جلست كوثر في شرفة المنزل ترتشف الشاي وتنظر في السماء لتتذكر كل ما عانت
منه حتى حصلت على هذه الشقة، شتقتها، وعادت بالذاكرة منذ وفاة حماها
أغسطس 1979
بعد إنتهاء مراسم عزاء والد برهان واجتمع برهان وزوجته الحامل وأخته تفيدة
وابنتها، عاد الجميع منهك ومتعب بعد عناء ثلاثة أيام متواصلة من العزاء. وبعد مرور
أول أيام الخميس على والد برهان طلبت منه تفيدة أن يجد مسكنا آخر له ولزوجته؛ لأن
المنزل الآن ليس منزل والده وإنما أصبح من حقها أن تعيش فيه باعتبارها الأنثى
والمطلقة، التي ليس لها مكان آخر تذهب. على العكس من برهان؛ فهو الرجل المسئول عن
إيجاد مسكن له ولزوجته، وإذا أراد أن يعيش معها في الشقة فيجب أن يدفع مقابل ذلك نفقات
المعيشة في المنزل. حيث إن تفيدة لن تتحمل عبء منزل تعيش فيه أسرة كبيرة. وعلى
كوثر أن تعلم أنها المسئولة عن شئون المنزل من طعام وشراب ونظافة وأن تفيدة ليس عليها
أية مسئوليات تخص المنزل لا من حيث النفقات أو مراعاة شئونه أو مراعاة شئون
ابنتها، وبخصوص ولادة كوثر فعلى برهان أن يجد لها مكان تعيش فيه حتى ولادتها
وتعافيها فهي لن تخدم أحد.
فوجئ برهان من كلام تفيدة، فهو أول مرة يسمع منها هذا الكلام كما أن هذه
شقتهم جميعا فعلى الجميع أن ينفق على البيت ويتحمل مصاريفه. فإذا كانت تفيدة بخيلة
فهو ليس له مدخرات كثيرة مثلها؛ فهي سافرت ومعها من المدخرات ما يكفيها ويمكنها من
الإنفاق على المنزل. وبخصوص كوثر إنها على وشك الولادة إنها الولادة الثانية فكيف
ستتمكن كوثر من العمل ومراعاة الأولاد وكذلك شئون المنزل وهدى وتفيدة، فهي لن تصمت
على هذا الوضع ولقد تركت له المنزل سابقا بسبب تفيدة وتصرفاتها، ولكن إذا تركت
المنزل هذه المرة فالجميع سيطالبه بمصاريف الحامل والطفلة التي على يديها.
وهنا وقف الكلام على لسانه، سيضطر أن ينفق على كوثر وولادتها وابنتها أو
يضطر للانفاق على كوثر وولادتها وابنتها وتفيدة وابنتها مقابل إقامته في شقة
والده. لم يعجب هذا الوضع برهان فهو يعرف أن الشقة من حق الولد، آخر من تزوج من
الذكور وتزوج في الشقة وبالتالي فهي حقه هو، ولكن إذا أرادت تفيدة أن تعيش فيها
وحدها عليها إذن أن تدفع من مدخراتها –التي تكفيها حتى انقضاء الأجل –مقابل أن يجد
شقة أخرى ليعيش بها ولتجنب المشاكل مع كوثر وتفيدة التي أصبحت المقرر اليومي لهم
منذ إنهاء تفيدة عملها بالخارج وعودتها للإقامة بصفة دائمة في مصر.
ولكن كوثر تذكر أن المشاكل وصلت بين برهان وتفيدة أن حررا العديد من محاضر
الشرطة بينهما ودفعت له تفيدة مبلغ لا يذكر مقابل أن يترك لها الشقة ويبحث عن
أخرى، في هذه الأثناء بحث لها عايش عن شقة أخرى بالقرب منهم حتى تتمكن عبير من
مراعاة كوثر في ولادتها وبعد ذهابها للعمل، حيث إن عبير لم تتزوج بعد وأيضا لم تجد
عملا وأصبحت تشعر بالوحدة خاصة بعد زواج أمينة ووفاة والدتها، وبالتالي فكون كوثر
بالقرب منها أصبح أمل أن تجد المتنفس الذي تغير به من روتين يومها المعتاد،
وبالفعل نجح عايش أن يجد شقة بالقرب منه لتعيش بها كوثر عبارة عن حجرة واحدة وصالة
ومطبخ وحمام. فرحت كوثر بها رغم صغرها لأنها ستكون مملكتها الخاصة التي ستعيش بها.
انقطعت علاقة برهان وتفيدة منذ أن حصل من تفيدة على مقابل ترك الشقة وتحرير
محاضر متبادلة لعدم التعرض وتسجيل التنازل عن الشقة وتحويل عقد إيجارها باسم تفيدة
حتى لا يعاود برهان الكره بطلب مقابل ترك الشقة، فتفيدة تعرف مقدار حب برهان
للنقود؛ لذا أرادت صد هذا الباب نهائيا وغيرت عقد الشقة وكانت آخر علاقة برهان
بأخته مشاجرة كبيرة انتهت في قسم الشرطة، حتى الآن لم تعلم أسباب هذه المشاجرة.
أنجبت كوثر ابنتها هادية في شهر سبتمبر 1979 واستقرت في هذه الشقة تساعدها
أختها عبير حتى زواج عبير بعد ذلك بعامين، اعتادت فيهما كوثر أن لها بنتان ترعى
شئونهما لا يعيرهما برهان أي اهتمام لا لذنب جنوه سوى أنهما بنات وأنهما بنتاه.
1981
بعد مرور أعوام على معيشة كوثر مع زوجها على حاله المعتادة من أنانية وترك
كل شيء على كوثر، وادخاره للنقود على حسابها، قررت أن هذه الشقة أصبحت صغيرة عليهم
فالآن لديها ابنتان تحتاجان لحجرة خاصة بهما لكبرهما كما تحتاج حجرة أخرى لها
ولزوجها، فلن تسمح أن تظل البنات تنام في الصالة خاصة في الشتاء. بسبب سوء تهوية
الشقة أصيبت رضا بحساسية الصدر؛ خافت كوثر على البنات وطلبت من برهان شقة أخرى
أكبر لتعيش فيها ويكون للبنات حجرة منفصلة وجيدة التهوية، فهي لا تتحمل تعب رضا
ولا تتحمل عدم قدرتها على شراء علاجها وإهمال برهان صحتها لهذا الحد.
ما كان من برهان إلا أنه ادعى الفقر وقلة الحيلة، طالبته آن ذاك بشبكتها
التي أخذها منها بعد زواجهما بأسبوع على وعد السداد مرة أخرى ليقيم حفل لعيد ميلاد
ابنة أخته، فقال لها أن هذا المبلغ وضعه بالفعل في هذه الشقة.
كوثر: برهان هات فلوس شبكتي، اتصرف واكمل عليها واجيب شقة
تانية العيال ح يروحوا مني
برهان (بلا مبالاة): ما يروحوا في داهية، وبعدين شبكة ايه،
أومال كنت ح أجيب الشقة دي منين عشان ألمك فيها انتي وبناتك
كوثر (باستغراب): يعني الشقة دي بتاعتي ولا ايه مش فاهمة؟
برهان (بعصبية): بتاعتك منين، هو مين اللي اشترا الشبكة دي،
بفلوس مين ما فلوسي أنا انتي عايزة منها ايه
كوثر : الأصول والعرف بيقول إنها هدية العروسة من العريس
برهان: وأنا مش عايز أجيب لك هدايا، فلوسي وأنا حر
فيها
وكاد برهان أن يضرب كوثر بعد أن علا صوت مشاجراتهما، واجتمعت الجيران
لتهدئة النفوس، وهنا قررت كوثر أن تبحث عن شقة أخرى تستطيع أن تعيش بها البنات،
وأيضا لا تسبب المرض لهما كما حدث مع رضا.
وبالفعل سألت كوثر عن الشقق وأسعارها، واستطاعت بعد الاشتراك في جمعية في
العمل والاقتراض من زملائها أن تحصل على مبلغ خلو لشقة مكونة من ثلاث غرف تكفيها
وتكفي البنات، وبالفعل قامت بذلك واخذت مقابل ترك شقتها التي تسكن فيها وأجرت
الشقة الكبيرة التي تكفيهم وكانت باسم برهان، فهي لم يخطرعلى بالها قد أنها يمكن
أن تترك هذه الشقة. ومرت الأيام واكتشفت كوثر حملها الثالث، وأنجبت إيمان ثم كان
ما كان من أمر طلاقها الثاني. هنا شعرت كوثر بخطئها حيث أنها استجابت لبرهان في
كتابة عقد الشقة باسمه ولكن برهان لا أمان له. فبعد أن ردها لعصمته مرة أخرى أصبحت
تخاف أن يتركها في أي وقت وظلت تفكر في حل لذلك الوضع.
