الجمعة، 4 سبتمبر 2015

الفصل الخامس عشر (لست عاهرة)


استقرت حالة عادل الصحية، ولكنه سيظل فترة طويلة في المستشفى بسبب الرعاية الطبية التي يحتاج إليها؛ لذا طلب من عبد الخالق ومحمد ومأمون السفر لرعاية مصالحهم في القرية، والاعتناء بفردوس فلا يجب أن تظل فترة طويلة وحيدة هكذا، ولكنه طلب أن تظل علياء معه ولا تسافر. لم يعترض أحد؛ فهي زوجته والواجب يحتم عليها البقاء معه، ومراعاته حتى يشفى تماما.
جلس عادل مع نفسه يعاتبها ويحاول أن يعرف سبب تعذيبه للإنسانة الوحيدة التي أحبها، لقد أراد أن يعاقبها ولكنه تمادى في العقاب، حتى نسي أنه يعاقبها وظن أن ذلك هو ما يجب أن يكون.
فكر كثيرا في سبب ما يعانيه من كره شديد للنساء، ولكنه فهم بعد أن استعرض حياته كلها أمام عينيه أنه كره منهن ضعفهن وسلبيتهن التي وجد أمه عليها، ثم ما مر به من تجارب نسائية في سن مبكرة جعلته ينتقم في كل فتاة من ضعفها وسلبيتها، وأن سبب حبه وكرهه لعلياء هو تحديها له، أنها كانت النموذج الذي يرغب أن يجد أمه عليه، اختلافها جعله في تمزق وخلاف بين نصف الذي يكره الضعف والسلبية والنصف الآخر الذي يقدسها ما دامت تخدم العادات والتقاليد، وكانت علياء هي الضحية.
أخيرا، وبعد الحادث الذي مر به، اكتشف مشكلته وحاول معالجتها، ولكنه لم يعرف كيف يبدأ ذلك، خرج عادل من المستشفى بعد قضائه ما يقارب الشهر، ولكنه لم يستطع السفر لقنا لاستمرار تعبه وكذا استمرار التحقيق في الحادثة حيث لم يتم العثور على الجاني بعد. وجد عادل بقائه هو علياء في القاهرة بعيدا عن كل الناس فرصة جيدة كي يكتشفا نفسيهما، أن يتقاربان وأن يعتذر لها عما سببه من ألم وإحباط وخيبة أمل.
حجز عادل في فندق سياحي قرب الأهرامات، يعلم عادل مدى حب علياء للآثار، لم ينس أبدا حتى الآن حبها لآثار البلد. كانت الفندق كبير اختار عادل غرفة تطل على الأهرام وحديقة الفندق. يعرف أن ذلك المشهد هو ما يسعد علياء.
لم تنس علياء أن تضع مذكراتها معها وهي مسافرة لعادل، كانت معها لم تفارقها، كتبت فيها وهي في المستشفى عندما كان ينام عادل، تجلس في الشرفة وتدون الأحداث التي مرت بها في ذلك. فرحت علياء بالمنظر التي تطل عليه غرفتهما، وعندما نام عادل، دخلت الشرفة وجلست تحتسي الشاي الذي تحبه وتكتب أحداث اليوم الذي مر بها، نامت علياء في الشرفة وهي تكتب لم تشعر بالوقت حتى نامت على الكرسي، استيقظ عادل وجدها نائمة على الكرسي في الشرفة، ظن أنها لا تريد أن تشاركه فراشه، ولم يعرف هل يوقظها أم يتركها نائمة، لفت نظره المذكرات التي وجدها أمامه مفتوحة حيث كانت تكتب في تلك الصفحة: "لقد تغير عادل في معاملته لي خلال فترة وجوده في المستشفى، حتى نظراته تغيرت، وجدت نظرات أعرفها كنت أجدها منه عندما كنت طفلة صغيرة وحتى وصلت للمرحلة الإعدادية. ترى هل عاد حبي لقلبه مرة أخرى، أم أنه يدبر لي ما يهينني به مرة أخرى؟ هل كان اختيار هذه الغرفة وهذا المنظر وهذا المكان لعلمه أني أحبها أم أنه أراد أن يبتعد قدر إمكانه عن المدينة وصخبها؟ لم أعد أعرف، لقد تغير عادل وحسب، أردت أن أعانقه عندما اختار هذا المنظر، ولكنني خفت منه ومن رد فعله، انتظرت منه أن يعانقني، أو حتى يطلب مني الجلوس جانبه على فراشه، لكنه لم يفعل، سأتركه ولأكمل كتابة أحداث يومي".
كانت الكلمات التي قرأها لتوه من مذكرات علياء بمثابة تنبيه له لما تنتظره منه علياء، لذا انسحب بهدوء من الشرفة وذهب للفراش وتظاهر أنه استيقظ لتوه ونادى على علياء
عادل: علياااااااااااااااء، علياء أين أنتي؟
استيقظت علياء على صوته، وظنت أنه يعاني من خطب ما، جرت عليه والفزع يملأ قسمات وجهها وعينيها ما إن رآها عادل على هذا الحال قام من مكانه واحتضنها وطمأنها، ولأول مرة تبكي علياء على كتفه وتطلق لعيونها الحق في البكاء أمامه، فأمسك بوجهها ونظر في عينيها وقال لها "سامحيني، لقد أحبتك ولكن عنادك هو سبب ما وصلنا إليه، لأول مرة أراكي لا تهربين مني وتشعري بالاطمئنان وأنت في أحضاني." انتبهت علياء آنذاك أنها بالفعل شعرت لأول مرة بالأمان لكي تبكي على صدره ولكنها خافت من ذلك الشعور لما خبرته من عادل وتصرفاته، فجفلت وحاولت الخروج من حضنه
عادل: لا تهربي، لا يجب أن نهرب من بعضنا بعد الآن يا علياء، أنا أحبك وأنت أيضا تفعلين، لماذا العناد والهروب؟
علياء (باكية تشعر بالحب والخوف والأمان من عادل): أخاف منك يا عادل، أخاف أن يكون ذلك سبب جديد لتهينني
ضمها عادل في رقة لحضنه وأمسك وجهها بكلتا يديه ونظر في عينيها: أعدك أن أتغير، ولكن عليك أن تساعديني.
لأول مرة تشعر في كلام عادل الحب، ولا تعلم ما سبب شعورها بذلك، بل إنها تخاف من ذلك الشعور، لأول مرة منذ تزوجا منذ اثني عشرة سنة، وهما أزواج ولكنهما أعداء، تشعر أنه يخبئ لها خنجرا ليطعنها به كلما سنحت له الفرصة لذلك. لأول مرة تشعر أنها تريد أن تترك لقلبها العنان لتعيش قصة الحب التي طالما حلمت أن تعيشها، كثيرا ما كانت تحلم به يقول لها كلمة أحبك، وها هو يقولها لها مرتين خلال شهر واحد، منذ الحادثة مضى عليهما أطول وقت قضياه سويا.
تركت نفسها لعادل، أزاح عنها غطاء شعرها، واحتضنها بقوة أحبتها، وبدأت مراسم حب كتب لها أن تولد بعد زواج دام اثني عشرة سنة، كانت علياء تستجيب لكل فعل قام به عادل، إشارة منها أن أكمل، حتى وصلت لآخر مرحلة أن يهم بها عادل، وجدها أغمضت عينيها وتغيرت ملامحها وظلت تقاومه وتبعده عنها. ابتعد عادل، لقد شعر أن هناك شيء على غير ما يرام، لقد تغيرت علياء، لم تعد هي التي يعرفها، بعد أن تركها ولم يكمل، وجدها تنظر بعينين زائغتين للحجرة وله، تحاول أن تغطي نفسها ولأول مرة بكت بطريقة تذكرها جيدا، كما بكت يوم زواجها.
لم يعرف عادل ماذا يفعل، دخل الشرفة وترك علياء في السرير لتهدأ. وجد مذكراتها مازالت مفتوحة أمامه، انتابه الفضول أن يعرف ماذا تكتب علياء؟ وكيف تراه وترى الجميع "اليوم هو الذكرى الثانية عشر لوالدتي وهو أيضا الذكرى الثالثة لوفاتي" استغرب عادل الجملة، كيف ماتت، ماذا حدث منذ ثلاث سنوات، لم يعرف وهي لم تكتب أكثر من ذلك في ذلك اليوم، حاول أن يذهب قبل ذلك لم يجد، إما أنها لم تكتب قبل ذلك أو أنها تكتب في دفتر آخر انتهى فأكملت في هذا الدفتر، قلب بعد ذلك وجد في نفس اليوم من كل عام ذكرى وفاة والدتها، هو يعلم أن ميلادها ذكرى وفاة أمها، ولكنه استغرب لماذا لم تشر لميلادها وتعبره تاريخ وفاتها، وجد في يوم آخر "لا أعلم لما يعارض عادل دخولي المدرسة الثانوية، لما أصبح بهذه العصبية والحدة في التعامل، لقد تغير كثيرا، أعلم أني أحبه، أحب فيه خوفه عليّ، كنت أشعر به وهو يراقبني ويراقب الخفراء ليطمئن على وصولي المدرسة وسلامتي، أحبه منذ كنت طفلة أراه يضرب من يأخذ لعبتي أو الحلوى مني حتى لو كان خيري أخوه. ما الذي تغير؟ لماذا تغير هكذا." أكمل في الأوراق فوجد اليوم الذي يعرفه جيدا: "اليوم كان أسوأ يوم في حياتي، كرهت فيه نفسي وعادل. ماذا كان يظن نفسه فاعلا بي؟ أهنت عليه، ما هذه النظرة التي كانت تملأ عينيه في ذلك اليوم؟ لقد أعاد إلي عادل صرخات فردوس وصرخاتي يوم قتلتني خديجة، بحجة الختان، يوم تركتني أنتهك وكانت تزغرد مع باقي النساء. لقد قتلني عادل." لقد فهم عادل لما تكتب وفاتها إنه الختان وصرخات فردوس، كأن كلامها ذكره بضعف والدته ووهنها وسلبيتها، أراد أن يخرج نفسه من هذه الدوامة فأكمل يقرأ حتى توقف عند صفحة أخرى: "لم أتوقع من خديجة أن تفعل معي ما فعلت، لقد كشفت عليّ لتتأكد من بكارتي، لتتأكد أن عادل لم يلمسني ولا أحد غيره بعد مرور ما يقارب العام على ما فعله عادل، لماذا الآن، لماذا تتهمني بإغواء عادل؟ هل اتهمني هو بشيء؟ لقد عارض دخولي الجامعة وكان يراقبني رغم أني أذهب مع مأمون كل يوم وأعود، أعلم أنه كان يراقبني، ولكني كنت أكرهه لما فعله بي، ترى هل كان هو من قال لعمتي أني أغويته؟ لا أعرف ولكن خديجة قتلتني مرة أخرى بما فعلته، لم أتحدث عما فعله عادل كي لا أفسد ما بين العائلة من ود، ولكني أخاف أن يكررها، أن يفعلها مرة أخرى، أنه خبيث أخاف منه." كانت كلمات علياء في ذلك اليوم مثل الكابوس، لقد اتهمتها خديجة بما قاله عليها وأرادت أن تتأكد، لقد كان هو السبب فيما فعلته خديجة وفي نقمة علياء عليه رغم حبها له. لقد كان سببا في جرحها دون أن يدري، لم تقل له خديجة أنها فعلت ذلك وأنها كشفت عليها. شعر بالخزي من نفسه ومن تصرفاته وأفعاله. ولكنه أراد أن يكمل ويرى ويعرف علياء لأول مرة، وجد يوميات عادية، حتى وصل لما كتبته عن يوم زفافها وما تلاه: "أنا أكره عادل والعادات والتقاليد وأكره خديجة، أكره الجميع، لقد وافقت على زواجي بعادل لحبي له، أردت أن أغيره، أجعله عادل الذي طالما عرفته، لم أخبر أحدا بالسرقة وافتعلت المشاجرة مع المحاسب، وأخبرت بعدها مأمون ليتصرف، مأمون عاقل وسيخاف على عادل ويحاول إصلاح ما أفسده دون فضيحة، خفت من رد فعل والدي على ما فعله عادل، ولكني ندمت بعد زفافي بعادل أني لم أفعل وألغي هذا الزفاف الذي كان فضيحة على رؤوس الأشهاد، أكان يجب أن أفضح هكذا، لقد أمرنا الله بستر هذه الأمور ولكن العادات والتقاليد –تبا لها من عادات وتقاليد –تقضي بفضح ما أمرنا الله بستره. لم أطق لمسة عادل، بعد ما فعله بي أمام أمه وعمتي، عندما هم بي مرة أخرى كنت أرى أمامي وحش بمعنى الكلمة اختفت من أمامي ملامح عادل وجدت أمامي وحش كاسر وجهه يضم ملامح عادل والطبيبة وخديجة ووالدي والوحوش التي كنت أتخيلها عندما أقرا كتب حكايات ألف ليلة وليلة، فعلا لم أرى عادل وقتها، ولم أرى عادل يوم حاول الاعتداء عليّ في الفندق. لقد استطاع أن يأخذ ما أراد بعد أن أنهكت في فض بكارتي ولكنه لن ينالني ثانية إلا إذا عاد كما كان، عادل الذي أحببته. أعلم أني جرحته بكلامي اليوم، ولكن كان الجرح لرد كرامتي التي أهدرها، لم يعلم حتى الآن أني أعلم بأمر اختلاسه، لن أقول له، لن يراني دون حجابي، لا أعرف كيف سأهرب منه، ولكن لن أكون فردوس أخرى." مرة أخرى وجد عادل أنه السبب فيما وصلت له علياء، ومرة أخرى وضعت يدها على جرحه بكلامها في المذكرات، إنها أمه واستسلامها لعمه وما يقول ولكلامه هو وأخوته من بعد عمه. ترك عادل المذكرات عندما وجد علياء تبكي وصوتها يناديه ويكاد يغشى عليها، أٌقفل دفتر مذكراتها وجرى عليها وضمها إليه.
حاول أن يعيد إليها وعيها كثيرا، حتى نجح أخيرا وأفاقت علياء، وجدت نفسها بدون حجابها ولكن ترتدي ثياب عادية، استغربت وتذكرت أنها لم تكن تلبس تلك الثياب من قبل، آخر ما تذكره هو أن عادل كاد أن يهم بها.
علياء (بعدم فهم): ماذا حدث؟
عادل (بلهفة وخوف حقيقي): لقد كنا على وشك بدء العلاقة وجدتك تبكين وتصرخين ثم أغشى عليك، ألبستك ملابسك وحاولت أن أعيد إليك وعيك، هل أنت بخير؟ ماذا حدث لكي يغشى عليك؟
خافت علياء من عادل، هل يسألها أم أنه يتهمها، فصمتت. أما عادل ففهم أنها لا تعرف حقا ماذا يريد، أراد عادل أن يقترب من قلبها، أراد أن يذيب جبال الثلج في علاقتهما، لقد فهم أنه هو من تسبب لها في كل ما تعاني منه؛ لذا يجب على كل منهما مساعدة الآخر ليجنيا الحب. ضمها عادل له وقال لها همسا في أذنها وهي قرب شفتيه: "أنا أحبك وأخاف عليك، عليك مساعدتي يا علياء، لماذا خفت مني وكنا في حال لا خوف فيها؟"، لم ترد سوى بكلمة خرجت وسط البكاء "رأيت الوحش".

أدرك عادل أن مهمته في القرب من علياء صعبه وتحتاج للوقت، قرر أن يقرأ مذكراتها كلها دون أن تعلم؛ لتكتب ما تشعر به، سيترك لها فرصة لكتابة ما شعرت ليستطيع أن يحل هذه المشكلة، لقد تعلم أن أي محاولة للعنف مع علياء ستقضي عليها تماما وهو يكره ذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...