الآن
لم تعلم رضا لماذا ظلت تبحث في أدراج الدولاب عن صورها القديمة ،التي طالما
احتفظت بها كوثر. لقد أرادت أن تبحث عن هذه الصور لا تعلم هل هو الاشتياق للأيام
الخالية التي مرت عليها قديما، أم أنه الحنين لملمس الصور التي أصبحت الآن تظهر
على شاشة هاتف أو كاميرا رقمية. لقد وجدتها أخيرا وجلست وحدها في الغرفة تنظر
إليها وتشرد لتتذكر ذكريات هذه الصور ولم تشعر بفارس عندما دخل عليها الغرفة
فارس: الجميل سرحان في ايه؟
رضا: في الصور القديمة دي، انت شوفتها قبل كده؟
فارس: طب وريني الأول عشان أعرف
ضحكت رضا عندما أدركت أنها تداري الصور في حضنها، وأنها تحتضنها كما تحتضن
الأم وليدها، وأن فارس رغم جلوسه بالقرب منها على الفراش لا يستطيع مشاهدة هذه
الصور. استدركت رضا الأمر واعتدلت في جلستها بجانبه ولكنه احتضنها وطوقها بذراعه
وأخذ يشاهد معها الصور وهي تحكي له ذكرياتها. صور عديدة كانت كل صورة منها تلخص
مرحلة في حياة رضا وأسرتها، صورة لها قال لها برهان أنه أخذها لها عندما مشت لأول
مرة وأخرى في حفل سبوع هادية وأخرى عندما دخلت المدرسة وصور لهم جميعا في رأس البر
وجمصة وهي المجال المتاح أمامهم للمصيف في ذلك الوقت، وتوقفت رضا أمام صورة
لوالدها قال لها أنها كانت في بداية زواجه من كوثر كان يضحك في هذه الصورة وكانت
تشعر أن هذه الضحكة كانت صافية بالفعل خرجت من داخله لترتسم على وجهه ليضيء بها،
وبكت رضا لاشتياقها لبرهان وشعورها بافتقاده وطوقها فارس بذراعيه وذهبت بفكرها قديما
إلى أيام الطفولة والصبا
1993
نجحت رضا في المرحلة الثانوية وأخيرا سيتحقق حلم حياتها الذي أرادته كثيرا
أن تتدخل الكلية التي تتمنى الالتحاق بها، هنّأ الجميع كوثر وبرهان بنجاح رضا
والمجموع الذي حصلت عليه، فهذا المجموع لم يسبق أن حصل عليه أحد في كلتا العائلتين
عائلة كوثر وبرهان. وفي هذه الفترة وبسبب كثر عصبية برهان وضربه لرضا أثناء
المذكراة وخاصة في أيام الامتحانات قالت له احدى الجارات أن كثرة ضربه لرضا وهادية
يجعل الناس تعتقد سوء سلوكهم وليس المذاكرة لهما فهما كبرتا الآن وأصبحتا في سن
الأنوثة والضرب في هذا السن يعني أنهما سيئتا السلوك، عدل برهان بعد كلامها عن
الضرب ولكن صوته العالي لم يهدأ بسبب عصبيته المفرطة حتى أنه في احدى نوبات التفتيش
المستمر التي كان يقوم بها منذ وعت بناته على الحياة وجد مذكرات رضا وقرأها.
حين قرأ برهان مذكرات رضا ووجد شعور رضا وكلماتها بكرهه وكره كوثر لم يحتمل
الكلام وتحركت في عينيه لمعة تكاد تكون
دموعا أو بريق الغضب لم تعرف رضا السبب ولكن بعدها تغير برهان مع رضا كثيرا أصبح
أقرب لها ويحاول الاستماع لها والكلام معها لقد اقتربا كثيرا منذ قراءته لمذكراتها.
فرحت رضا كثيرا بقرب برهان منها وأصبحا أصدقاء ورغم أنها تعرف أن طباع لن تتغير
ولكنها قررت التعامل مع هذه الطباع وهذا الشك الأزلي في أي أنثى.
تعرف رضا أن برهان تعود على الأنانية وأن تكون رغباته أوامر يتنافس الجميع
على تحقيقها وحاولت أن تسير ضمن هذا الركاب وأن تكون واحدة ممن يتسابقون لإرضائه
فهو والدها وأصبح بقربه منها كل ما لها، اكتشفت أنها تحبه كثيرا ولكن رغم قربهما
الشديد لم يتغير احساس رضا باليتم وإن كان قد انسحب من الساحة إلى حين.
1997
تخرجت رضا من الجامعة وكانت هادية تقترب هي الأخرى من إنهاء جامعتها أما
إيمان فكانت في الثانوية العامة في ذلك الوقت. عملت رضا مباشرة بعد تخرجها من
الجامعة موظفة حكومية ولكنها لم ترضى بالوظيفة فبدأت بالدراسة مرة أخرى في مجال
اللغات لتعمل به ولكن برهان رفض ذلك ووجد أن أي شخص يتمنى العمل الحكومي، وانصاعت
رضا لعدم تمكنها من تغيير الأمر الواقع.
بسبب المشاجرات والمشادات المستمرة بين برهان وكوثر والتي كانت تعاود
الاشتعال من حين لآخر، رغم تعود كوثر على طباع برهان، ولكن يبدو أن الشجار بينهما
كان عادة يخافا على تغييرها حتى لا يحسدهم أحد. كل واحدة من البنات قررت الهروب من
ذلك، رضا قررت عدم الزواج وهادية قررت أن تتزوج أول طارق للباب لتهرب من رمضاء
البيت، أما إيمان فقد كرهت البيت بمن فيه وقررت أن تبحث عن الحياة خارج المنزل مع
صديقاتها.
كان قرار رضا بعدم الزواج لعدم رغبتها في الارتباط والزواج نابع مما رأته
من مشاكل دائمة في بيت تعرفه، فعمتها مطلقة وأمها طُلقت مرتان وكذا أكثر من صديقة
لها تزوجت وطُلقت. أصبح الطلاق يحيط بها من كل جانب فكان القرار بعدم الزواج هو
خيارها الذي حاولت الدفاع عنه أمام رغبة كوثر في تزويجها. فكوثر مثل أي أم تشتاق
لرؤية ابنتها زوجة وفي عصمة رجل يحبها ويحترمها، أرادت لهن كوثر الزواج من أزواج
يكن لهن أزواج بمعنى الكلمة، على العكس من برهان.
كان برهان يرحب بقرار رضا بعدم الزواج حتى بدأت نساء العائلة تكثر الكلام
حولها فبدأ الشك يساوره في أخلاقها أو أنها بعدم الزواج تداري على فضيحة ما، إلا
أن رضا لم يثنيها عن قرارها بعدم الزواج أي شيء. لن تسمح لأي رجل مهما كان أن ينتهك
حرمة حياتها، وأن يكون له السلطان عليها في أي شيء. لن تسمح لرجل أن يتحكم فيها
وفي حياتها وما تحبه، كفى عليها أن برهان يفعل ذلك لن تسمح لآخر لا تعرفه ولا تعرف
عنه شيء أن يفعل ذلك، لن تسمح لآخر أن يجعلها تحمل اللقب الذي يجعلها مطمعا في
أعين الذئاب "مطلقة". لذا فكانت ترى لقب "عانس" هو وسام على
صدرها، إذا كان لابد أن يطلق عليها لقبًا ما، حتى قابلت فارس.
أما هادية فكانت تبحث دائما عن الحب الذي طالما اشتاقت إلى وجوده في
حياتها، كانت الأقرب لكوثر من أخواتها لذا عندما كانت تتحدث مع كوثر كانت تحلم أن
تجد الحب الذي ضلت كوثر طريقه، ووضعها حظها –الذي لا تعرف كيف تصف –في طريق برهان.
بعد بداية عمل رضا، كانت إيمان في المرحلة الثانوية وكانت كوثر تريد أن
تزوجها بأي طريقة كانت، وتقدم أحد الجيران لخطبة إيمان، لم يكن وضعه الاجتماعي أو
الدراسي مناسبا لإيمان وتوقعت رضا رفض برهان لهذا الطالب، ولكن برهان لم يفعل.
استغربت رضا الأمر وطالبته برفض الأمر برمته وحاولت مع والدتها أن تفعل. إن طالب
يد أختها الصغيرة لم ينه تعليمه واكتفى بالتعليم المتوسط وأختها في الثانوية
العامة وسوف تدخل الجامعة، وسنها لا يؤهلها أن تختار في هذه المرحلة، ولكن لا حياة
لمن تنادي وخطبت إيمان خطبة لم تدم سوى أشهر معدودة انتهت مع دخولها الجامعة. حيث
اكتشفت إيمان عدم التكافؤ بينها وبين خطيبها فأسرعت بإنهاء الخطبة التي لم يكن
لبرهان رأي في بدايتها أو نهايتها. وسرعان ما تقدم أحد أقربائهم لإيمان ليتقدم
لخطبتها، وافقت عليه إيمان كانت هي في الجامعة وهو أنهى دراسته الجامعية وعمل في
احدى الشركات، لم تكن رضا ترتح له ولكن لم تتكلم، خاصة أنها وجدت أختها تحبه بشدة.
لم تقل رضا لأختها أن هذا الذي يدعي حبها الآن كلم هدى ابنة عمتها ليتقدم
إليها ولكن آثرت الصمت حتى تتحقق من صدقه في حب إيمان، ولكن الأقنعة سرعان ما تقع
عن الوجوه، ظهر طمع الخطيب في برهان، ولكنه لم يتحمل سوء طباع برهان من عصبية وسوء
تقدير للأشخاص والمواقف، ولكنه تسبب في جرح كبير لإيمان كان على رضا أن تتدخل
لتشفي جرح أختها. ومر الموقف ومرت الأيام وشفي جرح إيمان وقررت التركيز على كليتها
ودراستها وأن تنسى الحب والارتباط فالرجال كلهم لا يستحقون سوى القتل أو الحرق.
2000
كان فارس بالفعل هو فارسها، فارس أحلامها الذي كانت تعتقد أنه غير موجود في
هذه الدنيا، وأنه موجود فقط في الأفلام وقصص الحب التي كانت تحب أن تقرأها دوما. كان
بالنسبة لها الأمان الذي لم تشعر به قط في حياتها، دخل حياتها صدفة وتحمد الله
أنها قابلته في الوقت المناسب وأنه أصبح زوجها. كان فارس يفهمها بمجرد النظر إلى
عينيها، كانت تقابله وتخرج معه في بداية تعارفهما كانا أصدقاء، وكانت تشعر نحوه
براحة وأمان تجعلها تحب التواجد معه، لم تدرك وقتها أنه الحب حتى تزوجا وعرفت كم
كانت محظوظة عندما اختارته ووقفت في وجه والدها تدافع عنه عندما قال لها أنه في
مقتبل حياته وسوف تشقى معه ولكنها وافقت عليه وتمسكت به، ساعدها أن برهان لم يكن
يأخذ قرار يخص زواج بناته، هن المسئولات عن الاختيار والسؤال عن الزوج المرتقب.
بالطبع تهرب برهان من جهاز ابنته وقال لها أنها تعمل وبالتالي هي المسئولة
عن تجهيز نفسها وهدية منه سيشتري لها غرفة من الجهاز أما الباقي فمسئوليتها هي،
ووافقت وتمت الزواج.
2002
كان زواج رضا فاتحة الخير على أخواتها حيث تعرفت هادية على محمود وكان صديق
فارس، كان محمود يبحث عن زوجة يحبها ويكون لها كل شيء وتكون له كل شيء، زوجة تؤسس
له الأسرة التي طالما حلم بها وتصبر معه على الحياة بحلوها ومرها وكانت هادية هي
من يبحث عنها، منذ رآها أول مرة دخلت إلى قلبه وشعر أنها من يحب أن يكمل معها
مشوار حياته وهي أيضا شعرت أنه فارسها وفارس الأحلام الذي طالما حلمت به أحبته
بشدة وتزوجته وهي حتى الآن تحمد الله أنهما تزوجا.
2003
في أخر سنة في الجامعة، وجدت إيمان أمجد زميلها يطلب منها التحدث على
إنفراد ولم تكن تلك عادته. استمعت له إيمان وفوجئت منه يفاتحها بحبه لها ورغبته في
الزواج منها، لم ترد عليه إيمان ولكنها قالت له أنها أغلقت قلبها منذ جرح قبل ذلك،
وطلبت منه مهلة للتفكير وكلمت رضا وطلبت أن تقابلها بعيدا عن برهان وكوثر
رضا: خير يا إيمان في إيه يا حبيبتي، قلقتيني
إيمان: مفيش يا رضا بس أمجد زميلي اتقدم لي وأنا
مش عارفة أقوله ايه
رضا: انتي بتحبيه يا إيمان
إيمان (وقد تغير وجهها عندما تذكرت من جرحها): أنا نسيت الحب من زمان وانتي عارفة
رضا (اقتربت من أختها وطوقتها بذراعها): مش عشان تجربة فاشلة ننسى حياتنا، لازم
تفكري في حياتك يا بنتي، انتي رأيك فيه ايه؟
إيمان: شاب كويس ومحترم ومن الشلة بتاعتنا وعارف
كمان حكاية الحب الفاشلة دي
رضا: بصي يا حبيبتي دا ما كانش حب، انتي كنتي لسه صغيرة ومش
فاهمة وهو كمان كان طماع ولما ما عرفش ياخد من ابوكي حق ولا باطل انتي اللي دفعتي
التمن.
إيمان: مش عارفة أعمل ايه، ولو ماما سمعت أو شمت
خبر ح تمسك فيه، وابوكي لا ح يقول اه ولا لأ ما انتي عارفاه مش بيحب يتحمل مسئولية
اي حاجة او اي قرار
رضا: خلاص، لو انتي موافقة من حيث المبدأ خليني اقابله
واقولك رايي فيه، واقولك اذا كان مناسب ولا لأ
إيمان: خلاص اتفقنا، بس جوزك مش ح يزعل
رضا: لا ما تخافيش، تحبي تروحي النهاردة ولا تطلعي من عندي
على الكلية على طول
إيمان: لا خليني بايتة عندك أحسن
قابلت رضا أمجد وتحاورا معًا وأحست كم يحب إيمان حتى قبل قصة حبها الفاشل
وقالت رأيها لأختها ولكنها طلبت منها أن تعطي نفسها فرصة حتى تتأكد أنها نست القصة
القديمة حتى لا تظلم شخصا آخر معها، وبالفعل وجدت إيمان نفسها تحب أمجد، لأنه كان
فارس الأحلام الذي طالما تمنته في خيالها.
أما كوثر فبعد زواج بناتها شعرت أنها حازت الدنيا كلها، وكان كل ما يؤلمها
هو أن ابنتها الكبرى عاقر، لن تسمع كلمة ماما من أحد مثلما سمعتها كوثر وكذا هادية
وإيمان ولكنها سلمت لقضاء الله وقدره.
الآن
فارس: رضا رضا، مالك روحتي فين
رضا (الدمع يترقرق في عينيها): مفيش يا فارس سرحت شوية بس روحت فيها بعيد
احتضنها بقوة ومد يده تمسح دمعة سقطت من عينيها تبعتها شلالات من الدموع،
حزنا على فراق والدها وابتعاده عنهن، وخاصة بعد أن عرفت أن المحامي الذي يتصدر
لقضايا والدها هو نفسه من جرح قلب ابنته يوما ما عندما كان طامعا فيما يدخره
برهان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق