كانت علياء تجلس في حجرة خديجة، اعتادت أن تفعل ذلك منذ
وفاة خديجة، تجلس في حجرتها وتعود بذاكرتها لأيام مضت وولت. تذكرت علياء كيف ظن بها
الناس الجنون عندما رفضت أن تصرخ أي سيدة أو تنوح على خديجة، طلبت منهم الاستماع
للقرآن والصمت التام. لن تسمح لأي منهن أن تصرح أو تولول على خديجة، لن يحزن عليها
أحد كما حزنت هي. أرادت علياء أن تبدأ بما تقدر عليه بمنع ما يغضب الله وما نهى
عنه.
طلبت من والدها أن تظل غرفة خديجة كما هي ولا تتغير، أن
يكون لها وحدها حق الدخول هناك، كان عبد الخالق يعرف مقدار تعلق علياء بأخته رحمها
الله؛ فلم يرفض طلبها وبالفعل أصبحت غرفة خديجة هي ملاذ علياء كلما ضاقت بها
الحياة، تدخل هناك تتذكر كيف كانت ترتمي في حضن خديجة عندما تخاف أو يراودها كابوس
ما.
بحثت في أدراج الدولاب عن مذكراتها، لقد كان المكان
الآمن لها كي تخبئ مذكراتها، لن يجرؤ عادل أبدا على تفتيش غرفة خديجة سواء كانت
حية أو ميتة، حتى خديجة نفسها لم تعرف أن علياء خبأت مذكراتها في دولابها، كانت
تدخل غرفة خديجة في حياتها حتى في حالة عدم وجودها تنتظر خديجة تنام في فراشها،
ولا يجرؤ أحد على منعها من ذلك، لذا كانت تخبئ مذكراتها منذ تزوجت عادل في دولاب
خديجة.
تعلم شك عادل الدائم فيها وفي كل النساء، ولا تعرف سبب
هذا الشك المطلق، كل النساء ساقطات عاهرات، كلهن دنيئات. لا تعرف لما يفكر بتلك
الطريقة، كانت تحبه، ولكنها مع الوقت ومبالغته في إهانتها معايرته لها أمام الجميع
بعدم الإنجاب، هو يعلم جيدا كما تعلم هي أنهما لن ينجبا؛ لسبب بسيط أنهما حتى الآن
لا يعيشان مثل أي زوجين، مازالت تجلس أمامه بالحجاب وأصبحت تنام في غرفة خديجة، كان
يوم زواجها هو آخر يوم استطاع عادل فيه الحصول على ما يريده منها، ومن بعدها بسبب
مرضه ومن بعده عناده معها ثم انشغاله بالمصنع ثم الشركة التي أقامها لتصدير منتجات
المصنع وتسويقها لم يجد الوقت الكاف أو الرغبة في الحصول عليها، كأنه يقول لها لا
وجود لك في حياتي، لا أرغب فيك ولا أحبك.
لم تعرف علياء أبدا سبب معاملة عادل الجافة لها، حاول
محمد التحدث معه بلا طائل وحتى والدها حاول معه وكان يقول لهم إنها زوجتي فلا
يتدخل أحد. كانت كثيرا ما تسأل نفسها لماذا تزوجها ولماذا حاول قبل زواجه منها
الاعتداء عليها، ولماذا فضحها على رؤوس الأشهاد يوم زواجها "بحجة العادات
والتقاليد". لقد سئمت هذه الحياة، ولكن زاد على ذلك ما كانت تجده على ملابس
عادل من آثار الروائح النسائية وألوان أدوات التبرج النسائية كلما عاد من مصر.
حاولت أن تواجهه بذلك، أنكر ثم بعد ذلك، طعنها طعنة قضت
على ما تبقي لها من كبرياء وحب له، قال لها " أنهن نساءً عرفن كيف يرضين
الرجل، أنهن نساءً على العكس منك، مجرد عاهرة لا تعرف ماذا تريد أو ماذا تفعل، أنت
مجرد ساقطة ساقها القدر في طريقي أخذت منها ما أردت ثم مللت" نزلت كلماته
عليها كالصاعقة، صدمة كبيرة، ولأول مرة تبكي علياء أمام عادل، لقد كانت كلماته
بمثابة خنجر طعنها به في قلبها وكبريائها، يا له من وغد، إذا كان يراها ساقطة
وعاهرة كما الباقين لما يبقي عليها، لماذا لا يطلق صراحها ويطلقها. لم تتمالك
نفسها مما قاله، بكت ثم غابت عن الوعي لم تشعر بأي شيء، وعندما عاد لها وعيها وجدت
عادل قد تركها في نفس مكانها لم يفكر حتى في حملها ووضعها على الفراش. شعرت أنها كرهته
منذ ذلك اليوم. حاولت أن تطلب الطلاق وكما توقعت منعها الجميع عن ذلك. لذا قررت
بعد وفاة خديجة أن تعيش في غرفة خديجة.
كان محمد يشفق عليها وعلى حالها، لا يستطيع أن يفعل شيء،
حاول مع والده أن يجبر عادل على طلاقها ولم يفلح، حاول أن يتكلم مع عادل ولكنه لم
يفلح أيضا. ثم أراد لها الخروج مما هي فيه، أن تشغل وقتها بما ينفع الناس ويخرجها
من دوامة عادل وحزنها، خاصة بعد وفاة خديجة؛ فاقترح عليها محمد أن تشترك في
التدريس في فصول محو الأمية التي بدأتها الدولة، وأن تساعد في الحملة الأخرى
الخاصة باستخراج شهادات ميلاد وبطاقات تحقيق الشخصية للنساء، فهي تستطيع بأسلوبها
في الحديث إقناعهن باستخراج تحقيق الشخصية وشهادات الميلاد وكذا الالتحاق بفصول
محو الأمية.
أعجبت علياء بفكرة محمد، خاصة عندما رحب بها عبد الخالق،
فكرة رائعة تساعد محمد في إثبات نفسه في العمودية، كما أنها تساعد في شعبية عبد
الخالق حيث أصبح عضو في مجلس الشعب نائبا عن دائرته، لذا يجب أن يثبت كفاءته أمام
الحزب لكي يظل في منصبه في المجلس.
كانت علياء تجد أن فرصتها في تحقيق غايتها من القضاء على
العادات والتقاليد المخالفة للشرع، والتي تسلب النساء حقوقهن في ذلك، أن يتعلمن،
ويكون لهن ما يثبت وجودهن أمام الدولة، لكي تستطيع أي واحدة منهن المطالبة
بحقوقها. بقي أمامها أن تقنعهن بأن الدين أهم من العادات والتقاليد، أن الدين أهم
أن يتبع من هذه العادات التي أهدرت حق المرأة وكرامتها.
وجدت علياء أن الحل أن تبدأ مع الفتيات الصغيرات، أن
تزرع في الجيل الصغير لكي ينشأ على أفكار جديدة غير التي وجدتها هي، ساعدها مأمون
ومحمد على ذلك، وكانت بعد انتهائها من دروس محو الأمية تستعين بشيوخ من القاهرة
أحضرهم محمد ومأمون لكي يدرسوا الدين للفتيات والفتيان الصغار، وأن يكون محور
الدروس حقوق المرأة في الإسلام.
لقد وعت علياء الدرس، لا طائل من إقناع الكبار، لو كانوا
فكروا لكانوا اقتنعوا وتخلوا عن العادات والتقاليد، هدفها هو الجيل الصغير،
الأطفال والمراهقون والشباب، ركزت على هذه الفئات، تعلم أن الحصاد لن يكون سريع
ولكن عليها أن تصبر.
كانت تكتب مذكراتها يوميا، وعندما تحاول استرجاع
ذكرياتها وما تمر به، تجد أن أسعد أوقاتها هو الوقت الذي تقضيه في فصول التوعية
والتعليم. وجدت مذكراتها وفتحتها وعادت بالذاكرة لكل ذكرى أضحكتها وأدخلت عليها
السرور، ولكنها خرجت من شرودها على صوت هاتفها المحمول، وجدت رقم عادل يتصل بها.
سافر عادل منذ الأمس للقاهرة وقال إنه سيمكث ثلاثة أيام
يعود بعدها، لم يتعود أن يتصل بها، فتحت الخط سمعت صوت عادل يستغيث ولم تفهم شيئا
مما قاله ثم انقطع الخط، حاولت الاتصال به كثيرا لم يرد، اتصلت علياء بمحمد على
الفور وحكت له ما حدث. شعر محمد بالقلق الذي ساور علياء، وتعجب أنها ما تزال تحب
عادل على الرغم من جبال الثلج بينهما، اتصل محمد بفراش الشركة ليذهب ويطمئن على
عادل وانتظر منه الرد، بعد حوالي نصف ساعة اتصل به الفراش يستنجد به، لقد فتح
الشقة بالمفتاح الذي يتركه عادل معه ليجد عادل غارقا في دمائه في مدخل المنزل،
وهاتفه المحمول ملقى جانبه. طلب محمد من أمين الفراش أن يتصل بالشرطة والاسعاف
فورا وأنهم في الطريق له وأن يتأكد من أن هاتفه المحمول يعمل طوال الوقت.
لم تصدق علياء حرفا مما سمعته، من هذا وماذا يقول؟ أين
عادل؟ هل هي مكيدة من عادل ليعرف إن كانت مازالت تحبه أم لا؟ ثم من له مصلحة في
قتل عادل؟ وطلبت أن تذهب مع محمد وأبيها وطلب مأمون أن ينضم لهم لابد له هو الآخر
أن يطمئن على أخيه، لم يوافق أحد على سفر فردوس خوفا مما قد يجدوه، كما أن فردوس
كبرت في السن ولم تعد تستطيع الحركة السريعة ستبطئ خطاهم، حجزوا على الطائرة
المتجهة للقاهرة. شعرت علياء أنها لابد أن تسافر علياء لتطمئن على عادل، إنه زوجها
وحبيبها، لم تعرف سبب هذه المشاعر المتناقضة التي تشعر بها، كانت على يقين من
كرهها لعادل ومن سيرته وصحبته، ما الذي يجعلها تخاف عليه، وترتبك، وتتمنى أن يكون
بخير، أين كان ذلك الحب؟ لا تعرف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق