الاثنين، 9 فبراير 2015

ضياع (الفصل الثالث عشر: حكايات البنات 4)



ما أصعب الشعور باليتم والأب على قيد الحياة حي يرزق، ما هذا الشعور. ما أصعب أن تفتقد السند وهو موجود، خاصة إذا كان هذا السند لأنثى، تعتبر والدها كل ما لها في الحياة، رغم قسوته، فهو الوالد والسند. إلا أن برهان أبى أن يكون لبناته هذا السند، وأراد لهن شعور اليتم والانكسار.
هذا ما شعرت به البنات عندما افتقدن والدهن ورأين منه الأحداث الأخيرة، لقد اختار البعد عنهن وترك ذكرى يتم وانكسار، كيف هانت عليه بناته وكيف تركهن هكذا، كيف اختار أن يبتعد ولكن بعد تشويه صورته لديهن وتشويه صورتهن أمام أزواجهن وأمام الجميع. فإذا لم يكن الأب هو مصدر الأمان والحماية لبناته، فمن سيكون إذاً؟! الزوج حتى وإن كان طيبا وحنونًا فحنان الأب مختلف من نوع آخر له شعور آخر ولذة أخرى.
رغم قسوة برهان على البنات ورغم تركه لهم عرضة للكثير من المشاكل بسبب تردده وقسوته وعدم فهمه للحياة، فهن أحببنه كما لم أحدًا والده من قبل، إلا أن برهان أن يعترف بهذا الحب وأهانهن أمام الجميع واتهمن بالجحود، حجود!!
تذكرت رضا وأخواتها مواقف كثيرة لوالدهن، لقد غلبهن الاشتياق إليه ولكنه اختفى من حياتهن للأبد، لقد كن يعرفن هذا من البداية وكان البديل أمامهم كما خيرهن ظلم والدتهن، فهو جعلهن بين امطرقة والسندان لا سبيل إلى الاختيار، فمن يختار بين والده ووالدته، ثم يتهمهن يالجحود لاختيارهن أن يقفن بجانب أمهن المظلومة معه دائما، فبعد مواقفه الأخيرة مع كوثر كان لابد من الوقوف بجانبها.
رضا: برضه يا بنات محدش عارف يوصل لبابا؟
هادية: أبدا، اختفى تمامًا مفيش أي صلة غير الإعلانات بتاعة القضايا اللي رافعها علينا
إيمان: انسوا هو خلاص قرر بعد كلامه معاكم لما قلتوا انكم مع أمكم
رضا: أصله ما ينفعش نعمل حاجة غير إننا نقف معاها وهي مظلومة كده، وبعدين طلب الطلاق حقها ومعنى إننا معاها في طلبها الطلاق مش إننا نقاطعه
إيمان: ليه انتي ناسية مكالمته معاكي انتي وجوزك؟
رضا: انسى! يومها كالعادة رن عشان اتصل بيه كلمني وزعق عشان ماما طالبة الطلاق وتمكينها من الشقة وعايزاه يسيبها، وقالي حددي ح تقفي مع مين، ساعتها ماما كانت عند هادية عشان ولادتها، وهدد إنه ح يضربها ويبهدلها عشان يربيها، قلت له مقدرش أشوف أمي بتتظلم وأسيبها، ما كانش ينفع
هادية: وأنا كمان قالي اختاري، ولما قلت له أنت أبويا وهي أمي، اتنرفز عليا وقالي انتم اللي أخترتم محدش يعيط في الآخر
إيمان: هو كان بيخيركم بينه وبينها، وانتي بالذات يا رضا ما كانش متوقع رد فعلك.
رضا: رد فعل ايه، إزاي يعني أشوف بهدلة أمي واسكت كان لازم انزل مصر وافتح بيتي عشان لما تنزل من السفر عن هادية تقعد عندي، ودا كمان كان رأي خالي سيف، ليه أسيبها تتبهدل، ومع ذلك لما نزلت رحت له أنا وفارس وقعدت معاه أتكلم وطردني يومها عشان قلت أنه ظلمها
هادية: مش عارفة بابا حسبها ازاي
رضا: يومها قال انه قال للناس كلها ان ولاده ماتوا وانه مالوش ولاد، اد ايه الكلمة جرحتني وتعبتني، واكتر منها لما قال لي اننا حاجدين
هادية: اتصل بيا وقال لي ربنا يوريكي من ولادك اللي بتعمليه فيا، رديت عليه يا رب ولادي يعاملوني زي ما بعاملكم ابقى فعلا عرفت أربي، اتضايق جدا وبهدلني وقفل
إيمان: كله كوم، واللي عمله في الآخر كوم تاني، الكلام اللي قاله لجوز رضا وخالها عليها والله أعلم قال ايه علينا احنا كمان وحلفانه انه يطلقنا من اجوازنا ويخرب بيتنا كوم تاني
هادية: لغاية دلوقتي مش مصدقة
رضا وإيمان معا: ولا احنا مصدقين
رضا: وحشني قوي يا بنات، بس حسيت اني مكسورة قوي، صعب قوي أحس اني يتيمة ماليش ضهر وأبويا على وش الدنيا
هادية وإيمان (بتأثر): واحنا كمان بس ما باليد حيلة، عملنا كل حاجة عشان نوصل له حتى عمتك كلمناها واسحملنا كلامها اللي زي السم وبرضه ما عرفناش مكانه
رضا (وقد بدأت تدمع عيناها): وحشني قوييييييييييييي
هادية (محتضنة رضا هي وإيمان): معلش بكرة يهدا ان شاء الله والأمور تتصلح
رضا: تفتكروا؟
إيمان: ما تقلقيش أكيد برضه ح قلبه هـ يحن
رضا (وهي تبكي): حاسة مش ح نشوفه تاني
احتضن الثلاثة بعضهن لشعورهن المشترك أنهن لن يرين والدهن مرة أخرى، وشعرن أنهن وكوثر كل ما تبقى من بقايا أسرة كانت يوما ما تحت سقف بيت واحد، أسرة مفككة ولكنها في النهاية كانت أسرة، تمر بكل ما يمر به كل بيت من مشاكل وأوقات عصيبة ونادرا أوقات فرح وشعور بالترابط.
تذكرت رضا لهفة الدها عليها عندما دخلت المستشفى لتجري جراحتا الزائدة والمرارة وكيف كان متلهفا عليها وكان ذلك قبل زواجها ولكنها تذكرت أيضا كيف غضب منها وجار عليها عندما تعب قلبها ودخلت المستشفى ولك يرأف بحالها. تذكرت كيف أهانها أمام زوجها في الكثير من المرات وكانت نظراتها تتوسل زوجها بعدم الرد، وكانت تعرف أن ذلك يجرحه كثيرا ولكنها كانت بين حبها لوالدها وحبها لزوجها. وتذكرت كم كانت تحبه رغم افتقادها الشعور بالأمان وهي معه، كانت تخاف أن تقول له أي شيء يخصها معاكسة، تحرش أو حتى مواقف قد يسء تفسيرها. لقد كان يضربها دائما ويحرقها أحيانا كنوع من العقاب ولاتزال آثار ذلك على جسدها حتى الآن وكم كان يضربها كثيرًا وهي مظلومة ولا يتركها إلا عندما تقول له ما يري هو أن يسمعه وليس الحقيقة، ولكنه في النهاية والدها وتعلم أنه كان يفعل ذلك حبا فيها. ولكن ما أصعب ذلك الحب الذي يعني القسوة. لا تنسى أبدا يوم طلبت منه أن يحتضنها لاحتياجها لذلك؛ فقال لها أن المشاعر ضعف ويأبى لها أن تكون ضعيفة، تبًا لمن علمه ذلك فبالتأكيد لم يكن بشرًا ولم تكن لدية مشاعر.
وتذكرت هادية مواقف والدها معها كيف أنه كان قاسي القلب، دائما ما يتهمها أنها ابنة أمها كيف تركها يوما بعد بداية عملها تخرج بلا نقود تكفيها للعودة للمنزل كل ما كانت تملكه يومها هو ثمن مواصلات ذهابها للعمل فقط لأنه يعتقد أنها تدخر الأموال الطائلة التي تتقاها ونسي أنها في النهاية موظفة حكومية ليس لها إلا راتبها، كم كان ذلك اليوم قاسيا تتذكره ولا تنساه. حتى بعد زواجها وسفرها للعمل بالخارج مع زوجها يرى أنها تدخر الكثير وتريد استغلاله.
أما إيمان فمنذ وعت على هذه الدنيا وهي ترى المشاكل والتفكك ولكنها لم تكن تدرك السبب حتى خبرت والدها وعلمت كم أنه قاسي القلب يحب النقود، متردد لا يمكن الاعتماد عليه تسبب لها في الكثير من الجرح والمشاكل حتى أنها اضطرت للعمل أثناء دراستها دون علمه لتغطي نفقات الدراسة ثم حدث وما قاله أثناء ولادتها الثانية، فهي منذ أدركت الدنيا تعرف أنها يتيمة رغم أن والدها على قيد الحياة.
ورغم ما تذكره الثلاثة لبرهان، إلا أن شعور الحنين إليه سيطر عليهن، رغم تشكيكه في بنوتهن بعد هذا السن؛ فهو الأب الذي حاول قدر ما استطاع وقدر ما علم في الحياة أن يربيهن ويعلمهن الحياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...