1990
كانت البنات قد كبرن ودخلن في مراحل البلوغ والمراهقة، وكان حال برهان من
معاكسة الفتيات وزميلات كوثر في العمل كما هو، وكذا بخله الشديد وعصبيته وترك كل
شيء على كوثر لإنجازه، ولكن كوثر لكثرة مشاجراتها مع برهان وخوفها من الطلقة
الثالثة والتي ستكون الأخيرة ألا تجد لها مكانا يؤويها، لذا استغلت لحظة صفاء
واقنعت برهان بضرورة البحث عن شقة أخرى بجانب هذه
كوثر: ياه يا برهان البنات كبرت وقرب يجيلها العدل
برهان: فعلا يا كوثر البت رضا خلاص في ثانوي أهي العيال كبرت
كوثر: طيب مش واجب بقى نشوف شقة كويسة كده عشان العدل لما
يجي يبقى فيه شقة برحة وحلوة كده يعيشوا فيها
برهان: ودي مالها بس يا كوثر
كوثر: دي كويسة بس صغيرة برضه، اه هي 3 أوض بس الأوض صغيرة
وبالعافية العيال عارفة تنام. نخلي دي وندور على شقة حلوة كده تكون مساحتها كبيرة
عشان لما يجي العدل يبقى المكان يشرف
برهان: عندك حق يا كوثر بس ازاي ؟
كوثر: يا برهان ما انت محوش كتير مش ح تعرف تتصرف في اي حاجة
برهان: محوش ايه بس، هو انتي ولا العيال مخليني
اشيل حاجة
كوثر (بعد أن كتمت في نفسها ضحكة سخرية من برهان وكلامه
وتظاهرت بتصديقه): مفيش مشكلة أهو حاول تستلف من هنا وأنا أحاول من هناك نجيب شقة، بس ليا
طلب
برهان: خير عايزة ايه، بخاف منك لما تبقى طيبة قوي
كده
كوثر: نخلي عقد الشقة باسمي
برهان: ليه على اساس اني جوز الست ولا انا عويل
كوثر: بعد الشر عنك، مين اللي قال كده، شقتك اهي موجودة زي
ما هي محدش ح يجي جنبها وبعدين انت عارف بعد ما عايش اتجوز في شقة بابا الله يرحمه
انا ماليش مكان اروح فيه، وانت يا برهان بخاف منك كلمة طالق بتكون على طرف لسانك
في كل مشكلة وببقى خايفة تنطقها
برهان: يا كوثر احنا كبرنا خلاص، انا عارف اني
عصبي. بس انتي عارفة ضغوط الشغل والمفروض انتم اللي تستحملوني. عارف انك متضايقة
من ساعة لما روحتي اخر مرة عند عبير وتقريبا جوزها طردك وكمان بصوا في الحاجة اللي
بعتها سيف اخوكي للبت رضا عشان الدرجات العالية اللي بتجيبها في المدرسة
كوثر: ما تفكرنيش يا برهان، دي كانت مستكثرة الحاجة على البت
وكمان مستكترة عليها التفوق
برهان: عشان تعرفي لولا ضربي وقسوتي عليهم ما
كانوش نفعوا
كوثر: البركة فيك يا خويا، ما قلتش رايك ايه
برهان: بصي عايزة شقة باسمك ما عنديش مانع بس انا
ماليش دعوة بيها انتي اللي ح تتصرفي في الفلوس بتاعتها ومن غير ما تاثري على
مصاريف البيت
كوثر (بفرح شديد): تسلم لي يا برهان ربنا ما يحرمني منك
شعر برهان بالزهو الشديد، فنادرا ما كانت تجمعه لحظات سعادة وفرح في بيته
ومع كوثر، ومن داخله كان يقدر بالفعل شعور كوثر بعدم الأمان الذي لم يكن يدري له
سببا. ولكنه وافق على موضوع الشقة حتى تشعر بالأمان. فهو لا يريد ان يطلقها الطلقة
الثالثة؛ فرغم كل شيء هو يخاف على بناته ويحبهن ولن يرضى أن يجد من يتقدم لهن أن
أمهن مطلقة.
وبالفعل بحثت كوثر عن الشقة واستبدلت صندوق المعاش الخاص بها واقترضت من
البنك واشترت الشقة وجعلتها باسمها إلا أن برهان بعد أن وجد الاستقرار في الشقة
الجديدة أفضل وتنازل عن شقته لصاحب البيت وأصبحت شقة كوثر هي الشقة الوحيدة لهم
جميعا وكان يرى برهان أنه هو صاجب الفضل على كوثر وأن هذه الشقة بتعبه هو لا هي
وأنه تكرما منه تركها تكتبها باسمها .
وبعد الطلاق ظلت المناوشات بينهما حتى تمكنت كوثر في النهاية من شقتها التي
وضعت فيها كما تحب أن تقول "شقى عمرها". عادت كوثر من شرودها على
صوت فريدة ورحمة ينادونها "تيتة تيتة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق