السبت، 30 يناير 2021

الفصل الثاني


 تعيش مع زوجها في شقة متوسطة مكونة من حجرتان وصالة كبيرة تتسع لغرفتي السفرة والصالون، والحجرة الكبرى خصصتها لغرفة نومها والثانية غرفة نوم للضيوف وتحولت لغرفة لولدها عندما حملت به، ومطبخ كبير وحمام، تقع شقتها في حي السيدة زينب، حيث تزوجت هناك، وتركت الحجرة التي كانت تعيش بها قبل زواجها من فارس في بين السرايات.

تذكرت ولاء كيف تعرفت ولاء على فارس في العمل، كان زميل لها في العمل يعمل في إدارة أخرى غير إداراتها ولكنه كان يزور زميل له بالإدارة التي تعمل بها، وعلمت أنه يسأل عنها منذ رآها، وتذكرت كيف طلبها للزواج.

في العمل منذ ما يزيد عن خمس سنوات..

فارس: أستاذة ولاء ممكن أتكلم مع حضرتك شوية؟

ولاء: طبعًا اتفضل.

فارس: أنا أسف مش هينفع نتكلم هنا ممكن أشوف حضرتك في أي مكان بعد انتهاء العمل؟ صدقيني مش هعطلك بس الأمر مهم.

ولاء (خافت كل ما جال بخاطرها وقتها أنه علم عنها شيئًا): حاضر، بس أنا ما اعرفش مكان اختار حضرتك المكان بس لو سمحت مش عايزة حد من زمايلنا يشوفنا مع بعض.

فارس: حاضر عارفة الكافيه اللي على أول الشارع؟

ولاء: أيوه.

فارس: تمام نتقابل هناك بعد الشغل على طول.

ولاء: حاضر.

خافت ولاء أن يكون فارس عرف عنها شيئًا وعن تربيتها في دار الأيتام، ثم طردت هذه الفكرة من عقلها، فكيف له أن يعرف وهذه الأوراق معها هي وأصبحت في طي النسيان بعد أن التحقت بالعمل، ثم خافت أن يكون سبب طلبه لقائها أن يُمضي معها بعض الوقت ويتركها؛ فهي لا تزال تعتقد أن الجميع يرى فيها صيدًا سائغًا لوفاة والديها؛ رغم أنهم يعرفون أنها تعيش مع عمتها، ترددت كثيرًا أن تذهب للقائه ولكنها حسمت أمرها في النهاية، ستذهب وتعرف ما يريد وإن كانت الأولى أو الثانية فليُلهمها الله ما تفعله.

بعد انتهاء مواعيد العمل، كانت ولاء قد حسمت أمرها بالذهاب لرؤية فارس ومعرفة ما يريده، وكان ما يشجعها في ذلك النظرات التي كانت تراها من فارس، نظرات كانت تشعر فيها بعاطفة ما تجاهها، كما سمعت بعضًا من حديثه مع علي صديقه وهو يسأله عنها، وفارس معروف عنه في العمل تقواه وخشيته من الله، لذا فقد طمأنها ذلك أنه لا يريد بها شرًا وذهبت بالفعل للقائه.

كافيه قريب من العمل..

ولاء: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فارس: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، كنت قلقان وخايف إنك متجيش، أنا أسف اتفضلي اقعدي.

ولاء: أنا فعلًا مكنتش جاية، بس حبيت أعرف إيه الكلام اللي مينفعش يتقال في الشغل.

فارس: أستاذة ولاء بصراحة ومن غير لف ولا دوران أنا بحبك وعايز أتقدم لك ونتجوز، حضرتك موافقة؟

ألجمت المفاجأة ولاء وعقدت لسانها، ولكنها دون قصد منها تورد وجهها خجلًا ونظرت للأرض، كادت أن توافق ولكنها كأنها تذكرت فجأة ظروفها، التي أنستها لها مفاجأة فارس، فتغير وجهها فجأة وتغيرت ملامحها دون أن تدري لملامح حزن، رأى فارس كل ذلك فظن أنها تفكر كيف ترفض فعاجلها قائلًا:

فارس: لو محرجة توافقي أو في حد تاني مفيش حرج إنك ترفضي، أنا بس حبيت أرفع الحرج عنك واتكلمت معاكِ مباشرةً.

ولاء (وهي متلعثمة لا تدري كيف ستقول له ما ستقوله): أستاذ فارس قبل أي حاجة أنا مش مرتبطة، الحاجة التانية قبل ما أقول آه أو لأ في ظروف لازم حضرتك تعرفها الأول وبعدها نقرر إذا كان الزواج هيتم أو لأ.

فارس (وقد خاف مما سيأتي بعد هذه الكلمات، ولكن حبه لها جعله يأخذ قرار الاستماع حتى النهاية): اتفضلي حضرتك أنا سامع وتأكدي مهما كان اللي هسمعه مش هيخرج لحد تالت مهما كانت الظروف.

ولاء: مبدئيا يهمني إن محدش في الشغل يعرف حاجة من اللي هقولها دلوقتي.

فارس: اعتبري إن محدش عرف.

ولاء: أستاذ فارس في الشغل طبعًا كلكم عارفين إني يتيمة وعايشة مع عمتي، مبدئيًا أنا يتيمة فعلًا بس أنا عايشة لوحدي لأني مليش حد خالص.

فارس: طب وإيه المشكلة في ده؟

ولاء: ممكن أكمل كلامي للنهاية؟

فارس: أنا أسف اتفضلي.

ولاء: أنا اتربيت في دار للأيتام، لما كبرت عرفت إني كنت الناجية الوحيدة لحادث تصادم أتوبيس مع سيارة ملاكي، أنا كنت في الملاكي مع والدي ووالدتي كان عمري زي ما عرفت من المحضر المرفق بدخولي الدار أسبوع، وكان في سلسلة في رقبتي عليها اسمي ولاء، وهي لسه معايا لغاية النهاردة، محدش عرف يوصل لأهلي لأن أهل والدي هاجروا من فترة طويلة ومحدش عرف مكانهم فين بالظبط كل اللي أعرفه إنهم هاجروا لأستراليا قبل زواج والدي بعشر سنين وإن والدي وقتها كان في الجيش ومعرفش ياخد إعفاء وكمل وبعدها قرر إنه يعيش في مصر وميسافرش.

 اتعرف بعد فترة على والدتي وكانت يتيمة كانوا من أسرة متوسطة والدها اتوفى وهي عمرها سنتين ووالدتها اتوفت وهي بتولدها وعمتها ربتها وعمتها نفسها اتوفت قبل ولادتي أنا، مكانش لينا حد تاني وأهلي ادفنوا في مقابر الصدقة وأنا اتحولت على دار الأيتام، أو الملجأ زي ما كانوا بيقولوا في المدرسة، أنا حتى معرفش شكل أهلي إيه؟! هي دي ظروفي اللي حبيت حضرتك تعرفها، أنا مقطوعة من شجرة ومليش حد في الدنيا خالص واتربيت في ملجأ.

فارس: وإيه المشكلة في الكلام ده ليه خبيتي؟!

ولاء: عشان احنا في مجتمع بيشوف إن الست فريسة ليه، ولما تكون وحيدة ومالهاش حد الكل هيطمع فيها، عشان كده كان لازم في الشغل يعرفوا إني ليا أهل.

فارس: بصي بقى، أنا سيبتك تتكلمي وتخلصي كلامك، كل اللي قولتيه ده مغيرش حاجة، كونك يتيمة ده مش ذنبك، وكونك اتربيتي في دار أيتام عشان مفيش حد يتكفل بيكي برضه مش ذنبك وكل ده مش هيغير حاجة في طلبي للجواز منك، أنا حبيتك إنتِ زي ما إنتِ كده، وكمان حبيت أخلاقك وأنا بكرر كلامي تاني وبسألك إنتِ موافقة على الجواز مني؟

تورد وجه ولاء للمرة الثانية ولكن هذه المرة كان تورد الموافقة الخجلة، لم يغير ما قالته شيء في حال فارس ورغبته في الزواج منها، لقد زادت فرحتها عندما لم يهتم لكونها يتيمة وتربت في دار للأيتام، ولم تصدق نفسها من الفرحة عندما علمت بحبه لها لأخلاقها وحيائها الشديد، لقد كان يؤمن بكلام الله فلا يقهر يتيمًا ولا يعير لقيطًا، وكان يُفرق بين اليتيم واللقيط، ولكنه في ذات الوقت لا يجرح أحد ولا يعيره بما ليس له يد فيه، كان فارس بالنسبة لها فارس الأحلام الذي تحلم به أية فتاة، خاصة من لها نفس ظروفها.

أخفى فارس عن زملائه حقيقة ولاء ومكان تربيتها، وترك زملاءها يعتقدون أنها تعيش مع عمتها كما أخبرتهم هي في بداية تعيينها؛ حيث أرادت أن تشعر لأول مرة في حياتها أنها فتاة عادية طبيعية مثل كل الفتيات.

لم تحب والدة فارس ارتباط ولدها بفتاة لا حسب لها ولا نسب؛ وخاصة إذا كانت من الملجأ، إلا أن فارسًا أصر على الزواج من ولاء، ولكي يحفظ سر ولاء كان الزواج في حفل صغير لا يشمل غير عائلته، ولم يدعُ أي شخص من أصدقائه أو زملائه في العمل.

رغم رفض والدة فارس زواج ابنها من ولاء، فإنها لم تستطع أن تهينها أمام فارس حرصًا على مشاعر ولدها وخوفًا من ردة فعله إذا هي أهانتها أمامه؛ لذا كانت زيارة ولاء قليلة لحماتها ولا يزيد الكلام بينهما عن سؤال واجب عن الأحوال، إلا أن والدة فارس كانت تصر على زيارة فارس والمبيت عنده لأيام طويلة تحاول فيها مضايقة ولاء وتأنيبها على تأخر حملها، الذي حدث بعد مرور ثلاث سنوات من زواجها، سمعت خلالها توبيخًا من حماتها وأختيه علياء وهدير، كانت تخفيه عن فارس حرصًا على علاقته مع عائلته.

الأربعاء، 27 يناير 2021

اليتيمة

 


زوجي الحبيب

أكتب إليك هذا الخطاب لأودعك وأودع هذه الحياة، صدقًا لم أعد أحتمل أن أعيش على ذلك المنوال، لقد فقدت السيطرة على نفسي، لم أعد قادرة على تحمل تقلبات هذه الحياة وتقلباتي معها؛ لذا قررت أن أبحث عن الحياة التي أحبها في الدار الآخرة.

لم أعد أحتمل العبء الذي أضعه على عاتقك بسبب مرضي، أريد لك حياة هانئة مليئة بالهدوء والحب، وهو ما فشلت أنا في تحقيقه. لقد سئمت ذلك الكابوس الجاثم على صدري، كما أنني لم أعد أحتمل تلك الهلاوس التي تنتابني من حين إلى آخر، لم أعد قادرة على التمييز بين الواقع والخيال، لم أعد أعرف هل أنام حقًا أم يُهيأ لي ذلك؟

أريد الموت فعلًا لأستريح من تلك الحياة البائسة التي أعيشها والتي حولت حياتك لجحيم، من فضلك ابحث عن أخرى تحبك وتوفر لك الحياة التي لم أستطع أن أوفرها لك، لا تحاول البحث عني، وسامحني عما سببته لك من الألم.

حبيبتك ولاء

وضعت ولاء الخطاب الذي كتبته لزوجها فارس على الفراش ليراه عندما يعود من عمله، لأول مرة تقرر أن تبتعد عنه بعد زواج دام أكثر من خمس سنوات، رغم حبها له قررت أن تتركه، لم تعد تحتمل ما تسببه له من ألم بسبب سوء حالتها النفسية وتلك الهلاوس التي تصيبها، وذلك الكابوس الجاثم على صدرها والذي لم يتركها يومًا.

لقد اتخذت قرارها أخيرًا بالرحيل، رحيلًا لا تعلم حتى الآن إلى أين سينتهي؟ ومتى سينتهي؟ فالحياة وأنت ميت من داخلك ليست حياة؛ إنما هي الموت بعينه، لقد تساوت لديها الأشياء، فلا شيء مُفرح ولا آخر مُحزن، لا طعم لشيء، فالحياة نفسها لم تعد تعني لها شيء، فكان قرار الرحيل.

كانت ولاء متعايشة مع ذلك الكابوس، وكان وليدها وزوجها ينسيانها وجوده مؤقتًا، ولكن منذ مات وليدها منذ عام لم تعد ولاء كما كانت، حزنت على وليدها الذي توفى بعد ولادته بشهرين، لم تستطع تقبل موته هكذا بدون سابق إنذار، ومنذ وفاته وهي تعالج نفسيًا لدى أحد أشهر الأطباء النفسيين في مصر؛ وبسبب علاجها الذي قارب على العام أصبحت تشعر أنها عبء على زوجها، وعبء على الحياة ذاتها، أقبلت على الانتحار كثيرًا ولكنها كانت تتراجع في اللحظة الأخيرة، سيطرت فكرة الموت عليها، أحيانًا يكون الموت راحة من آلام هذه الحياة، ولكن الموت والحياة ليست بأيدي البشر، لذا فكرت أن تترك زوجها وحياتها ورائها وتذهب بلا عودة، لا تعلم أين ستذهب ولا ماذا ستفعل، ولكنها ستذهب وكفى، لن تترك فرصة لفارس كي يجدها، فهو يستحق حياة هادئة هانئة مع زوجة تحبه وتوفر له الجو المناسب للعمل والحياة.

منذ وفاة أحمد -ولدها- زادت مرات زيارة ذلك الكابوس لها عما اعتادت عليه، كثيرًا ما كانت تستيقظ على صوت صرخاتها، لا يزال ذات الكابوس يُصر على أن يطاردها، لم يتركها يومًا طوال سنوات عمرها الثلاثون، ذات الكابوس الذي تراه كلما أغمضت عينها؛ حتى أصبحت تخاف النوم.

إنها ولاء محمد سمير عبد الواحد، ولاء فتاة ذات ملامح مصرية، خمرية اللون، محجبة وملتزمة بالزي الشرعي، سوداء الشعر، ينسدل شعرها الناعم ليُغطي كامل ظهرها، عيونها سوداء واسعة وأهدابها كثيفة وطويلة تحب النظر إليها، خاصة مع تناسبها مع رسمة أنفها الصغيرة ووجهها المستدير، طويلة ونحيفة، ملابسها بسيطة دائمًا، تعكس ألوانها حالة الحزن الدائم وعدم الشعور بالأمان، أنهت ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة بتقدير عام جيد جدًا وكانت من العشر الأوائل على دفعتها؛ لذا التحقت بالعمل في أحد المصالح الحكومية، حيث تلتزم الحكومة بتعيين العشر الأوائل من كل كلية وجامعة.

كانت ولاء يتيمة الوالدين وتربت في دار للأيتام، لم تكن تعرف ولاء أن حظها العسر هو ما وضعها في تلك الظروف، كما لم تكن تعرف في ذلك الوقت أن وفاة والديها وتربيتها في دار للأيتام ستكون وصمة عار -من وجهة نظر المجتمع- تُعير بها طوال حياتها.

حيث بدأت معاناة ولاء عندما وصلت لسن المدرسة، لم تكن معاناة لها وحدها فقط، ولكن معاناة لكل من جعلته ظروفه يلتحق بدار للأيتام، -الملجأ- كما اعتادت سماع هذه الكلمة ابتعد عنها الطلبة، بجانب النظرات الجارحة من ذويهم، وتعمد بعض المدرسين معايرتها بأنها لقيطة، ولكنها ليست كذلك، لقد شاء الله أن يموت والديها في الحادث وتبقى هي وحدها تصارع هذه الحياة، بلا أم تحن عليها ولا أب يُشعرها بالأمان.

عاشت هذه المعاناة حتى تخرجت من الجامعة وكانت متفوقة مما أهلها للعمل موظفة في الشئون القانونية بأحد المصالح الحكومية، ولأول مرة استطاعت ولاء أن تخفي حقيقة أنها تربت في دار للأيتام؛ حيث أن مصوغات التعيين المطلوبة منها شهادة ميلادها موجودة ومذكور بها اسم والديها وكذا شهادات إتمامها مراحل التعليم وهي لحسن حظها أنها لم تحتج أن تذكر أنها تربت في دار للأيتام، فلأول مرة لا يذكر أن ولي أمرها دار الأيتام، لأول مرة منذ أنهت تعليمها لا يكون هناك مجال لأوراق الملجأ في أوراقها.

لم تكوِّن ولاء أية صداقات في الكلية أو العمل؛ فهي تعرف مسبقًا مصير هذه الصداقة، معايرة لها بشيء ليس لها فيه يد، وهناك -في العمل- تعرفت على فارس، الذي أُعجب بها وطلب يدها للزواج.

 

الفصل الثالث والأربعون الأخير

  قرر اخوة علاء عدم زيارته مرة أخرى وغلق باب القرابة أمامهما، لم يفهم علاء السبب وكذا ميساء ولكنهما لم يحزنا كثيرا لأن هناك خبرا آخر جعل علا...