيفة.
عندما قرأت في احدى الصحف عن طلب ممرضات في مستشفى حكومي، وذلك بسبب العمليات الفدائية والضربات التي يوجهها لنا العدو من وقت لآخر، ذهبت وتقدمت للوظيفة وقبلوا بي، وكان من المفترض أن أتسلم وظيفتي أول الشهر، أي بعد أسبوعين من الآن.
فرحت بالوظيفة والراتب الذي يساعدني على الحياة، وعندما كنت أخرج في فترة التدريب على العمل كنت أترك آمال مع أمي، وفي ذلك اليوم عند عودتي كنت أسمع صوت آمال تبكي قبل أن أصعد العمارة، هرعت إليها وجدتها تحضن والدايّ وتستحلفهم بالله أن يرد أحدهم عليها.
لم أصدق حدسي بوفاتهم، هرعت إليهم أضع يدي على وجههما لألتمس منهم أي نفس خارج، دون جدوى، لقد فارقا الحياة، لا أدري أي حظ هذا، ولكني وجدت تلك الأشباح فرحة، ثم تحدثت آمال لأول مرة لي بما تراه، وما رأته.
كانت في الصف الرابع الابتدائي في ذلك الوقت، توقعت هول صدمتها أن يموت جداها معا أمامها، وتحدثت
عقيلة (وهي تبكي وتحاول احتضان آمال لتبعدها عن الجثث): تعالي في حضني يا صغيرتي، ادعي لهما بالرحمة
آمال (وهي تبكي وتشير لركن ما بالغرفة): لقد قتلهما ذلك الشبح، لقد قتلهما
وبالفعل نظرت صوب المكان فرأيته يضحك، ما أخبث ما رأيت، وقال لي "خافي مني، دورك قادم، ولا يوجد توفيق لينقذك". أصابتني الدهشة، من هو؟ ولماذا قتلهما؟ ولماذا يتوعدني؟ لم أخف منه، لقد قابلت كثيرا، ولكني نظرت لآمال فوجدتها تراه وتسمعه، لذا احتضنتها وطمأنتها كي لا تخاف، فوجدتها تقول لي "لا تخافي منه يا أماه، لن يمسنا بضر". كل ما كنت أفكر فيه هو من هو؟ وكيف قتلهما؟ ولكن لابد من احضار الطبيب وتشييع الجثمان لمثواه الأخير، وليقضي الله أمرا كان مفعولا.
دفن والدايّ، دفن سندي وظهري ووراهما التراب، فلترحمني يا ربي ولتعينني على ما هو قادم، مرت أيام العزاء، ونسيت ما حدث وكان لابد لي من ترك آمال وحيدة أثناء فترة عملي. كانت قوية وشجاعة ومؤمنة بالله وبقضائه، شعرت أن الله عوضني بها عن فقداني لأحبابي واحدا تلو الآخر، وتذكرت كلام جدي يوسف لي "يجب أن أكون قوية".
في تلك الفترة لم يسأل عنا أحد، لم يسأل أحد عن أحوالنا ولا كيف نعيش، نهشتني عيون الرجال وذبحتني نظرة اشتهائهم، قتلتني تلك النظرات التي تشعرك أنها ترفع عنك سترك لترى كل ما تستره وتنتهك حرمتك.
كنت أبكي كل ليلة قبل نومي حتى تظهر ليلى تضمني لحضنها الدافئ وتقرأ لي ما تيسر من القرآن حتى أنام، كنت أشكو لها نظرات النساء والرجال، أشكو لها كيف يتعامل معي الناس، كأنه ذنبي أن أصبحت أرملة وأنا مازالت شابة، كأنه ذنبي أن أصبحت أرملة وأنا جميلة.
مرت الأيام سريعة وتوفى عبد الناصر وبعدها جاء نصر أكتوبر كانت آمال في المرحلة الإعدادية، وتلاشى الخوف من الرقابة المستمرة، وبدأ الجيران في محاولة التودد لنا والسؤال عنا، ولكني قررت البعد عن الجميع، لن اختلط بأحد، من تركني وأنا في حاجته لن يقترب الآن. انتهى الاختبار ورفعت الأقلام وجفت الصحف.
انشغلت في عملي وتربية وحيدتي، كانت ليلى رفيقة دربي، لم تتركني وكذا توفيق، كم كنت اشتاق لوجوده بجانبي، تبا له عبد الناصر وتبا لتلك الثورة المزعومة وتبا لكل من صار في ركبها وعاش على حساب حياة أعز الناس إليه. كرهت الثورة وعبد الناصر ولكني لم أقو على التصريح بذلك، خفت على صغيرتي من سيرعاها، أنا كل أهلها؛ لذا اتفقت معها ألا نتحدث في السياسة قط فلنكره من نكره دون التصريح به.



الاثنين، 14 ديسمبر 2015

عقيلة -الفصل السابع عشر (أطياف من الماضي)

بعد حادثة هاني وما مررنا به عرفت حملي، وأني أحمل في أحشائي جنين يجمعني بزوجي وحبيبي توفيق، كنت أتمنى أن يكون ولدا، لم يكن متاحا وقتها أن نعرف جنس المولود ولكن لا أعلم لماذا تذكرت قول جدي يوسف أني لن يكون لي سوى ابنة واحدة من توفيق، سرعان ما نفضت الفكرة عن رأسي فلا يعلم الغيب إلا الله، ولكني دون أن أشعر هيأت نفسي أنها ستكون وحيدتي.
منذ بداية الأربعينات وانتشار السينما والحفلات الغنائية بدأت النساء تتخلى عن غطاء الوجه وتضع بعض مساحيق التجميل وكان ذلك في الطبقة العليا، أما غير المسلمات في تلك الفترة بدأن في ارتداء فساتين تشبه تلك التي تظهر بها النجمات في السينما، لم يرقني أبدا أن أخلع الحجاب وأخرج دونه وأرتدي ملابس ضيقة تبرز منطقة الصدر والوسط، بدأت النساء التشبه بأم كلثوم وليلى مراد والنجمات اليهوديات وغير المصريات، وبدأ الوضع يزداد سوءا بعد الانقلاب العسكري وحادثة المنشية، لقد أصبح الإلحاد مباحا وخلع الحجاب والتبرج من المباحات، قصرت التنورات حتى أصبحت لا تصل للركبة وكذلك حال الفساتين، انتشرت موضة "الميني جيب" و"الميكروجيب"، زاد الاختلاط بصورة مبالغ فيها، أصبح من يصلي مادة خصبة للسخرية منه، أصبح الملتزم بدينه متطرف يجب القضاء عليه، وبدأ المجتمع في التغير.
في البداية كان كل مجتمع يلفظ من يترك دينه ويلحد ويكفر بخالقه، ثم بعد ذلك بدأ يتقبل الوضع عندما زاد عدد هؤلاء –طبعا أقصد بالمجتمع المنطقة التي نسكن بها –كانت هناك أخلاق وشهامة تسيطر على السكان، ممنوع أن تعاكس جارة لك تقطن في نفس المنطقة، وإن وجدت من يعاكسها أو يتحرش بها عليك التصدي له وضربه، إذا وجد ابن جار لك يفعل أي شيء مخالف عليك تأديبه ويشكرك جارك، تغير كل ذلك دون أن نشعر.
كنا إذا خبز أحدنا حلوى وزع على جيرانه ليتذوق الجميع، وإذا اشترى أحدنا فاكهة لها رائحة نافذة يوزع منها على جيرانه، إذا علمنا أن أحد أصابه مكروه في عمله وتعطل عن العمل فترة تتكاتف الأيدي وتمد يد العون له بأموال وطعام وشراب وعمل. لا أعلم ماذا حدث ولكن أعتقد عندما حدث التأميم تمت مصادرة الأراضي والأملاك، واغتصبت الأملاك من أصحابها وملاكها، هرب الملاك وتشرد العمال، وعندما حاولت الحكومة حل المشكلة بالتعيين الحكومي أصبح الدخل لا يكفي الأسرة وضن كل شخص بما معه لأنه لا يعلم ماذا يخبئ له الغد. عندما ابتعدنا عن الدين وتعرت النساء وفرحت عائلتهم بذلك ماتت المروءة وانتهت، وانتهى معها عصر كانت المرأة فيه مصانة، كانت ملكة متوجة، وبدأنا عصر ينادى فيه بعري المرأة وإتاحة العلاقات الزوجية بلا زواج.
عندما ظهرت الدعوات التي تنادي بعمل المرأة كانت مصدر للضحك والسخرية مني وهل المرأة لا تعمل؟ هل ينقصها من الأعباء ما تزيد عليه بالعمل خارج المنزل؟ لقد تعلمنا وكانت النساء تتعلم للقيام بوظيفة ذات أهمية عظمى وهي إعداد جيل طيب الأخلاق، ولكن حتى النساء احتقرن تلك المهمة العظيمة التي ألقيت على أكتافهن وجدن أنها وظيفة الخادمات، كان لنا من الخدم الكثير ولكن كانت الأم هي الأم، هي من تربي وتتابع الأبناء، تتعلم جيدا حتى تساعدهم على دروسهم، تعلمهم القيم والأخلاق وتراعي بيت زوجها وماله. أما نتيجة هذه الدعوات ظهرت بعد حين في السبعينات من القرن العشرين، ذهبت النساء للعمل وبالفعل لم يستطعن التوفيق بين مهام الأمومة والعمل، وظهر الجيل الذي تركته أمه ليتربى وحده، وظهر الفساد.
مرت شهور الحمل وخلالها تعرفت أكثر على ليلى وتكلمت معها، لقد علمت منذ حادثة هاني أني أراها هي وعثمان وإسماعيل، تحادثنا كثيرا كانت تسري عني وقت خروج توفيق للعمل، أحببتها كأنها أمي وأخبرتها بما قاله لي يوسف وأخبرتها أني رأيت شمس أيضا، لكنها تفاجأت برؤيتي لشمس؛ فلم تظهر شمس بعد وفاتها لأحد ولكنها ظهرت لي ولم ترها ليلى ولم يرها أحد.
كانت ليلى مرشدي في رحلة حملي، لأول مرة أتحدث معها عن موهبتي وشرحت هي لي معنى هذه الموهبة ومشاكلها ومزاياها، ولكني صراحة لم أجد أن لها مزايا. عندما جاءني المخاض كان توفيق في خلوته ودون أن يشعر غفا في مكانه، لم تصل له صرخات مخاضي فذهبت له ليلى لتوقظه ليأتي ليساعدني وأخبرته بما يجب عليه فعله، ووضعت وحيدتي آمال.
كانت آمال آية من الجمال، بيضاء ذات شعر ذهبي بلون الذهب وعيون عسلية تخجل من جمالها الشمس، كانت منذ ولادتها لا تفارق وجهها الضحكة، كانت ملاكا. لا تستيقظ وأنا نائمة كانت غريبة ومريحة لم تتعبني يوما.
وبعد ولادة آمال جلس معي توفيق يتحدث عن مواهبي الخفية فحكيت له كل شيء عني وعن جدي يوسف والأطفال الذين كنت ألعب معهم في حديقة منزلي والأشباح في شقة الأباجية، ورؤيتي لليلى وعثمان وإسماعيل ويوسف وشمس. استغرب توفيق تلك القرابة التي تربط بيننا دون أن ندري، والظروف المشابهة التي سلبت كل منا ما يملك وتركته يبدأ من جديد، من نقطة الصفر.
كنت أخاف من صراحة توفيق ورأيه في الانقلاب وما حدث بداية من الإطاحة بالملك حتى الإطاحة بمحمد نجيب، الأحداث تتوالى والأخطاء تزيد، وعيون العسكر تنتشر في كل مكان. كانت بعض هذه العيون تأتي لزوجي لطلب العون، حيث ذاع صيته وعلت شهرته في مجال الأرواح والمس. كنت أعرف تلك العيون المندسة بمجرد وقوفهم ببابنا ولكن توفيق نهاني عن طرد طارق لنا حتى وإن عرفت أنه كاذب ومخادع، رغم علمه بكذبهم لم يجرح أيهم بكلمة ولا تصرف، كنت أتكلم مع إدريس ليحميه من بعض السحرة والعاملين في السحر الأسود، وما أكثرهم في ذلك الوقت. عندما يختفي الدين والتدين يصبح السحر والشعوذة هما الملاذ والملجأ، يذهب البعض للمشعوذين والدجالين لطلب المال والعيال، وينسى هؤلاء رب الكون موزع الأرزاق. بالطبع لم يكن عدد هؤلاء الدجالين كما هو الحال في عالمكم الآن لقد كان بالنسبة لنا كثيرا ولكن مقارنة بما لديكم الآن هو لا شيء.
كبرت آمال ووصلت للرابعة لاحظت نظراتها وكلامها مع ليلى وعثمان كلما اختلت بنفسها وقلت لتوفيق، كانت آمال شديدة التعلق بتوفيق وتعشقه وتحبه وكان هو يبادلها نفس الحب والخوف عليها وعلى مستقبلها، كان يخاف عليها ونقل خوفه لي عندما علمنا أنها آخر نسلنا، لم أتوقع يوما ألا يتزوج هذا الملاك، ولكنه قضاء الله وقسمته فلا راد لقضائه.
طلب منها توفيق ألا تتكلم مع أحد حتى أنا في هذه الهبة حتى نتأكد من كتمانها للسر، فهي طفلة ولا يكتم الطفل سرا، ولكن حقيقة كتمته ولم تتفوه بكلمة، كنا نخاف عليها كثيرا، لقد كانت ترى وتسمع منذ وعت على هذه الدنيا، حتى قبل أن تتعلم الكلمات والحروف.
كانت لذلك مزية وهي عدم خوفها مما ترى والتأقلم مع تلك الموهبة الفريدة، لذا أصر توفيق على تحفيظها كتاب الله، وأصر أن تعي دينها جيدا وتفهمه لا أن يفرض عليها دون فهم، لقد فهم توفيق الدرس ووعاه جيدا، حتى تتخطى صعاب الكون لابد لك أن تفهم وأن تعرف سبب كل أمر ونهي أمرت به ونهيت عنه.
عندما دخلت ابنتي الصف الأول الابتدائي فرحت بها كثيرا، خاصة أنها حفظت الكثير من كتاب الله. كانت تلك الفترة مليئة بالأحداث التي يشيب لها الولدان، حدث العدوان الثلاثي على مصر وبعدها الديون التي فرضت عليها والأموال التي أقرضتها مصر لبريطانيا وغيرها ضاعت ولم يطالب بها أحد، ما هذا الهراء، فرض علينا الغذاء والكساء، نقف طوابير طويلة لنحصل على القماش الذي نفصله ليكون ملابس، وطوابير أخرى لنحصل على الفراخ واللحم وطوابير للحصول على الخبر، وأخرى للتموين، لقد كرهت الطوابير، تحولت حياتنا لطوابير لا تنتهي، ومساخر لا تنفد أبد. ثم كانت الطامة الكبرى، لقد حدثت نكسة 1967 –هكذا يقولون، نكسة –أعرف كما يعرف توفيق وغيرنا أنها هزيمة، جيش هزم آخر، ونحن الجيش المهزوم.
لقد كانت نتيجة تلك الحرب معروفة سلفا، جيل ابتعد عن كتاب الله، وجيش منع عنه الصلاة والصيام وأي فرض فرضه الله، جيش تحول للعلمانية؛ فقد صدرت التعليمات غير المكتوبة بعلمانية الجيش، ممنوع الصلاة، ممنوع الصيام ممنوع ذكر الله، فكان التدين في الجيش في الخفاء، وكان الإلحاد سيد الموقف، رافق كل ضابط أكثر من غانية، كانت الممثلات والراقصات غانيات هؤلاء القوم، لم يكن هناك تدريب عسكري وكانت اللذة والمتعة والشهوة للمال والسلطة هي المسيطرة، فأي جيش ذلك لينتصر على عدو له؟! لو كان الجيش انتصر لكان هناك خطأ في مقادير الكون، كافة المؤشرات تشير بالهزيمة المحققة إذا لم يتغير ذلك الوضع، ولكنه لم يتغير وبالفعل حدثت الهزيمة.
كانت المدارس تلقن الطلاب أنها نكسة وليست هزيمة، وأننا قادرون على هزيمة تلك الإسرائيل، بالطبع لم أقول لابنتي أن ذلك خطأ، كنت أخاف عليها إن هي تكلمت مع أحد بذلك أن يصيبها السوء، وكان توفيق يوبخني على صمتي عما تقوله المعلمة لابنتنا وكان يقول لها الحقيقة كما هي، كنت أخاف على كليهما، لا أطيق فراق أي منهما ولا إصابته بسوء وكنت أدعو الله أن يحفظهما لي. أما توفيق لم يكتف بكلامه مع ابنتنا وتوضيح الأمر برمته لها في تلك السن المبكرة، لقد جن جنونه بعد خطاب التنحي ونزول الشعب لمطالبة عبد الناصر بالرجوع للسلطة والثأر لشعب مهزوم، والصراع الذي نشأ بين عبد الناصر عبد الحكيم عامر واشتد بينهما بعد إقالة عبد الحكيم من منصبه في قيادة الجيش، وانقسام الجيش مع تلك الصراعات، الصراعات التي راح ضحيتها الشعب الخانع لكل منتصر، كان توفيق يقول ذلك الكلام لكل من يقابله، حتى عفّ الناس عن طلب العون منه وكأن الأرواح والأشباح انتهت من هذا الكون، وأن الجميع أصبح يعرف ما يريده.
لم يمر وقت طويل حتى طلبت مني ليلى أن أحرض توفيق على الهرب، أن نهرب جميعا ونترك المحروسة ونذهب للشام أو أي بلد أخرى، ولكن توفيق أبى إلا أن يواجه مصيره كما هو، ذهب لعمله رغم تحذيرنا جميعا له، لم يستجب لتحذيرات إدريس له بالهرب، وقبض عليه في مقر عمله، وبعد القبض عليه فتشت الشرطة منزلنا، خافت ابنتي كثيرا ولكني كنت قوية، كان لابد لي أن أكون كذلك، فأنا أمها وأبوها، لقد صدق جدي يوسف في نبوءته.
بعد فترة علمت وفاة توفيق عندما وجدت طيفه أمامي، أدركت العذاب الذي تعرض له، حتى أنهم لم يدفنوه رموه في الصحراء، لذا قررت أن أذهب في المكان الذي قال عليها مع والدي وابن عمي ووجدنا جثته بالفعل ودفناها كما يليق بها في مدافن أسرته، بعد أن حصل منا اللحّاد على رشوة ليدفنه دون تصريح.



الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...