بعد أن قرر برهان الاختفاء عن الجميع وملاحقة بناته بالقضايا وما سببه لهن
من مشاكل، كان يهدف منها إلى إعادة تربيتهن مرة أخرى؛ فهو يرى أنه فشل في تربيتهن
ويريد إصلاح ما لم يستطع عمله سابقا، حتى لو أدى ذلك لطلاقهن فلابد أن يتعلمن قيمة
الأب ودوره في حياتهن.
كان برهان يشعر دائما أنه منبوذ وغير محبوب منهن جميعا، حتى كوثر زوجته
وعِشرة عمره، قضى معها عمرا طويلا لم يشعر يوما أنها تحبه أو حتى تحترمه. كان يقسو
على الجميع حتى يعلمهن، ولكنهن جميعا كنَّ جاحدات ناكرات للجميل والمعروف.
لقد كان يعلم في قرارة نفسه أنهن يصفنه بالبخل في كل شيء، البخل في
المصاريف والبخل في المشاعر والأحاسيس. آم منهن حاجدات الجميل، لم يرى في نفسه
يوما شخصا بخيلا ولكنه كان حريصا.
كان حريصا في مشاعره حتى لا يدلل بناته بالحد الذي يفسدهن به، خاصة وأنه
يرى كوثر تدللهن كثيرا، فكان لابد من الشدة والقسوة في التربية. هكذا تربى أن
البنت دائما تجلب العار ولابد من الشدة عليها وضربها لتتأدب ولا ينسى المثل الشهير
"اكسر للبنت ضلع يطلع لها 24". هكذا كان يفكر ويرى كل شيء، كان يرى
ويعتقد أن البنات إذا لم يضربن ويتأدبّن جيدا ستفسدن أخلاقهن ولم يتعلمن جيدا ولن
يتزوجن زواجا يشرفه.
تعلم برهان في حياته أيضا أن ينفق بحرص شديد، فقد شهد أياما كثيرة لم يكن
يجد فيه مليما واحدا ينفقه، كان أحيانا يضطر إذا زار أحد من أصدقائه أن يعود سيرا
على الأقدام لأنه لم يكن يجد ما يركب به المواصلات. هكذا تعلم قيمة النقود وقيمة
المال، هكذا تعلم أنه لابد أن يكون حريصا في نفقاته ولا مانع إذا كان هناك من ينفق
بدلا منه ليفعل إذا.
كان يعطي بناته مصروفا ضئيلا لا يكفي أن يشترين به أي شيء، ولكن هذا المبلغ
كان دائما ما يقارنه بما كان هو يأخذه وهو في مثل سنهن وبالتالي هن يأخذن مبلغا
طائلا. لم يكن يعي أثناء اعطائهن المصروف تغير الزمن وأن المال قيمته تقل.
كان برهان يحب بناته بشدة، ولكن هذا الحب لم يشعر به أحد، كان دائما ما
يقول لهم ولنفسه "يالهم من جاحدين ناكري الجميل". هكذا كان يراهن جميعا،
لا ينسى هذا اليوم وما قالته له كوثر ورضا
بيت برهان 2005
كوثر: برهان انت بقيت عصبي قوي، مالك هو دا عشان ولا عشان
ايه؟
رضا: بابا ايه رايك لو تشتغل، خد مبلغ صغير من مكافأة
المعاش واعمل مشروع صغير يشغلك
برهان: فين العصبية دي، انتم اللي بيتهيألكم اني
عصبي. وبعدين مشروع ايه اللي اعمله افرضي خسرت
رضا: اي مشروع معرض للمكسب والخسارة بس احنا بنعمل اللي
علينا ونعمل دراسة للسوق وايه اللي محتاجه ونعرف نعمل فيه ايه
برهان: وانا اعمل الدراسة دي ازاي ان شاء الله
رضا: مش انت اللي بتعملها في مكاتب كتير شغلها في دراسات
السوق والجدوى
برهان: يعني ياخدو مني فلوس وانا اضمنهم منين،
واضمن كلامهم، ولو عملت مشروع اضمن اللي يقف معايا فيه منين، مفيش حد امين
رضا: جينا لمربط الفرس يا بابا، انت مش بتثق في اي حد حتى
صوابع ايديك
برهان: أنا عمري ما وثقت في حد حتى نفسي، دا طبعي
رضا: دا اسمه مرض يا بابا ومحتاج علاج، انت بقيت عصبي وبتشك
في كل الناس وبتتصرف على اساس شكك فيهم وخوفك منهم
برهان: هو انتي اللي ح تعلميني يا بنت امبارح اعمل
ايه وما اعملش ايه، وبعدين دايما بطلع صح وانتم اللي غلط
رضا: مش دايما يا بابا ساعات بتكون فعلا على حق، وساعات
كتيرة قوي بتكون غلط وبتخسر ناس كويسة ، اديك طلعت على المعاش حتى زمايلك في الشغل
بيتهربوا من مقابلتك. اسمع كلامي وجرب الدكتور اللي قلت لك عليه قبل كده، هما كام
يوم في المصحة خضرة وهوا وتبقى كويس
برهان (وبدأ يظهر عليه الغضب): هو أنا مجنون يا متربية، فعلا اصلي عرفت
اربي. حتى لو مجنون أبوكوا غصب عنكم تستحملوني من غير شكوى
رضا: يا بابا أنا خايفة عليك، اللي عندك دا وسواس قهري وأنت
نفسك اعترفت بدا قبل كده وبدأ يتطور معاك جامد، أنا فعلا خايفة عليك
برهان (بعصبية): أنا حر في نفسي ان شاء الله أموت ولا أولع
بجاز وغصب عنكم مش بمزاجكم تستحملوا
كوثر: يا برهان البت خايفة عليك، وانت اللي طلبت منها قبل
كده تسأل لك على دكتور كويس
برهان: انتي ح تألفي انتي كمان، أنا قلت حاجة،
أنتم عايزين تجننوني بالعافية عشان تاخدوا القرشين بتوع المعاش. عايزين تسرقوني دا
بعدكم
وأنهى برهان الحديث معهم وهو يعرف يقينا أنه من طلب منها اسم طبيب ومكان
العيادة، ولكن كيف يثق أنها لن تستغل هذا الموقف ضده وترفع ضده قضية تحجر بها على
أمواله وتصرفاته.
الآن
والآن يجلس برهان وحيدا في شقة إيجار جديد حصل عليها بعد أن ترك لكوثر
الشقة الأخرى، التي تحمل ذكرياته وذكريات البنات وذكرى الحفيدات "يا لهن من
جاحدات". لقد رضين بطرده من الشقة، وطلاق أمهن منه، لم تخاف أي منهن على
مظهرها أمام زوجها وأهله عندما تطلق أمها في هذا السن، كيف يحدث ذلك.
ولكن ما كان يشغل برهان حقا، كيف رضي أن يكون محاميه الذي يرفع له الدعاوى
القضائية هو نفسه من كسر قلب ابنته؟ لم يستطع برهان أن يجد إجابة عن ذلك السؤال،
ولا وجد إجابة على سؤال آخر ألح عليه، لماذا ترك بتاته وقسى عليهن لتلك الدرجة
واشترى اخته وابنتها وها هي الآن تركته وتنصلت منه. بل قالت له أن كوثر لها الجنة
لتحملها له كل هذه السنون، أكانت كوثر على حق وهو المريض حقا؟ أكان يجب أن يتعالج؟
لقد ذهب من وراء الجميع لطبيب نفسي كبير يسمع عنه في التليفزيون وقال له أنه مصاب
بانفصام بارانوي حاد لم يفهم برهان معنى ذلك وعندما سأله عن معناه قال له الطبيب
معنى ذلك أنك تفعل أشياء كثيرة دون أن تدركها أثناء فعلها ثم تنسى أنك فعلتها
وترتاب في الآخرين إلى جانب إصابتك بالوسواس القهري ومعنى ذلك ضرورة علاجك لأنك قد
تنتحر دون أن تدري أو أن تقتل دون إدراك لذلك.
خرج برهان من عيادة الطبيب وهو يسبه ويلعنه وينعته بأقدح الألفاظ، وقال في
نفسه لابد أن كوثر وبناتها عرفوا أنه قد يذهب إليه وقالوا له ذلك. إنه سليم معافى
ولا شيء فيه، لكنه لا يذكر ما قالته كوثر وكان عليه من الشهود أنه كان يشك فيها
واتهمها في شرفها، كيف يفعل ذلك وهي زوجته وسمعتها من سمعته؟ مجنونة هي بالتأكيد
لتقول ذلك. وكذلك كيف يقول له الجميع أنه قال على ابنته رضا حبيبة قلبه وأقرب
بناته إليه أنها سيئة السير والسلوك، ما هذا الجنون الذي يحيط به، إنهم جميعا
مجانين.
شعر برهان بألم شديد في معدته وصحب ذلك تقيء وشعور بالغثيان، ثم وجد بجانبه
علبة دواء فارغة، ماذا حدث لا يذكر ولما هي فارغة لا يذكر. إنه يذكر فقط أنه يشعر
بالضياع والوحدة بعيدا عن زوجته وبناته ولا جرأة لديه ليعود لهن، مازال يحتفظ
بكبريائه هن من يجب أن يبحثن عنه، وعاد لنفسه مرة أخرى، كيف السبيل لهن لذلك وهو
أغلق في وجههن كل الطرق ولا يعرف أحدا طريقه الآن حتى تفيدة والمحامي لا يعرف أحدا
منهم طريقه.
اشتد الألم على برهان فأمسك بهاتفه واتصل وكتب عنوانه في رسالة أرسلها إلى
رضا وغاب عن الوعي.
منزل كوثر
رضا: يا بنات جت لي رسالة فيها عنوان، وكلمة الحقيني مش
عارفة أعمل ايه؟
فارس: ممكن يكون بابا يا رضا لازم نتصرف بسرعة
رضا: اعمل ايه؟
فارس: قومي البسي بسرعة وأنا جاي معاكي
أمجد: انا كمان جاي عشان معايا عربية نقدر نكسب وقت الساعة
دلوقتي 2 الفجر
محمود: أنا كمان جاي معاكم بس رايي رضا ما تجيش ما
نضمنش مين اللي بعت الرسالة وإذا كان برهان فعلا ولا لأ
رضا: قلبي مش مطمن يا جماعة ح آجي معاكم واللي يحصل يحصل
كوثر: أنا كمان قلبي مش مطمن طمنوني عليكم فيه ايه وياله
بسرعة ليكون برهان تعبان بجد ولا فيه حاجة
وبالفعل وصل أمجد ومحمود وفارس ورضا للعنوان المكتوب في الرسالة، ونزلوا من
السيارة وكانت هناك حركة غريبة في المكان وصوت سيارة اسعاف يقترب، اقترب فارس من
أحد الجيران يسأله عن برهان
فارس: هو استاذ برهان ساكن هنا
الجار: ايوة يا بيه انت تقرب له؟
فارس: ايوة انا ابنه هو فين ؟
الجار: انت ما درتش يا بيه؟ دا تعب قوي كان ماسك
التليفون في ايده وخبط على الباب عندي ووقع من طوله وكان حالته وحشة وبيرجع
فارس: وبعدين ايه اللي حصل
الجار: دخلناه الشقة واتصلنا بالاسعاف، لما جت
قالوا مات وما رضيوش ياخدوه
عندما سمعت رضا هذه الكلمة لم تصدق ودخلت الشقة تبحث عنه، لم يشعر بها أحد
وهي تدخل غرفته وتقبل يده لم تصدق أنه توفى بعيدا عنها وعن أخواتها بكت كما كانت
تبكي من قبل دون صوت كانت تستعطفه أن يكلمها وأنها إذا كان طلاقها من زوجها هو
غايته ستفعلها ولكن يكلمها يعود إليها، إنها لا تحتمل فراقه حاولت أن تستجديه بكل
طريقة ليتحدث إليها لينهرها ولكنه لم يفعل، وجدت على الأرض علبة دواء فارغة وريحة
القيء التي ملت المكان فصرخت
رضا: فاااااااااااااااااااااااااااااااارس
هرع إليها الجميع، فارتمت في حضن فارس وهي تقول له : بابا انتحر
نظر إليها فارس نظرة تعجب: ازاي
رضا تشير إلى علبة الدواء الملقاة على الأرض: بص دي
بعد أن علم فارس ومحمود وأمجد بالوضع كان لابد من الاتصال بالشرطة، فأي
طبيب يوقع الكشف عليه لاستخراج تصريح الدفن سيعرف أنه توفى نتيجة تسمم لذا لابد من
الاتصال بالشرطة، واتصلت رضا بكوثر ابلغتها الخبر السيء.
لم تستوعب كوثر خبر الوفاة، لقد شعرت بحزن شديد لم تتوقع أنها تشعر به تجاه
برهان بسبب ما سببه لها آلام، ولكن هي العشرة والعمر الذي قضياه معا. أما البنات
لم تستوعب أي منهما الخبر وظنا أن هناك خطأ وأن والدهم لابد على قيد الحياة وأن
ينقلوه لأية مستشفى توقع الكشف عليه، لم تقل رضا لأمها أن برهان مات منتحرا تركت
ذلك حتى يذهب إليهن أمجد بالسيارة ليحضرن ويلقين نظرة الوداع على برهان.
حضر الجميع وكذا حضرت الشرطة وتم التصريح بالدفن، لقد حدث ما كان يخشى منه
الجميع. لقد انتحر برهان بسبب الوحدة والاكتئاب، انتحر دون أن يشعر. انتحر لشعوره
بالضياع، لقد كان هو من يشعر بالضياع لقد وجدت كوثر نفسها بعد الطلاق وعادت من
ضياعها أما البنات فوجدن أنفسهن في أزواجهن وبيوتهن، أما برهان فظل هكذا يشعر
بالضياع حتى قتل نفسه بنفسه.
لقد مات وحيدا لا أحد معه، كما عاش وحيدا يبعد الجميع عنه. ورغم شعور إيمان
لما لاقته من والدها أنها أبدا لن تحزن عليه إذا أصابه سوء لقد كانت أكثر من حزن
عليه خاصة عندما سألتها فريدة " ماما تدو فين، عايزة اشوفه" انهارت
إيمان في هيستريا من البكاء لم تعرف سببها ولكن كانت تشعر باشتياق لوالدها.
لقد فارق برهان الحياة وهو يشعر بالضياع، ويشعر أن الجميع تخلى عنه وباعه.
إلا أن الحقيقة التي كان يأبى برهان الاعتراف بها، أنه هو من باع الجميع وأبعدهم
عنه. نسى برهان قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ
لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ
مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ
اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾ ونسى أيضا أن الله سبحانه وتعالى قال عن الزواج " وَمِنْ آيَاتِهِ
أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ
بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"
--------------------------------- تمت --------------------------------------------------